ما كان البحث في التقسيم الإسلامي للمعمورة أمراً له من الأهمية في الفكر الإسلامي الحديث كما هي الحال اليوم، فمنذ نشوء تنظيم "الجهاد الإسلامي" في مصر سنة 1976 الذي استثمر - للمرة الأولى ربما - على نحو استراتيجي مفهوم: دار الكفر ودار الإسلام، في مسألة انقلاب دار الإسلام دار كفر، انطلاقاً من فكرة سيد قطب عن "الجاهلية" المعاصرة، التي وَسَمَ بها المجتمعات المسلمة بالاستناد الى مفهوم "االحاكمية"، وصولاً الى حادث 11 أيلول سبتمبر 2001 التي أكسبت تصور العالم من منظور البنية الفقهية الإسلامية أهمية غير عادية، تمت عملية القاعدة في 11 أيلول على أساس أن أميركا "دار حرب"، وقد قال أسامة بن لادن في بيانه الأول عبر الفيديو: "ان هذا الحدث قد قسم العالم الى فسطاطين"، يقصد: دار الحرب ودار إسلام، أو دار كفر ودار اسلام وإيمان كما في بيانات أخرى. وهنا يجب أن نلاحظ كيف انقلب الحديث في حركات الإسلام السياسي الراديكالية من "دار كفر" فحسب الى "دار حرب"، هذا الانقلاب يعكس - في الواقع - تحولاً في تصورها للأزمة التي يغرق فيها العالم الإسلامي، ولمسار قضاياه المزمنة. أياً ما يكن هذا التصور، فهو مستند فعلياً الى الإرث الفقهي الذي صاغه علماء الفقه في المذاهب السنية الأربعة على الأقل، غير أن هذا لا يعني البتة أن تطبيق الأصوليين للمفهومين دقيق وسليم من الناحية الفقهية، كما لا يعني أيضاً ان التقسيم الفقهي ذاته مسلمة لا تقبل الجدل" فمعظم الباحثين المعاصرين يرون أن التقسيم كان في اطار ظروف تاريخية معقدة تعود مرجعيته اليها أكثر ما يمكن ارجاعها الى النص القرآني الكريم، أو النبوي الشريف، وبالتالي هو رهين للسياق التاريخي الذي ولد فيه. لقد بدأ موضوع التقسيم الإسلامي للمعمورة يحظى بالبحث والاهتمام منذ مدة قصيرة - فيما إذا استثنينا منشورات الحركات -، فتاريخ أول بحث فقهي متخصص بهذا الموضوع وقعنا عليه يعود الى ما بعد منتصف الستينات أول كتاب كان بالأردية، تحت عنوان: "دار الإسلام ودار الحرب" عام 1967 *، غير اننا لا نعثر بعد هذا التاريخ على دراسات مهمة الى ما بعد منتصف التسعينات، وعلى رغم أن ذلك مؤشر لبروز هذا الاهتمام الجديد، فإن المنشور من هذه الدراسات حتى الآن هو دراسة محيي الدين قاسم عام 1996، وحتى هذه الدراسة - على أهميتها - ليست متخصصة في الفقه الإسلامي، بل هي دراسة من منظور العلوم السياسية، وعلى هذا الأساس فإن البحث الفقهي المعاصر ما زال يفتقر الى بحث فقهي متخصص منشور في هذا الموضوع وخصوصاً باللغة العربية. خطورة الموضوع تتطلب الكثير من البحث والدرس، فمن جهة نحن نحتاج الى مراجعة فقهية عميقة تكشف حيثيات نشوء فكرة تقسيم العالم الى دور، وتعيد مرة أخرى صياغة المنظور الفقهي لتقسيم العالم على اطار رؤية واقعية لصورة العالم الراهنة، إذ من دون هاتين العمليتين يصعب انجاز أي تقدم على صعيد البحث الفقهي، وعلى صعيد التكيف مع العالم الحديث بما يجعل الأحكام واقعيةً وقابلةً للتطبيق. وانطلاقاً من ذلك أريد أن أشير الى عدد من الملاحظات النقدية المتعلقة بالمادة الفقهية القديمة التي تناولت هذا الموضوع: أولاً: الملاحظ على مجمل البحث الفقهي افتقاره للبحث في القرآن الكريم، واقتصار استدلالاته على السنّة النبوية بمنطق الاسئناس وليس الاستنباط، وبأثر رجعي من مرجعية الواقع التاريخي. فلم تكن السنّة تقدم تصوراً لتقسيم العالم، بقدر ما قدمت أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله امكانية لتفسيرها وفق مقتضى الواقع التاريخي الذي أفرزته ظروف نشوء الخلافة الإسلامية وامتدادها بالفتوحات على رقعة العالم القديم، ولذلك ارتبط مفهوم "الدار" بالنفوذ السياسي للخلافة عبر بسط النظام الذي تقوم عليه على البلدان أو بعبارة فقهية: "غلبة الأحكام وظهورها مع وجود المنعة والسلطة المطبقة لتلك الأحكام"، أو انحساره عنها. ثانياً: تداخل مفهومي دار الحرب ودار الكفر في البحث الفقهي القديم تداخلاً يصل الى حد التطابق المعلن تارة والمضمر أخرى، وهو ما يجعل بعض الفقهاء يصرح بأن المراد من المصطلحين: "دار الكفر" و"دار الحرب" واحد، هذا التداخل الحاصل بمبررات تاريخية دار أهل الكفر كانت دار حرب على الدوام، ولذلك كان أبو حنيفة وأصحابه وأوائل فقهاء الحنفية يستدلون على قتل المرتد بأحاديث الحرب، ويدخلون بحث الردة تحت كتاب الجهاد وليس تحت الحدود. وهذا التطابق بين المفهومين هو الذي جعل بعض حركات الإسلام السياسي المسلحة تبرر تفجير البرجين وقتل المدنيين الأميركيين باعتبارهم حربيين لأنهم هم الذين يدفعون الضرائب لخزينة الحكومة الأميركية: دار الحرب وكفاراً مهدوري الدم! ثالثاً: العالم عموماً ينقسم في المنظور الفقهي الى دار حرب ودار إسلام فقط، ذلك أنه وان كان منقسماً الى: دار العهد ودار الأمان ودار الدعوة، ودار الفسق، التي قال بها بعض الفقهاء، الا ان هذه المفاهيم وقعت فعلياً خارج نطاق بحوثهم الفقهية عموماً، مما يعطي انطباعاً بأن العلاقة بين المسلمين وغيرهم مبنية على الحرب، وهو ما يناقض عموم الآيات القرآنية الصريحة في علاقة المسلمين بالعالم بأنها مبنية على السلم. رابعاً: ان تصور العالم مقسوماً الى دارين جعل من غير الممكن تصور مفهوم الأقلية المسلمة في بلاد غير المسلمين، ولهذا أجرى الفقهاء عليها عموماً أحكام دار الكفر ذاتها، واعتبروا الإقامة بدار الكفر لغير حاجة وضرورة غير جائزة، وجعلوا الهجرة واجبة عموماً الى دار الإسلام، مما يجعل ضرورياً الأخذ في الحسبان ما جرى من تطورات في العالم الحديث، ووضع الأقليات المسلمة في بلاد غير المسلمين. خامساً: التعامل مع مفهوم دار الإسلام وصيرورتها انقلابها دار حرب أمر لا يتصل بالواقع الراهن، كما أنه من الممكن أن يجر عواقب وخيمة في ما يتعلق بالأرض الفلسطينية والأراضي الواقعة فيها حرمات المسلمين الدينية المساجد الثلاث: المسجد الحرام، المسجد النبوي، المسجد الأقصى، فإذا كان البعض الشافعية لا يرى امكانية انقلاب دار اسلام البتة الى دار حرب، بمجرد تحولها مرة الى دار اسلام فعلينا إذاً أن نعتقد بأن علينا فرضاً عينياً المباشرة بالعمل لاستعادة الهند والأندلس وغيرها! وإذا كان جمهور الفقهاء يقولون بإمكان انقلاب دار الإسلام دار حرب فما مصير الأراضي المباركة بمساجدها الثلاث في ظل ظروف أصبح يهددنا فيها الغزاة صباح مساء على مشارفها؟ وفي ظل الاحتلال الاسرائيلي - اليهودي لأرض المسجد الأقصى فلسطين مثلاً! سادساً: لقد أهمل الفقهاء الاعتداد بالمعيار السكاني غلبة عدد المسلمين في وصف ما يدخل تحت مسمى "دار الإسلام"، ذلك لأنهم ينطلقون من تصور أوضاع الخلافة وعلاقتها مع الدول المجاورة، وفي اطار ذلك السياق التاريخي من غير الممكن تخيل غلبة مسلمين من دون ظهور أحكام الإسلام أو انضمامهم للواء الخليفة أمير المؤمنين حتى لو وجد أكثر من خليفة في وقت واحد. أما الآن وفي ظل تفتت بلاد المسلمين وغلبة النظم العلمانية ومفهوم الدولة الوطنية التي تعتمد مصطلح الأقلية والأكثرية أساساً للنظام السياسي فإن من غير الممكن تجاهل معيار العدد السكاني. ونحن نميل الى ابتكار تمييز دقيق بين دار مسلمين ودار إسلام، مما يساعد في سد فراغ فقهي يسبب هذا الإشكال. هذه الملاحظات القليلة توفر - بنظرنا - مبرراً معرفياً لإعادة التفكير والبحث في الموضوع، وتحليل الخطاب الفقهي المتعلق بتصور العالم. وكما أسلفنا فإن تقدم البحث العلمي مرهون الى درجة كبيرة بإعادة بناء تصور للعالم ينسجم مع حالة العالم الراهن، وفي الوقت نفسه يتمتع بمرجعية نصية أكبر من القرآن الكريم والسنّة الشريفة، صحيح أنه لا يمكننا أن نتحدث عن تصور قرآني تفصيلي نسبياً للواقع المعاصر ولا حتى عن تصور مماثل في السنّة النبوية، وأنا لا أقصد بزيادة الاعتماد على المرجعية النصيّة هذا، بل أقصد أن بإمكاننا أن نبحث عن تصور قرآني كلي للعالم بوصفه أساساً نظرياً يشكل خلفية فلسفية لأي تصور واقعي فقهي للواقع، مما يؤثر في أحكامه. وقد يكون في السنّة النبوية الشريفة أيضاً امتداد لهذا الأساس الفلسفي، وذلك يعني ضرورة تكامل التصور عبر دراسة مزدوجة للقرآن والسنّة معاً. وبنظري فإن هذه الدراسة تستحق بحوثاً كثيرة، وهذا المقال لا يتسع لبناء تصور مركب من هذا النوع، ولهذا أعتبر ان المحاولة التي يجب أن تقوم الآن هي اكتشاف نقاط رئيسة في القرآن الكريم في خصوص نظرة القرآن الكريم للأرض، أما السنّة النبوية فتحتاج الى بحوث كبيرة جداً بسبب اتساعها الكبير، ولهذا فالبحث في القرآن الكريم ليس إلا جزءاً من البحث الكبير الذي يشمل السنّة الشريفة أيضاً، فبدونها يبقى التصور غير مكتمل. إذا استطعنا تركيب تصور متماسك عن التصور القرآني للأرض وعلاقة الإنسان بها فقد أصبح بإمكاننا أن نجمعه مع التصورات المطروحة في السنّة النبوية وتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم الفعلية، ونخرج حينذاك بتصور فلسفي يحكم منظورنا للعالم وتحولاته الدائمة. وبالإمكان ابتكار مصطلحات جديدة قادرة على تغطية مفاهيم المنظومة العقدية هذه. لقد أشرنا من قبل الى ان التقسيم الفقهي للعالم يحتاج الى اعادة تفكير، فالكيانات السياسية الجديدة وضعتنا الآن أمام كيان سياسي مختلف تماماً عن الخلافة، أعني بذلك الدولة الحديثة، التي تقوم على مفهوم المواطنة، بناء على معيار الحدود الجغرافية السياسية، فيما كان الانتساب للخلافة قائماً على معيار الإسلام الدين. وفيما كانت الخلافة تستمد مشروعيتها وتقوم فلسفياً وقانونياً أيضاً على أساس الدين، تقوم الدولة الحديثة التي بدأت بمفهوم الدولة/ الأمة وتحولت في ما بعد على أساس علماني عموماً. وفيما كنا في مركز العالم حضارة المركز تحولنا الى أطراف تقاوم بصعوبة الدوران في فلك الحضارة الغربية وهيمنتها السياسية على وجه الخصوص. وفي هذه التغيرات الجذرية المهولة، يمكن لمصطلحات جديدة أن تعدل المنظور الفقهي، فقد يكون ذلك بإدخال مفهوم الدولة ذاته ودمجه في الأحكام الفقهية بوصفه مصطلحاً من الفقه السياسي الحديث مساهماً في اعادة البناء هذه. ويمكن لمصطلح وسيط، مثل: دار المسلمين الذي أشرنا اليه آنفاً أن يلعب دوراً مهماً في صياغة تصور جديد. وأخيراً قد يكون هناك ملاحظات كثيرة على البحث الفقهي المعاصر في الموضوع الذي بين أيدينا، فهو - مثلاً - لم يدرس مفهوم الدار ذاته على نحو مقصود وعميق، كما أنه لم يدرس المصطلحات والمفاهيم المجاورة، مثل: الوطن، الأرض، البلاد، الإقليم... الخ" غير أن الأكيد هو أن السعي لتجاوز هذه الملاحظات جميعها يقتضي الآن تفكيك جوهر الرؤية الفقهية للعالم، واعادة تركيبها. * كاتب سوري [email protected] * هذا الاستنتاج غير دقيق، فهناك كتابات في الموضوع منذ الأربعينات من القرن لماضي. وكتاب وهبه الزحيلي: آثار الحرب في الفقه الإسلامي، صدر عام 1962 لأول مرة. أما بالانكليزية والألمانية فأعرف كتباً وأطروحات تعود للثلاثينات المحرر.