في الأزمات تستعيد القومية عافيتها، ليس أدل على ذلك من التطورات الجارية في شرق آسيا في العلاقات بين الصينواليابان. تقول الصين إن اليابان غير مستعدة بعد لتحتل مقعداً دائماً في مجلس الأمن بحجة أنها لا تريد أن تواجه بشجاعة تاريخها العدواني قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها. بل وتفعل العكس، فقد سمحت الحكومة اليابانية بتدريس كتاب عن تاريخ تلك المرحلة لا يعبر عن الندم على ما ارتكبته القوات المسلحة اليابانية ضد شعب الصين، وخصوصاً ضد سكان مدينة نانكين، العاصمة القديمة للصين. أما اليابان فتقول إنها اعتذرت عن"أحداث"ما قبل الحرب وخلالها سبع عشرة مرة منذ أن أعيدت العلاقات بين الصينواليابان في عام 1972. وتعتقد أن لحكومة الصين أهدافاً أخرى من وراء تصعيد التوتر بين البلدين ودعم المظاهرات المعادية لليابان والسكوت عن الاعتداءات على المصالح اليابانية في مدن عدة في الصين. غالباً ما تضيع الحقيقة في فترات التوتر. وغالباً ما تكون للتوتر أسباب متعددة وليس سبباً واحداً. أما اختيار سبب واحد فيحدث لأنه الأسرع في الوصول إلى ذهن الرأي العام، أو لأنه الأقل خطورة، بمعنى أن التصعيد فيه لن يؤدي إلى المواجهة المسلحة بين طرفي التوتر أو النزاع. وفي هذه الحالة بالذات، حالة الصينواليابان، تتعدد الدوافع الواضحة والمعروفة. وفي الوقت نفسه، تتعدد الأسئلة عن أوضاع وتصرفات غامضة. وتجمعت عندي تصورات عن دوافع جاء بعضها في تصريحات لمسؤولين في هذه الدولة أو تلك، أو في تحليلات وتعليقات الغرباء والقريبين، ويأتي بعض آخر من تجارب شخصية ربطتني بهذه العلاقة. أحد هذه التصورات وأقلها جاذبية، التصور القائل بأن الصين ربما أرادت من وراء تصعيد المواجهة على هذا النحو مع اليابان تشتيت انتباه الفئات الناشطة في الشعب الصيني بعيداً عن قضية الإصلاح السياسي. فالصين، كغيرها، من دول آسيا ودول الشرق الأوسط تغلي بالترقب والقلق بسبب زوابع التغيير التي أطاحت بحكومات كثيرة خلال الشهور القليلة الماضية. ولا أجدى وأفلح من إثارة المشاعر القومية ونكء الجروح القديمة، إذا دعت الحاجة، لصد هذه الزوابع المثيرة للاضطراب والفوضى، أو الدافعة للتغيير. ثاني التصورات عن الدوافع الصينية، وهو أيضاً قليل الجاذبية، ذلك الذي يرى الصين وقد انتهزت فرصة نشر الكتاب التعليمي الذي تجاهل فداحة الجرائم التي ارتكبها جنود الإمبراطورية اليابانية لترد على ما تعتقد أنه إساءة كبيرة ارتكبتها حكومة كويزومي في حق الصين، حين أصدرت مع حكومة واشنطن بياناً التزمت فيه الدفاع عن تايوان في حال تعرضت هذه الأخيرة لهجوم من الصين. أخشى ما تخشاه الصين، وغيرها من دول آسيا، أن تعود اليابان إلى عسكرة سياستها الخارجية وإلى طموحات توسعية. ولا شك أن هذا الإجراء الياباني، وإن جاء تحت الضغوط الأميركية، تحدي الصين في قضية "قومية"، كان يجب على اليابان أن تحسب حساب صداها وانعكاساتها لدى الرأي العام الصيني. يتصل بهذا التصور عن الدوافع المحتملة، احتمال أن تكون الصين أدركت أن الولاياتالمتحدة قررت إطلاق المرحلة الأخيرة من مراحل خطة إحكام الحصار العسكري والسياسي للصين. لم يخف صينيون الاهتمام بزيارة دونالد رامسفيلد لقيرغيزستان وأفغانستان بعد العراق ولا الاهتمام بدعوة كارزاي أميركا البقاء بصفة دائمة. لا ينتابهم شك في صحة الهدف المعلن في الزيارتين، ولكن كذلك لا ينتابهم شك في أن حصار الصين هدف من أهداف الزيارتين. وعلى كل حال، كانت الزيارتان خطوتين في تنفيذ الحصار، ليستا أول الخطوات ولا آخرها. ويحسب للحكومة الصينية استباقها خطة الحصار، أو على الأقل التصدي لها أولاً بأول. فقد استعدت بمفاوضات شاقة انتهت باتفاقيات ترسم حدوداً مع جارتين عملاقتين، للصين معهما تاريخ حافل بالنزاعات والتوتر وعدد غير قليل من الاشتباكات المسلحة. وفي تصوري أن هاتين الاتفاقيتين اللتين وقعتهما الصين مع روسيا والهند نصر مشهود للصين في مجال"الديبلوماسية الاستباقية"ورسمتا علامات على طريق السباق نحو وضع خريطة المستقبل لمنظومة القيادة الدولية. يضاف إلى هذا الانجاز الدبلوماسي دعوة الصين إلى عقد قمة آسيوية صافية، أي قمة لا تشارك فيها أميركا، قبل نهاية العام الجاري، وتقودها الصين بغير منافس أو شريك. ومن ناحية أخرى، لم تترك الصين باباً في العالم لم تطرقه خلال العامين الماضيين فإلى إفريقيا وأميركا اللاتينية راح وين جيباو لينافس أميركا واليابان في أسواقهما التقليدية وعاد محملاً باتفاقات واعترافاً بمكانة جديدة للصين. لقد اعتمدت الصين في حملتها لكسب ود دول آسيا على كراهية شعوب المنطقة، جميعها تقريباً، لليابانيين. إذ لم يفلت شعب آسيوي من الممارسات الوحشية اليابانية خلال الحرب. ولم تفلح خطط إعادة الاعمار التي شاركت فيها اليابان بعد الحرب في بناء جسور من الثقة مع هذه الشعوب أو كسب رضاها. وقد يبدو العداء لليابان أحياناً مبالغاً فيه. فالصين نفسها شن البريطانيون عليها حربين لفتح أبوابها أمام تجارة الأفيون. ويتجاهل الإعلام الرسمي الصيني حقيقة أن نانكين ليست المدينة الوحيدة التي اغتصبها أجانب. فقد اشترك الغرب جميعه في اغتصاب شنغهاي لسنوات طويلة. وهو الاغتصاب الذي باركه المجتمع الدولي حين قضت معاهدة فرساي بتسليم ممتلكات ألمانيا في الصين إلى اليابان ولم تعدها إلى الصين. تبقى الأسئلة عن مسائل مهمة ومحيرة في آن، ففي زمن تردد فيه الرأي، وعند البعض القول الفصل، عن نهاية القومية بحلول عصر العولمة، سيكون صعباً تفسير قبل تبرير تأجيج حكومة الصين مشاعر القومية من أجل تحقيق هدف يمكن تحقيقه باستخدام وسائل أخرى أقل خطورة. فاشتعال القومية الصينية كفيل، طال الوقت أو قصر، بإثارة مشاعر قومية أشد تطرفاً في اليابان ثم في كوريا وفيتنام وروسيا، وربما في مقاطعات داخل الصين، مثل سنكيانج حيث تسكن قومية أخرى بديانة مختلفة، ومثل التبت حيث الثورة القومية مشتعلة منذ نصف قرن. أم أن حكومة الصين استشعرت فائدة محققة من زيادة الإنتاج والنمو الاقتصادي نتيجة حشد قومي؟ ولكن هل فات على حكومة الصين أن التصعيد القومي مع اليابان، مضافاً إليه تصعيد في الموقف من قضية ملكية مساحات واسعة في بحر الصين الشرقي، قد يؤدي إلى اشتباكات مسلحة بين الدولتين؟ أتصور أن الصين تجاوزت مرحلة الانطلاق وأشرفت على مرحلة تثبيت الإنجازات وتأكيد المكانة. وترشدنا سجلات التاريخ إلى حقيقة متكررة مرت بها مختلف الأمم التي لامست القمم أو اقتربت منها. فقد احتاجت الأمم كافة خلال الانطلاق إلى إثارة المشاعر القومية. وعند الاقتراب من القمة أي عند الحاجة إلى تثبيت الإنجاز وتأكيده، يزداد الاعتماد على القومية لتعزيز الإرادة وحشد القوى للمواجهة النهائية. وما نراه في أميركا الآن دليل آخر على ذلك، فالحملة غير المسبوقة في التعبئة القومية التي تنظمها إدارة الرئيس بوش تهدف إلى تثبيت انفراد أميركا بالقيادة ثم تأكيده. ومع ذلك تبقى مجازفة كبرى تلك التي أقدمت عليها الصين حين أشعلت من جديد نيران القومية. إن معظم قفزات الصين في العقود السابقة كانت مجازفات تراوحت تكلفتها بين الباهظ والكارثي، فقد قامت فلسفة الرئيس ماو على فكرة الثورة الدائمة كضرورة حيوية لاستمرار المجتمع الصيني حياً متفاعلاً. كان لابد من ثورة شعبية هائلة تطيح بالقيم البالية والفاسدة وتقضي على ركود مجتمع أهلكه الأفيون وأذلته الدعارة والتجارة في الأطفال وتمكنت منه كل القوى الشريرة التي جاءت بالاستعمار الغربي أو لحقت به. فقامت الثورة الكبرى. ثم كان ضرورياً أن تنشب ثورة أخرى لتطيح بقيم الطبقة الوسطى التي ساهمت في الثورة الكبرى ثم حاولت اختطافها، فكانت ثورة التحول إلى الصناعة الجماعية والبسيطة وإنشاء الكوميونات في نهاية الخمسينات، وبعد أقل من عقد ظهرت الحاجة إلى ثورة تطيح بمنظومة قيم جديدة أفرزها الاستقرار الناجم عن تحول عسكر الثورة إلى عسكر في جيش نظامي، واستقرار أعضاء الحزب الشيوعي في مناصب حكومية وحزبية، واستقرار مفكري الحزب ومثقفيه في مناخ هادئ وآمن. فنشبت الثورة الثقافية. لم تتوقف"الثورات"آخرها التجربة"الثورية"المبتكرة التي صاغها خلفاء الرئيس ماو وأطلقوا عليها"اشتراكية السوق". وأظن أن القيادة الراهنة اكتشفت وإن متأخراً أن هذه التجربة أثمرت طبقة وقيادات ولاؤها للسوق والعولمة أعمق من ولائها للأمة. الصين واقعة في أزمة أو متوقعة أزمة، وإلا ما استفاقت المشاعر القومية وما كان الحشد والتعبئة. كاتب مصري.