عند الزيارة الأولى يبدو الاهتداء إلى المكان شبه مستحيل، ولا بدّ من أن تضيع قليلاً في حي ال"كرنتينا"على أبواب بيروت. في ذلك الموقع الذي استعاد صفته ك"منطقة صناعيّة"طالعاً - ما أمكن - من ذكريات حرب أليمة. نحن في حيّ المسلخ، في منطقة لم يكن يخطر في بال أحد أن تصبح"على الموضة". أوّل الوافدين إلى تلك العمارة الكلسيّة البيضاء، ذات الفضاءات الشاسعة التي يغمرها الضوء وتزنّرها الزرقة، كان برنار خوري، المهندس الذي حملته تسعينات القرن الماضي إلى العالميّة. كان أوّل من راهن على تلك العمارة، فاتخذ من أحد أدوارها مقرّاً لمحترفاته. والآن جاء دور الفنّ - "المفهومي"، مع افتتاح"غاليري صفير - زملر". والموقع اصطفته أندريه صفير زملر عن سابق تصوّر وتصميم: تلك الروائح، والضجّة المحيطة، والغبار والوحل، والنشاطات الصناعيّة في الجوار، تريدها جزءاً من الديكور... يساهم في اعطاء المكان هويّته، ويحدد رهان الخروج من الأحياء الراقية في قلب المدينة، واستدراج الجمهور إلى هوامشها الخصبة المفتوحة على احتمالات التجريب. أي جمهور؟ أي سوق للفنّ في لبنان، وتحديداً الفنون غير النمطيّة التي تعتمد"الوسائط الجديدة"نيو ميديا؟ ربّما كان من المبكر طرح هذا السؤال الذي يعطي المشروع طعم المغامرة... لكنّ المؤكّد أن السيّدة صفير صاحبة خبرة في هذا المجال. وهي تفتتح فضاءها اللبناني، بعد عشرين سنة على اطلاق"غاليري صفير - زملر"في هامبورغ، المانيا، حيث تقدّم اليوم أبرز الفنّانين العالميين. وها هي تعاود التجربة في بيروت، وتراهن على المدينة، كأرضيّة استراتيجيّة مشرّعة على المستقبل. بدا افتتاح الغاليري بمعرض جماعي عنوانه"رحلة 405"، نوعاً من الاحتفاء بالاتجاهات الفنيّة الجديدة التي تجد هنا أوّل فضاء شرعي لها، دائم وثابت، يطمح الى مد جسور بين تجارب واتجاهات وأسواق، وإلى"وصل الفن المعاصر في الغرب بمثيله في المنطقة"... من هنا ربّما، بدت أندريه صفير محاطة ليلة افتتاح الغاليري، بفنّانين ومنظمين يراهنون على أشكال التعبير البصريّة، مثل وليد رعد مجموعة أطلس، أكرم الزعتري المؤسسة العربية للصورة، كريستين طعمة جمعيّة أشكال ألوان...اسم المعرض يحيل إلى رحلة طيران، وهو في الحقيقة يرمز إلى الشهر الرابع من العام الجاري، موعد اقلاع المغامرة، وهو تاريخ مفصلي في الذاكرة اللبنانية، إذ يقترن بالذكرى الثلاثين لاندلاع الحرب الاهلية. ويضمّ المعرض أعمالاً لتسعة فنانين من لبنان ومصر وفلسطين وإيطاليا وتشيلي واليابان والمانيا، تلتقي عند تيمة"الهويّة". الهويّة في مختلف تجليّاتها، من زاوية العلاقة بين"المحلّي"و"الشامل"أو المعولم،"مع تركيز على حوض المتوسّط، والشرق الأوسط باستثناء اسرائيل"كما توضح أندريه صفير في تقديمها للمعرض. وهذا الهمّ المتوسّطي يتجلّى في عمل لميكل انجلو بيستوليتو جماعة آرتي بوفيرا سبق أن قدّمه في بينالي البندقيّة قبل عامين، وهو امتداد لمانيفستو كتبه العام 1994 تحت عنوان"حبّ الاختلاف". يأتي العمل على شكل طاولة، سطحها كناية عن مرآة، وتتخذ شكل حوض البحر الأبيض المتوسّط. ينشط بيستوليتو، كما هو معروف، في مجال خلق أطر الحوار والتفاعل الثقافي والفنّي بين مختلف دول المتوسّط، انطلاقاً من مشاغل مشتركة بعضها حضاري، وبعضها الآخر سياسي. ويأتي عمله المعروض في بيروت، ضمن هذا الاتجاه. الفنّان هيرويوكي ماسوياما يدوّن من جهته سجلاً بصرياً لرحلة بالطائرة من طوكيو إلى بيروت. اسم العمل"طوكيو - بيروت"، وهو كناية عن مونتاج طويل لكليشيهات فوتوغرافيّة جويّة، التقطها الفنّان كلّ عشرين ثانية خلال رحلته، واندمجت الانطباعات البصريّة للأرض من عل، في صورة بانوراميّة شاسعة عرضها عشرات السينتمترات، تحتل جداراً كاملاً في الغاليري، وتقدّم رؤيا خاصة لتجليات تلك المسافة، بكل أبعادها..."المسافة"التي تجمع بقدر ما تفرّق. ومن المانيا يشارك الفنّانان تيل كراوزو وألغر أسر الذي يحاول ألغر أسر . يقدّم كراوزو عملاً خاصاً جداً اسمه"أكل بيروت". والفنّان الذي جاء على درّاجته من جنوب افريقيا، يختبر المكان ويعيد تخطيطه على الخريطة، انطلاقاً من نشاط انساني بسيط، محكوم بالضرورة: الطعام. هكذا راح يقصد المطاعم المختلفة، ويكتشف وجباتها، ويكوّن لنفسه اطاراً جغرافيّاً انطلاقاً من مشاهداته واكتشافاته التي يدوّنها على مجموعة لوائح متجاورة في المعرض، إلى جانب خريطة بيروت. وفي هذا التأريخ الذاتي للمكان، ما يحيل الى تجارب للبناني وليد رعد الذي يشارك في المعرض، من خلال صور ل"مجموعة أطلس". ويمضي ألفريدو جار، الفنّان التشيلي المقيم في نيويورك، في اتجاه خاص آخر... زارعاً شاشاته السود في أنحاء الغاليري، مع عبارة مكتوبة بالأبيض وبالانكليزيّة:"علمنا أن نتفوّق على جنوننا". وقد استوحى جار عمله من قصّة للكاتب الياباني كنسابورو أوي عن معاناة ابنه الذي ولد يعاني خللاً عقلياً، والصراع من أجل تجاوزه، الأمر الذي حققه لاحقاً بنجاح من خلال الابداع... والعرض دعوة الى التجاوز والارتقاء الانساني، و"صرخة"من أجل عالم أفضل بناؤه منوط بالأجيال الجديدة. وبين المشاركين العرب يتوقّف الزائر أمام عرض المصريّة أمل القناوي التي اكتشفها الجمهور في العالم العربي، أوروبا، من خلال عرض بعنوان"الغرفة"، جاء عنيفاً وقاسياً وموجعاً ومفاجئاً. هذا التجهيز يستعمل الفيديو، ويقوم على حضور الفنانة في جزء من الفضاء. المرأة في مواجهة ثوب العروس، تخيط من خلاله"كفنها"الأبيض، أداة عبوديتها واستلابها... في مناخ يتراوح بين رمزيّة سهلة أحياناً، وسريالية تذكّر بأجمل تجارب السينما الطليعية التشيكية منذ سبعينات القرن الماضي. ثم تلاه عمل بعنوان"رحلة"يمضي في سبر تجربة الألم، بنبرة أكثر هدوءاً. وفي عرضها البيروتي تجمع قناوي أجزاء من أعمالها السابقة، فتدمج فيديو "الغرفة"، مع مجموعة رسوم صغيرة، وعنصر من عرض"رحلة": مجسم شمعي لقدمين نسائيتين بالحجم الطبيعي، على أريكة بيضاء، في مكعّب من الزجاج. تزين القدمين رسوم وتحوم حولهما فراشات زاهية اللون. الفراشات تعود في أعمال قناوي، وكذلك السرير وثوب العروس، والسكين والابرة مغروزتان في الجسد، وخصوصاً الأشلاء المكررة كما في حال هوس. بصمت مدو ومزعج، تعيد الفنانة انتاج معاناة المرأة العربية، وبحثها عن هويّتها وحضورها، وسط دائرة من القيود والاثقال... وتتوسّل ضمير المتكلّم إذ تهمس بأسرار الأنثى وأوجاعها. يبقى سؤال حول مدى صوابية خيار السيدة صفير، إذ تقوم بدمج أجزاء من أعمال مختلفة للفنّانة في حيّز واحد، فتستدرج المتلقي الى فخّ التعامل معها بصفتها عرضاً متكاملاً! أما إميلي جاسر، فتروي في تجهيز بعنوان"رام الله/ نيويورك"حال التفاوت بين زمنين متباعدين تجمع بينهما هويّة واحدة. هذا الزمن الفلسطيني المزدوج، أو المنشطر، يتوزّع على شاشتي فيديو متجاورتين، تنقل كل واحدة، انطلاقاً من حالات وأطر متوازية، وقائع وتفاصيل من الممارسات اليومية عبر تسجيل وثائقي، اختباريّ الايقاع، من صالون الحلاقة إلى محل الشاورما ومقهى النرجيلة... في ريبورتاج"حيادي"، نعيش الحال نفسها مرتين: من جهة في رام الله بلد الفنانة، ومن الاخرى في نيويورك التي احتضنتها وشهدت تبلور تجاربها منذ ست سنوات. يسائل العمل فكرة الحدود بين الداخل والخارج، الهنا"والهناك"،"الجزيرة"وCNN، والانتماء، والغربة التي تجمع بين الضفتين. من خلال رصد تجليات المقاومة كفعل حياتي، تحاول إميلي أن تسرد الوقائع من منطلق ذاتي، يشرك المتلقّي، ويقطع مع الرواية الرسمية للصراع. هكذا يتشكّل نثار الواقع المتشظي على شاشتي فيديو، فوق جدار في غاليري لبنانية، بعد أن جالت أعمال هذه الفنانة على قاعات عرض عالميّة عدة، وآخر مشاركاتها كان في بينالي الشارقة قبل أيّام. وتشارك في ال"رحلة 405""مجموعة أطلس"، من خلال حلقة جديدة من"حديث عذب". يشتمل العرض على صور اشتغلت عليها لميا حلوة على مرحلتين من تاريخ لبنان الراهن. العام 1992 ابّان الخروج من الحرب وانطلاق مشاريع الاعمار، ثمّ في ال2005 بعد أن أتخذت مشاريع استعادة المدينة الشكل الذي نعرفه. صور لواجهات عمارات في بيروت، أعيد"تفصيلها"وتنسيقها"بحثاً عن المدينة". الصورة هنا لها أبعاد متعددة، وتحمل معاني مختلفة. وتقوم عمليّة الرصد الى مساءلتها... و"ترميمها"بالمعنى الأركيولوجي الذي يحاول استكمال الجزء الناقص غير المرئي انطلاقاً من المادة الموجودة. وتقوم علاقة الفنان اللبناني أكرم الزعتري بالصورة، أيضاً على هاجس دراسة الراهن، من خلال الممارسة الفوتوغرافيّة بين الأمس واليوم. ضمن هذا التوجّه عمل الزعتري على تجميع أرشيف المؤرخ جبرائيل جبّور مع المصوّر مانوغ، وتحديداً الصور التي تتعلّق بالبادية السوريّة التي التقطت أواسط القرن الماضي. والمعروف عن الزعتري استعماله الفيديو في علاقة مواجهة - أو مساءلة - مع الفن الفوتوغرافي. هكذا حقق آخر أفلامه"اليوم"2004، وعاد الى تلك البادية التي التقطت فيها الصور القديمة، ملتمساً تلك الحدود الفاصلة بين الأمكنة والأزمنة المختلفة. والتجهيز الذي يعرضه الزعتري في"غاليري صفير - زملر"بعنوان"بانوراما الصحراء"9 دقائق، يأتي في السياق نفسه، بل يندرج على هامش مشروع الفيلم، كأنّه خلفيّة مختبريّة له، أو"دراسة"للعمل، كما يقوم الرسام لدى تحضير لوحته. إلا أن عرض الزعتري يبدو هنا عملاً متكاملاً... حركة بانورامية بطيئة، نستعرض من خلالها صور الشخصيات في قلب البادية على خلفيّة الصحراء، الرجل، زوجته، الابل، السيارة وركابها... حاملة الجرّة. محاولة اضافيّة لقياس المسافة التي تفصلنا عن الذاكرة، في زمن التحولات، وتعقّد مفهوم الهويّة، والأسئلة التي تطرحها علينا "العولمة".