بين وقت وآخر يجيء خبر صغير في صفحة داخلية، وبعيداً عن مقدمات نشرات الأخبار، ليجعلنا أكثر قدرة على فهم عالمنا المعاصر بغير أخبار أخرى ساخنة وزاعقة. شيء من هذا جرى في 17/3/2005 حينما توفي جورج كينان الديبلوماسي الأميركي السابق عن عمر يناهز 101 عاماً. الرجل لم يحتل منصباً رسمياً طوال نصف القرن الأخير من حياته مكتفياً بإلقاء المحاضرات واصدار الكتب التي تهتم بها دائرة ضيقة من المحللين والمتخصصين. مع ذلك ففي لحظة محددة من حياته أصبحت أفكاره عنواناً عريضاً لتحول جذري فى الساحة الدولية قادت خلاله الولاياتالمتحدة الغرب كله في ما هو أقرب الى حرب عالمية ثالثة ضد قوة جديدة منافسة هي الأتحاد السوفياتي. تلك اللحظة فى حياة جورج كينان كانت بامتداد سنتي 1946/1947، فبحكم موقعه أولاً كقائم بأعمال السفارة الأميركية في موسكو ثم باعتباره مديراً لأدارة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية بلور مفهوم"الأحتواء"كسياسة أميركية فى مواجهة الاتحاد السوفياتي. سياسة كانت لها توابع حتمية، كما في أعقاب الزلازل الكبرى، غيرت مصائر دول وشعوب وقلبت استراتيجيات واستدعت ردود أفعال لا تقل ضخامة. بخلاف التاريخ... هناك أهمية اضافية معاصرة فى فهم ما يجري. فكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية مثلاً شرحت فى لقاءات وندوات محدودة ابان عملها مستشارة للأمن القومى أن مسار التغيير الجذري في السياسة الأميركية المعاصرة هو أقرب ما يمكن الى ما جرى للسياسة الأميركية بين العامين 1946 و1947 بانقلابيته وأفقه الزمني الذى سيمتد الى عشرات آتية من السنين. جورج بوش قال مرات عدة أيضاً ان المؤرخين سيتفهمون مستقبلاً دوافعه فى غزو العراق . فى 1946 كانت الولاياتالمتحدة قد خرجت لتوها من حرب عالمية ثانية قادت فيها معسكر المنتصرين المشكل منها وبريطانيا والأتحاد السوفياتي ضد دول المحور المشكلة من ألمانيا وايطاليا واليابان. ومع أن أميركا دخلت الحرب متأخرة بأكثر من سنتين الا أنها خرجت منها وهي الأكبر فوزاً على كل المستويات ودائنة لكل حلفائها وتنتج بمفردها اثنين وخمسين في المئة من كل ما ينتجه العالم من سلع وخدمات. لكن في مقابل ذلك لم يكن فوز معسكر الحلفاء هذا ممكناً من دون التكلفة البشرية الفادحة التى تحملها الاتحاد السوفياتي أكثر من عشرين مليون قتيل. وخلال سنوات الحرب تراجعت تماماً الخصومة الأيديولوجية السابق بين الرأسمالية التي تمثلها بريطانيا وأميركا والشيوعية التي يمثلها الأتحاد السوفياتي. فى حينها برر الزعيم البريطاني ونستون تشرشل هذا التحول الجذري بأن بريطانيا تتحالف مع الشيطان اذا كان هذا في مصلحتها. أما الأعلام الأميركي الذي يعبّئ شعبه لصالح الحرب فتحول عداؤه لكل ما هو سوفياتي الى صداقة، بما جعل بعض هذا الأعلام المملوك لرأسماليين يقدم الزعيم السوفياتي جوزف ستالين باعتباره"العم جو"والشعب السوفياتي باعتباره"بشر مثلنا"و"محبون لنا". مع اقتراب الحرب من نهايتها جرى تقسيم الغنائم بما عبر عنه اتفاق يالطا الشهير: نصف أوروبا الغربي لأميركا وحلفائها، ونصفها الشرقي للأتحاد السوفياتي... وتأجيل كل شيء آخر الى ما بعد. لكن الأكثر أهمية هو أن نهاية الحرب العالمية الثانية مثلت نهاية لكابوس مروع عانت منه البشرية دماراً وخراباً وابادة، وأصبح من حق العالم أن يتنفس الصعداء ويتطلع الى عصر جديد من السلام والتنمية وتحويل الموارد الضخمة التى عبئت للحرب لتعويض الشعوب والتركيز على اعادة اعمار ما خربته الحرب في أوروبا واليابان وخفض موازنات التسلح الضخمة التي تحملتها أميركا. احدى المفاجآت هنا استغربها المجتمعون فى سان فرانسيسكو سنة 1945 لصياغة ميثاق الأممالمتحدة كمنظمة جديدة لحماية الأمن والسلم الدوليين. فمن بين خلفيات أخرى صرح السفير الأميركي فى موسكو الموجود فى سان فرانسيسكو عضواً في الوفد الأميركي بأن الإنفاق العسكري الأميركي يجب أن يستمر بلا خفض لتطوير أسلحة جديدة، حتى في سنوات السلام. كان وجه الأستغراب هو: أين العدو الجديد الذي يبرر ذلك؟ لكن بعيداً عن هذا المستوى من العلانية كانت"المؤسسة"الأميركية الحاكمة تعتصر عقولها المفكرة لصياغة استراتيجية جديدة لسنوات ما بعد الحرب. هذا يعيدنا الى جورج كينان وهو في تلك اللحظة قائم بالأعمال في السفارة الأميركية في موسكو، وتلقى من البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأميركية برقية سرية عبر وزارة الخارجية تسأله المشورة كمتخصص فى الشؤون السوفياتية. وفي 22 شباط فبراير 1946 رد كينان ببرقية من ثمانية آلاف كلمة استمرت سرية لسنوات طويلة بعدها لكنها عرفت باسم"البرقية المطولة"يقدم فيها كينان اجاباته التفصيلية على ما تلقاه من أسئلة. وسببه في التطويل هو شعوره بخطورة الأنزلاق الى اجابات تبالغ في تبسيط نتائج بزوغ الأتحاد السوفياتي على المسرح الدولي نتيجة لمساهمته في الحرب ضد الفاشية والنازية. سرعان ما جذبت البرقية السرية اهتمام"المؤسسة"الحاكمة الأميركية مما شجع جورج كينان على كتابة صياغة لها قابلة للنشر، سرعان ما وجدت طريقها الى عدد تموز يوليو 1947 من مجلة الشؤون الخارجية بعنوان"مصادر السلوك السوفياتي"للكاتب"اكس". السبب في تخفي الكاتب هنا هو أنه أصبح مديراً لأدارة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية في واشنطن ولا ترغب الحكومة في أن تتحمل علناً مسؤولية هذا النقاش العلني الضيق. خلاصة ما دعا اليه جورج كينان هو ما عرف وقتها ولأربعين سنة بعدها باسم سياسة"الأحتواء"في مواجهة الأتحاد السوفياتي حيث:"الضغط السوفياتي ضد المؤسسات الحرة في العالم الغربي يمكن احتواؤه بسياسة مضادة تعتمد على الديبلوماسية والعمل السري، ولكن ليس بالحرب"أو الوسائل العسكرية. فى هذا السطر الأخير يتلخص ارتفاع حظ جورج كينان داخل"المؤسسة"الحاكمة الأميركية، وسقوطه. فاستمرار موازنات التسلح الأستثنائية بعد سقوط"العدو"يتطلب الترويج لفكرة ظهور"عدو"جديد وباتساع العالم ويمثل خطرا بنفس الحجم والخطورة على الشعب الأميركي. وتحويل الاتحاد السوفياتي في لحظة من حليف الأمس الى عدو اليوم والغد يتطلب تعبئة سريعة فى الاتجاه المضاد لما ظل سائداً لسنوات. هكذا تحركت أميركا بسرعة لأعادة النظر فى"اتفاق يالطا"مما ضاعف شعور موسكو بالتهديد والخطر، وهذا بدوره بدأ سلسلة من الافعال وردود الافعال اصبحت بحد ذاتها مبرراً اضافياً للمزيد من التعبئة واعادة حشد الصفوف. هكذا أقامت أميركا منظمة حلف شمال الأطلسي الناتو بقيادتها لاحتواء ومحاصرة الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، فرد الاتحاد السوفياتي بأقامة حلف وارسو من أوروبا الشرقية تحت قيادته. بعدها اتسعت الحلقة فأقامت أميركا سلسلة من الأحلاف التابعة المساعدة استكمالاً للحصار و"الأحتواء"واستنفاراً للخصومة الأيديولوجية السابقة على الحرب العالمية الثانية. وكأن التحالف الذي عبرت عنه تلك الحرب ضد عدو مشترك كان مجرد جملة اعتراضية يعود بعدها السياق الى ما كان عليه. أيضاً، ولدت وكالة المخابرات المركزية الأميركية لتقود الجزء السري من المواجهة، وهي جزئية فهمها جورج كينان لأنها كانت من توصياته. لكن الذي لم يفهمه مطلقاً هو زيادة الانفاق العسكري الأميركي كما لو أن المواجهة العسكرية ضد الاتحاد السوفياتي حتمية رغم أنه أصبح أيضاً قوة نووية وأنها ستحدث غداً. مع وصول دوايت ايزنهاور وادارته الجمهورية الى السلطة فى سنة 1952 كانت عملية التعبئة لصالح"الحرب الباردة"الجديدة قد أصبحت في ذروتها وموجة"المكارثية"في عنفوانها لأعادة فرز الصفوف، رافعة شعار تطهير مؤسسات الدولة من الرافضين للتحول الجديد داخل أميركا. عشرات الآلاف جرى فصلهم من وظائفهم داخل أميركا أو تدمير سمعتهم أو دفعهم لمغادرة أميركا كالممثل المشهور شارلي شابلن بحجة ملفقة هى التعاطف مع الشيوعية. معظمهم تبين تالياً براءتهم الكاملة ومن بينهم أصدقاء شخصيون لجورج كينان في مقدمتهم العالم الذي أشرف على صناعة القنبلة النووية الأميركية الأولى. وهكذا ودّع كينان المناصب الرسمية ليعيش عقوداً طويلة بعدها وهو غير متأكد بالضبط: هل كان الخطأ في سياسة"الأحتواء"التي دعا هو اليها... أم ان الخطأ في من اختطفوها لخدمة مصالح شركات السلاح؟ لم يكن الذي حسم هذا الجدل سوى دوايت ايزنهاور وهو نفسه الجنرال السابق الذي قاد معسكر الحلفاء عسكرياً في المسرح الأوروبى خلال الحرب العالمية الثانية. ففي خطابه الوداعي كرئيس للولايات المتحدة حذر الأميركيين علناً من سطوة"المجمع العسكري الصناعي"قاصداً تحالف المصالح بين وزارة الدفاع وشركات السلاح الأميركية. بالطبع ذهبت نصيحة ايزنهاور سدى وفرض الصقور الجدد على أميركا والعالم تصعيداً خطيراً في مستويات التسلح لم تعرفها البشرية سابقاً. صقور"المؤسسة"الأميركية يردون على ذلك بحجج عديدة. أولها ان صناعات السلاح هى المنشط الأقوى والأسرع للأقتصاد. آخرها ان التصعيد فى سباق التسلح هو الذى أدى فى نهاية المطاف الى تكسيح الأتحاد السوفياتي وانسحابه من أوربا الشرقية ثم تفككه هو ذاته الى شظايا لأنه لم يستطع الجمع بين التنمية الأقتصادية وسباق التسلح. يقولون أيضاً ان تفرد أميركا بموقع القوة العظمى الوحيدة هو بالطبيعة وضع موقت لا بد من اعتصاره بأكبر فوائد ممكنة وسريعة. فإذا كانت أميركا قد بدأت الحرب الباردة وهي أكبر دولة دائنة للآخرين ثم خرجت منها منتصرة لكن أكبر دولة مدينة فى التاريخ... فلا بأس. تستطيع أميركا تعويض العجز باستثمار هيمنتها الموقتة عالمياً، وبسرعة، عبر تحالف مستمر بين المؤسسة العسكرية وشركات السلاح، زائد شركات البترول، تحت عنوان عريض جديد هو"الحرب ضد الأرهاب"أو"الحرب لنشر الحرية"باتساع العالم. تماماً كما ارتفع خلال الحرب الباردة شعار المواجهة بين"العالم الحر"ودول"ما وراء الستار الحديد". هذا يعيدنا مرة أخرى الى جورج كينان. فمع رحيله أخيراً تجدد الجدل بشأن مأساته الدرامية حينما اختطفت"المؤسسة"الحاكمة شعاره عن"الأحتواء"لتعطيه مضموناً عسكرياً كان يحذر هو منه ويرفضه. وفى دراسة مركزة لخص محلل أميركي رؤيته في ما لو لم تجرِ عسكرة شعار"الأحتواء"قائلاً:"لم تكن حرب كوريا لتحدث كما حدثت. كانت واشنطن ستنتهز فرصة وفاة ستالين لتشجع ظهور اصلاحيين في موسكو. لم تكن أميركا ستصنع القنبلة الهيدروجينية التي أكدت لموسكو أن السباق أصبح يتعلق بأسلحة ابادة شاملة. حركات التحرير فى العالم الثالث كانت أميركا ستعاملها باعتبارها حركات شعوب تتطلع الى التحرر من الأستعمار، بدل رؤيتها كمؤامرة عالمية تدار من موسكو. لم تكن أميركا لتتورط في حرب فيتنام. كانت أميركا ستصبح أكثر تواضعا في رؤيتها لمهمتها العالمية لفرض قيمها على الآخرين. كانت ستستمر في تعظيم التعاون الدولى من خلال الأممالمتحدة التي هي بذاتها كانت فكرة أميركية لوح بها الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت وهو يعبّىء العالم لصالح معسكر الحلفاء ضد النازية والفاشية. وفى كتب أميركية صدرت أخيراً تبين أن روزفلت نفسه كان يتطلع الى أن يصبح هو شخصياً أول أمين عام لمنظمة الأممالمتحدة. رحل روزفلت. رحل جورج كينان. وفي ما بينهما عادت الرأسمالية المتوحشة التى ألزمها غصباً عنها بمسؤوليات اجتماعية ليحميها من نفسها. وتنمّرت شركات السلاح التى اختطفت أفكار كينان. وبقي علينا أن نتابع الصقور الجدد أو المحافظين الجدد فى واشنطن وهم يرشحون لرئاسة البنك الدولي بول ولفوفيتز. وهو المروج الأول نفسه لغزو العراق. ويضعون في الأممالمتحدة جون بولتون سفيراً لأميركا، وهو الرجل الذي أشار من قبل الى أن مبنى الأممالمتحدة في نيويورك لو فني عشر طوابق من طوابقه الثمانية والثلاثين لما لاحظ أحد هذا الأمر. * كاتب مصري.