هناك الأممالمتحدة، وهناك الذين يتهمونها، وكنت أفضل لو كتبت مقالاً واحداً طويلاً عن الموضوع، او مقالين ينشران جنباً الى جنب، وأترك للقارئ ان يقرر بعد ذلك أي الطرفين اكثر فساداً، وأيهما يجب ان يعزل او يحاكم. غير انني أبدأ اليوم بالأممالمتحدة وبرنامج النفط مقابل الغذاء، وأكمل غداً باستباحة العراق شعباً ومالاً تحت شعار تحريره. أكتب بعد ايام من صدور تقرير بول فولكر عما اصبح يعرف بفضيحة النفط مقابل الغذاء، وبعد قراءتي تعليقات كثيرة عليه، بعضها يدين المعلقين. والمعروف ان الامين العام للأمم المتحدة كوفي أنان طلب من فولكر، وهو الرئيس الاسبق للاحتياط الفيديرالي الاميركي، أي المصرف المركزي، ان يترأس تحقيقاً في الفضيحة. التقرير دان كثيرين من كبار المسؤولين في الاممالمتحدة وبرأ أنان شخصياً من الافادة او استغلال مركزه لمساعدة ابنه كوجو الذي عمل مستشاراً لشركة سويسرية راقبت البرنامج، وقبض الابن اجراً نحو نصف مليون دولار، ونالت الشركة عقداً بعشرة ملايين دولار. وانتقد التقرير اقبال رضا مدير موظفي الامين العام، فهو مزق اوراقاً رسمية في 22-4-2004، بعد يوم واحد من موافقة مجلس الأمن الدولي على اختيار أنان لرئاسة لجنة التحقيق بول فولكر. كما انتقد ديليب نايير الامين العام المساعد لدفع مرتب موظفة من المال العراقي، وجوزف ستيفانيوس، رئيس شؤون مجلس الامن الدولي الذي يشرف على اعطاء العقود، وبينون سيفان وهو قبرصي أدار البرنامج من 1997 حتى توقفه سنة 2003، وبالنسبة الى أنان شخصياً فقد قال التقرير ان لا أدلة كافية عنده على علاقة الامين العام بعمل ابنه كوجو الذي بقي مع شركة كوتنكو السويسرية من 1995 الى 1998 عندما فازت بالعقد العراقي. التقرير الصادر هو التقرير الموقت الثاني للجنة فولكر، ويقع في 135 صفحة، أما التقرير النهائي فسيصدر في الصيف. وقد اعلنت الادارة الاميركية مرة اخرى ثقتها بالأمين العام وعمله، وقال سكوت ماكليلان، الناطق بلسان البيت الابيض ان الادارة"تؤيد الامين العام وعمله في الأممالمتحدة". مع ذلك قررت عصابة المحافظين الجدد ان التقرير دان أنان، وطالبت برأسه، كما فعل بعض اعضاء مجلسي الكونغرس. وكان السناتور توم كولمان، رئيس اللجنة الفرعية للأمن الداخلي وشؤون الحكومة، طالب قبل أشهر باستقالة أنان، وعاد بعد صدور التقرير وطالب هذا الاسبوع من جديد باستقالته، ما ينفي الموضوعية عن موقفه، فهو ينتقد الأممالمتحدة وأمينها العام قبل نهاية التحقيق. والواقع ان موقف العصابة اليمينية من الاممالمتحدة يدين نفسه، فهناك ثمانية تحقيقات في واشنطن ونيويورك حول برنامج النفط مقابل الغذاء، منها خمسة تحقيقات في الكونغرس. هل يستحق الموضوع كل هذه التحقيقات؟ أولاً هو يتحدث عن استغلال مسؤولين دوليين نفوذهم للافادة الشخصية، وثانياً فهو يتحدث عن"سرقة"صدام حسين اموالاً من برنامج النفط مقابل الغذاء. أكثر الناس يستغل منصبه اما لفائدته الشخصية، او لفائدة اصدقائه وأقاربه، وهذا خطأ الا انه جنحة لا جناية، خصوصاً مقارنة بالجرائم التي ارتكبها ويرتكبها المتهمون كل يوم، فما هو اسوأ: سرقة نصف مليون دولار، او قتل 20 عراقياً بريئاً كل يوم. اما دور صدام حسين في الفضيحة فأكثر غرابة، لأنه كان رئيس العراق حتى ونحن ندينه ونريد اطاحته، وما"سرق"كان اموال العراق، لا الولاياتالمتحدة او أي بلد آخر. متى اصبح البرنامج فضيحة؟ كتبت في هذه الزاوية، في خريف 2002، عن السرقات في برنامج النفط مقابل الغذاء، بعد ان زرت كردستان العراق وتحدثت مع الأخ مسعود بارزاني والأخ جلال طالباني، كل على حدة، وهما حكيا لي عن السرقات والهدر في البرنامج، ونقلت كلامهما منسوباً اليهما، ولم يكن هناك سر في الموضوع، ولم اعتقد بأنني طلعت بسبق صحافي. غير ان القضية اثيرت كفضيحة فقط عندما عارض كوفي أنان الحرب على العراق، وقال انها غير شرعية، وفجأة اصبح الامين العام والمنظمة العالمية هدف سهام المحافظين الجدد واليمينيين في الادارة وحولها، وقرر الليكودي وليام سافاير ان هناك"أنان غيت". لن ادافع هنا عن أنان او الاممالمتحدة، فهناك فساد محيط ببرنامج النفط مقابل الغداء، ويجب ان يحاسب الفاسدون. ايضاً لا اخفف من اهمية المخالفات عندما اقارنها باستباحة الاميركيين العراق بعد سقوط صدام حسين، فالخطأ الكبير لا يبرر الخطأ الاصغر. اكتب منتقداً الجهات الاميركية الرسمية والليكودية التي جعلت من برنامج النفط مقابل الغذاء فضيحة مدوية، وسكتت عن ممارسات سلطة الاحتلال التي احملها مسؤولية سرقات في يوم واحد قد تزيد على كل هدر برنامج النفط مقابل الغذاء في ست سنوات. وتتراجع السرقات بالألوف او الملايين والبلايين امام القتل، والمسؤولون الفاسدون في الاممالمتحدة لم يقتلوا احداً، ولكن الاحتلال ترك سجلاً اسود من القتل غير المبرر، وفي كل يوم خبر جديد او فضيحة. وكان اتحاد الحقوق المدنية الاميركية اصدر قبل شهرين تقريراً من نوع ما حدث في سجن ابو غريب، فقد تحدث عن تعذيب مدنيين بالكهرباء وعمليات اغتصاب، أسوأ ما فيها عدم تحقيق السلطات العسكرية الاميركية مع المتهمين. وعاد الاتحاد هذا الشهر فاتهم الجنرال ريكاردو سانشيز، القائد العسكري الاميركي في العراق بالموافقة شخصياً على اساليب تنتهك مواثيق جنيف. هل سرقة المال اهم او القتل والتعذيب؟ هل احتاج ان أسأل؟ سأكمل غداً راجياً القارئ ان يصبر عني وعليّ.