ابتدأ سيد قطب بكتابة صفحات"معالمه"أثناء اعتقاله ورغب في أن تكون فصوله تلك جزءاً من البرنامج التثقيفي للاخوان المسلمين. وعلى رغم ان فصول الكتاب تشكل جزءاً من تفسيره المسمى في ظلال القرآن الا انه أدخل فصولاً جديدة في شكل جعل الكتاب يأخذ منظومة فكرية متكاملة سنحاول قراءة معالمها ومفاتيحها مما يكشف عن الخطاب القطبي الذي يعد أنموذجاً متكاملاً لاحتكار الحقيقة وتوظيفها، وفي الوقت نفسه يعد نصاً معلماً للصراع الخفي الثاوي أحياناً والظاهر أحياناً أخرى بين السلطة والمعرفة. بعد انتهاء فصول الكتاب وتداوله بين أعضاء جماعة الاخوان المسلمين كان مرشد الجماعة حسن الهضيبي أول من تنبأ بخطورة وعنف الأفكار التي يحتويها الكتاب مما جعله يتصدى له بكتاب يكشف عنوانه عن وصول الرسالة التي أراد قطب ايصالها لقراء كتابه، فالهضيبي أعلن ان وظيفة الجماعة ان نكون دعاة لا قضاة، ومستنكراً اطلاق لفظ"الجاهلية"على المجتمع المسلم، ومفسراً"الحاكمية"التي رفع لواءها قطب بأنها لم ترد بأية آية من الذكر الحكيم أو أحاديث الرسول الكريم الا انها مما وصفه الناس واستقر في أذهانهم على أنه الأصل وغاب عنهم ان مراد واضعي المصطلح لم يكن غير التعبير عن معانٍ عامة أرادوا ابرازها وجذب انتباه الناس الى أهميتها، دون أن يقصدوا وضع أحكام فقهية، خاصة التفصيلية منها. فالهضيبي يرفض اذاً التسييس والتحريف الذي تعرض له لمصطلح"الحاكمية"على يدي أبو الأعلى المودودي أولاً ولحقه سيد قطب في ما بعد. فيقول عن تعريف المودودي بأنه فهم خاطئ لم يقله قائل، كما ان عقولنا ليست حاكمة على الله بشيء، ولا يجوز لمسلم ان يجعل من عقله حداً لسلطان الله تعالى... ومن يجعل عقله حاكماً على الله عز وجل ومشيئته فهو بذلك يقع في المحظور اذ يجعل من نفسه نداً وقيّماً على الله عز وجل. كما انه يتحفظ على وصف المجتمعات العربية والاسلامية بأنها"مجتمعات جاهلية"لأنها تخضع لغير حكم الله، إذ يرى في هذا الوصف نفسه الذي اعتاد قطب على استخدامه وتوظيفه ايديولوجياً في الكثير من كتبه، لا يصح أو ينطبق شرعياً ذلك أن"الجاهلية"هي وصف لفترة تاريخية فلا يصح استحضار المصطلح لاطلاق أحكام قيمية وفقهية على المجتمعات العربية في العصر الراهن، وربما هذا ما يدفعنا الى الدخول الى نص الكتاب لتلمس نسيجه السياسي المتراكب مع الفقهي والمتداخل معه اذ يعتمد سيد قطب كثيراً على الاستخدام غير التاريخي Trans-Historical للمصطلحات كما فعل مع"الجاهلية"و"الحاكمية"التي كان لها معنى مغاير تماماً أثناء فترة نزول النص القرآني، الا ان أبو الأعلى المودودي مؤسس"الجماعة الاسلامية"في الهند ثم في باكستان بعد استقلالها عن الهند، اضفى على الكلمة معنى جديداً، اذ أصبحت تعني لديه السيادة المطلقة لله بموازاة مفهوم السيادة Sovereignty في علم السياسة، عندها تصبح الحاكمية حكم الله وحده، وليس لأحد ? وان كان نبياً أن يأمر وينهي من غير ان يكون له سلطان من الله. وهو وفقاً لذلك يعيد تعريف المصطلحات الأربعة كما أطلق عليها وهي الإله والرب والعبادة والدين في شكل يضعها ضمن منظومة متكاملة اطارها الكلي هو مفهوم"الحاكمية"، مما دفع سيد قطب الى اعادة انتاجها ضمن كتابه"معالم في الطريق"بالتوازي مع مصطلح"الجاهلية"بحيث انتهت نظرية الحاكمية لدى قطب الى احكام"تكفيرية"استدعت من مرشد الجماعة أولاً الى الرد عليه كما لحظنا ذلك، فالمجتمعات العربية والمسلمة هي مجتمعات"جاهلية"لا لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله أو لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً، وانما لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها، فهي تدين بحاكمية غير الله، وتتلقى من هذه الحاكمية نظامها وشرائعها وقيمها، وموازينها وعاداتها وتقاليدها، وكل مقومات حياتها تقريباً. لقد اتكأ قطب اذاً في مفهومه عن"الحاكمية"على أبو الأعلى المودودي غاضاً النظر عن الظرف التاريخي والاجتماعي الذي استولد هذا المفهوم مع المودودي ولكن ليعطيه ابعاداً جديدة مع الظرف التاريخي والسياسي الذي خضع له، فسنوات الاعتقال والتعذيب التي تعرضت لها"الطليعة الاسلامية"كما يسميها قطب استدعت منه اعادة انتاج خطاب تحريضي وتعبوي يقطع مع مفاهيم العدالة الاجتماعية وغيرها من المفاهيم التي تعكس بعداً توفيقياً وتصالحياً مع الواقع والخطاب السياسي الموجود آنذاك ويؤسس خطاباً يستند الى عدد من الكلمات المفاتيح Key Word ك"الجاهلية"و"الحاكمية"و"المفاضلة"و"الاستعلاء"ولا يحضر مفهوما"المفاضلة"و"الاستعلاء"الا بصفتهما آليات التنفيذ الراهنة التي تمتلكها"الطليعة"في الوقت الحالي لتحقيق"الحاكمية"."فالمفاضلة"التي تعني أبعد من المقاطعة، اذ هي تتطلب رفضاً نفسياً ووجودياً للمجتمع الجاهلي. وظهرانية ونقاء ذاتيين من أجل ضمان البعد عن التلوث الفكري أو النفسي أو المادي الذي يعيشه"المجتمع الجاهلي"واستمراء العيش فيه. لكن هذه العزلة الاختيارية ليست نتيجة خوف من هذا المجتمع بقدر ما هي حزن وأسف على حالته، وهذا ما يولد معنى"الاستعلاء"الذي يجب أن يمثل الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوره، انها حالة الاستعلاء التي يجب أن تستقر عليها نفس المؤمن ازاء كل شيء، الاستعلاء بالايمان وقيمه على جميع القيم المنبثقة من أصل غير أصل الايمان. والاستعلاء هذا لا يتهاوى أمام قوة باغية ولا عرف اجتماعي ولا تشريع باطل ولا وضع مقبول عند الناس من دون أن يكون له سند من الايمان، وبذلك يزرع قطب لدى المؤمن كما يسميه مفهوم"التميز"ويؤكد فوقيته وعلويته على الآخرين، طالما انه الأعلى تصوراً للقيم والأعلى ضميراً وشعوراً وخلقاً وسلوكاً. والأعلى شريعة ونظاماً، انه ينظر الى البشرية الضالة من علٍ في عطفٍ واشفاقٍ على بؤسها واشفاقها، ولا يجد في نفسه الا الاستعلاء على الشقوة والضلال. فجوهر الخطاب القطبي اذاً هو الرفض، لكن رفضه هذا لا يأخذ شكل معارضة محض سياسية من طريق النقد المباشر للسلطة السياسية لعهد الرئيس عبدالناصر، بقدر ما رغب أن يأخذ رفضه هذا شكل ايديولوجيا دينية متصاعدة ومتكاملة تستثمر النص الديني في شكل يمكنها من التجييش والتحريض بصيغة أكثر قدرة وقوة من خلال الاسقاط المباشر لمعاني النص الديني على الواقع السياسي المعاش والمباشر، لذلك لا عجب ان يشعر الكثيرون من الاسلاميين عن قراءتهم لكتابات سيد قطب وبخاصة تفسيره للآيات القرآنية وكأنها تخاطبهم مباشرة، ومما ساعد قطب على ذلك هو ابتكاره بشكل ناجح الى حد بعيد لمفهوم"الثنائيات الحدية"على مبدأ من ليس معنا فهو حتماً ضدنا فالإسلام لا يعرف الا نوعين من المجتمعات، مجتمع اسلامي ومجتمع جاهلي،"المجتمع الاسلامي"هو المجتمع الذي يطلق فيه الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ونظاماً وخلقاً وسلوكاً و"المجتمع الجاهلي"هو المجتمع الذي لا يطبق فيه الإسلام، ولا تحكمه عقيدته وتصوراته، وقيمه وموازينه ونظامه وشرائعه، وخلقه وسلوكه، لذلك لا ينبغي ان تقوم في نفوس أصحاب الدعوة الى الله تلك الشكوك السطحية في حقيقة الجاهلية وحقيقة الإسلام وفي صفة دار الحرب ودار الإسلام، انه لا اسلام في أرض لا يحكمه الاسلام، ولا تقوم فيها شريعته، ولا دار اسلام الا التي يهيمن عليها الاسلام بمنهجه وقانونه، وليس وراء الايمان الا الكفر، وليس دون الاسلام الا الجاهلية وليس بعد الحق الا الضلال وهذا ما كثّفه في شعار أصبح رائجاً وشائعاً لدى الكثير من الاسلاميين في مواجهة النظم الحاكمة: خذوا الاسلام كله جملة واحدة أو دعوه بشكل ينفي تماماً امكان وجود أي تصور أو مفهوم عن الاسلام مختلف عما تعتنقه هذه"الطليعة"المادية"بالحاكمية لله". لقد كان كتاب سيد قطب"معالم في الطريق"بمثابة الطريق الذي يرسم معالم التغيير لدى الكثير من الحركات الاسلامية، ومما أضفى عليه قيمة رمزية هو انه كان آخر ما كتب قطب نفسه بحيث اصبح بمثابة"الوصية"التي تركها قطب للأجيال الآتية من بعده، لا سيما ان اعدام قطب من قبل عبدالناصر حوله الى شهيد بنظر أتباعه ومناصريه، طالما ان سبب اعدامه وادانته لم يكن سوى كتاب"المعالم"، وهذا ما حوله الى أنموذج المفكر الذي يعيش أفكاره ويموت في سبيلها. لقد وصف أحد أصدقائه ما انتهى اليه قطب قائلاً:"لقد انتهت المعركة التي كان قطب يتهيبها ويستعظمها في قرارة نفسه، وقد انتصر فيه اليقين على الشك، والسكينة على التردد، والعزم على ضعف الارادة، فما كان الاعتقال والتنكيل والشهادة الا نتيجة حتمية، وصورة صادقة لهذه المعركة التي خاضها في أعماق نفسه وقرارة بيته قبل أن يخوضها في الزنزانة وعلى المشانق". لكن كتاب قطب كان أيضاً المبرر الشرعي لكثير من الجماعات الأصولية التي نشأت في ما بعد متخذة من مفاهيم"الحاكمية"و"الجاهلية"مبادئ سياسية وموظفة اياها ضمن صراعها العقائدي والايديولوجي مع النظم الحاكمة في البلدان العربية كما حدث مع جماعة التكفير والهجرة وجماعة الجهاد الاسلامي في مصر والجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر وغيرهم من الحركات التي ازدادت ونشطت في ثمانينات وتسعينات القرن الفائت في الوطن العربي. غير ان ما يجب ذكره ان قطب لم يكن فقيه هذه الجماعات أو مفتيها كما تصور ذلك جميع الباحثين والدارسين لكتاباته، بقدر ما كان مجرد"مدخل"أو بالأصح حلقة ضرورية لا بد منها من أجل التعامل والتعاطي المباشر مع النص، فالجماعات السلفية والجهادية لم تتكأ في كتاباتها على سيد قطب الذي لا نلحظ حضوره في نصوصها بقدر ما كان خطوة لازمة في ازاحة التراث الفقهي الكلاسيكي لخلق علاقة مباشرة من أجل تأويل النص القرآني، وهذا ما أسميه الجرأة على النص. بمعنى ان سيد قطب تمكن من تحرير العلاقة مع النص بحيث أصبحت مباشرة وأصبح في امكان هذه العلاقة ايضاً أن تمد طالبها بأحكام فقهية جديدة ومختلفة لم تكن واردة قبلاً لدى الفقهاء السابقين عليه. وما أعطاه الشرعية الكافية لذلك هو قيامه بتفسير القرآن كاملاً، بحيث بدا مؤهلاً لاستصدار الأحكام الفقهية التي سيتبعها الكثيرون من بعده، ولذلك نجد ان الكثير من الفقهاء التقليديين في زمنه وقف معارضاً له وعلى رأسهم شيخ الأزهر. هذه"الجرأة على النص"اذاً خلقت لدى الجماعات السلفية خصوصاً ضمن متنها الاجتماعي والسياسي المكبوت قدرة على العودة الى النص القرآني والحديثي مباشرة لاستخراج الأحكام القاطعة في شكل يبرر رغبتها في الجهاد ضد ما تسميهم"الأنظمة الكافرة". لقد تمكنت هذه الجماعات السلفية من قراءة النص القرآني في شكل دلالي مختلف بحيث تعمل على توظيف المخزون التاريخي والإرث الكامن في المتخيل الشعبي. ومما عزز ذلك قدرة ادائية بارعة في البلاغة على مستوى النطق الخطابي بالعربية وامكانات حقيقية في حشد عدد من النصوص بشكل يدعم"الحجة"ويثبتها، لذلك من الخطأ أن نحمّل قطب تبعات نتائج هذه الجماعات السلفية وأعمالها بل يجب أن نقرأها في متنها السياسي والاجتماعي أولاً ثم العودة الى خطابها النظري الذي يتصل مباشرة مع النص الديني، في حين ان قطب مثّل الخطوة الأولى التي ما كان لبعده ان يبني عليها لولا جرأته على النص التي كان لها ما بعدها. * كاتب سوري.