ترتبط مجزرة الدجيل، التي يحاكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين عليها الآن، بحادث ذي حساسية عالية بالنسبة الى الرئيس العراقي السابق, وهو محاولة الاغتيال، إذ أطلق بضعة شبان من قرية الدجيل النار على موكبه أثناء مروره عائداً من مسقط رأسه تكريت. الرصاصات أطلقت على عجل ومن وراء سياج وسط البساتين، وبعض المشاركين أطلقوا النار حتى من دون أن يروا الموكب. وعلى رغم أن الرصاص لم يمس سيارة صدام حسين ولم يصب سيارات حمايته إصابة جدية، إلا أن صدام تعامل مع الحادث برد فعل سريع وعلى شكل مجرزة جماعية وكان حريصاً على ان يشهد العقاب بنفسه. ويرتبط رد الفعل هذا بسببين: أولهما موضوع الإغتيال, وثانيهما علاقة الاغتيال بالحرب الدائرة في حينها بينه وبين ايران. فمن المعروف أن لصدام المعارض ثم الحاكم حساسية عالية إزاء الاغتيال. معارضاً بدأ نشاطه السياسي في مدينته تكريت متهماً باغتيال أحد أقاربه وهو المسؤول الشيوعي في المدينة الحاج سعدون، ثم صعد نجمه في بغداد بعد مشاركته مع فريق من البعثيين في محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم مطلقاً النار من غدارة نوع"سترلنك"على موكبه خلال مروره في شارع الرشيد، وقد أصيب صدام برصاصة في ساقة وقضى سنوات في المنفى مطلوباً حتى عودته ليقود تنظيماً حزبياً جهاز حنين كانت الاغتيالات جزءاً أساسياً من مهماته. وبعد وصوله الى السلطة صار هو هدفاً لأكثر من خمسين محاولة اغتياله، بحسب بعض التقديرات، بعضها من أفراد حمايته وأكثرها حدثت خلال الحرب مع إيران. وفي الحالين قاتلاً أو مستهدفاً بالقتل تشكلت لديه حساسية مفرطة إزاء محاولات الاغتيال تحكمت بنمط حياته: من طريقة تناوله طعامه بعد أن يقوم أحد مرافقيه بتذوقه، الى أسلوب نومه وأماكنه في غرف أو بيوت متعددة ومفاجئة، الى طريقة تنقله بواحدة من مجموعة سيارات متشابهة، وغالباً ما يغادر خارج الموكب الرسمي وينظم الحماية في شكل مجموعات مقطوعة عن بعضها بعضاً يجرى تغييرها بين فترة وأخرى. والأهم من ذلك اعتماده على رابطة الدم، بدلاً من رابطة العقيدة، في اختيار الحماية المقربة. وترتبط مجزرة الدجيل بسلسلة المجازر التي رافقت الحرب العراقية - الإيرانية. بدأت بالحملة على العراقيين الشيعة مع بداية الحرب ثم الحملة على قرى بارزان ومجازر حلبجه والأنفال في نهاية الحرب. فهل كانت هذه المجازر امتداداً للحرب ونتيجة لها، أم إن هذه الحرب والحروب التي تلتها كانت في وجهها الأبرز تصريفاً خارجياً للتوتر الداخلي؟ الجواب عن ذلك يشبه الجواب عن أسبقية البيضة أم الدجاجة لأن الحربين الداخلية والخارجية تداخلتا لدرجة يصعب معهما تمييز السبب عن النتيجة. الحرب الخارجية والحرب الداخلية منذ بدايتها عاش البعث العراقي وقائع الثورة الإيرانية بقلق وأعصاب مشدودة. فالحساسية الأمنية المفرطة لا تستطيع أن تنظر الى الحدث الخارجي كتحول مستقل قائم بذاته ولذاته، إنما تراه قبل كل شيء بمدلولاته وانعكاساته على أمن العراق الداخلي. وحسب مدير أمن عراقي سابق فاضل البراك فپ"إن الإطلاع على ما تعيشه الدول المجاورة قد يسهل علينا أن نعرف كيف نجابه الأخطار التي أدت إلى التدهور في إيران فضلاً عن إدراك المؤثرات التي قد نتعرض لها بفعل النتائج والمواقف والتطورات التي ترتبط بالوضع في إيران". ومصدر الخطر الأساس في الحدث الإيراني يكمن في محتواه الأيديولوجي أولاً ثم في توقيته السياسي ثانياً. أيديولوجيا اعتبرت القيادة العراقية المد الإسلامي الذي أشاعته الثورة الإيرانية مؤامرة على التضامن العربي الذي أوشك البعث العراقي أن يقوده بعد تحول بغداد مقراً للقمة العربية عام 1979 ومكاناً لقمة عدم الانحياز التي كان يفترض أن تعقد في بغداد عام 1981. وتوقيتاً جاءت التطورات الإيرانية في وضع داخلي شديد الحساسية والاستثناء... فمن عادة البعث أن يخوض حروبه الداخلية بالتتابع... يتحالف مع قوة سياسية ليضرب أخرى منفردة. في هذه المرة كان يخوض حربه الداخلية على كل الجبهات: حملة اقتلاع وتهجير للأكراد الذين استعادوا نشاطهم المسلح في الجبال العصية المحاذية لتركيا وإيران, حملة اعتقالات واعدامات للشيوعيين بعد انفصام التحالف الهش بين الحزبين, وحملة على الشيعة منذ مسيرة مرد الرأس عام 1987، إضافة إلى حملة تصفيات داخل البعث بعد تسلم صدام الرئاسة من البكر عام 1979. وبدأت الحرب مع محاولة أغتيال سبقت محاولة الدجيل بعامين على الأقل. ففي ظهيرة 1 نيسان ابريل 1979 وصل نائب رئيس الجمهورية عضو مجلس قيادة الثورة طارق عزيز إلى جامعة المستنصرية في بغداد لافتتاح"الندوة الاقتصادية العالمية"وبينما هو يصافح مستقبليه من قيادات الاتحاد الوطني، اخترق الصفوف الطالب سمير نور علي وألقى قنبلتين... أصيب طارق عزيز بكسر في ذراعه واقتلعت عين مرافقه وانتحر الشاب بإطلاق رصاصة في فمه. وفي الوقت الذي ألقيت فيه القنبلة على طارق عزيز، كان صدام حسين الذي يفترض أن يفتتح الندوة بنفسه، يقوم بزيارة مفاجئة إلى قضاء الصويره على الحدود مع إيران. ولا بد من انه شاهد بالعين المجردة مرتفعات"زاكروست"الإيرانية... ومن هذه المدينة وجه تحذيراً شديداً لپ"الدول الكبرى والمتوسطة والأصغر"قال فيه:"سنكون شوكة في عيون المعتدي". النظام الذي اعتاد أن يحيل تناقضاته الداخلية إلى الخارج يفهم أنه ما من حرب خارجية وما من توتر خارجي وفق هذا المنطق الأمني، إلا وله أمتداده في الداخل، ولذلك تبدأ الحرب الداخلية قبل الخارجية أو ترافقها وتساويها في الأداة والشدة. هنا أحيل الحدث الداخلي محاولة الإغتيال الى توتر خارجي مع إيران. ولكن الحرب الداخلية سبقت الخارجية ومهدت لها. فقد شن النظام حربه الداخلية على ثلاثة محاور: العقل المفكر للشيعة بإعدام المرجع الديني محمد باقر الصدر، ونفوذهم المالي بالاستيلاء على سوق الشورجة التجاري، وعلى قاعدتهم البشرية بحملة تهجير واعتقالات طاولت أكثر من 300 ألف تحت شعار سنرسل الخمينيين الى خمينيهم... وكانت هذه الحرب الداخلية التمهيد الضروري للحرب الخارجية كما كانت الحرب الخارجية ضد إيران، في واحد من وجوهها، الوسيلة المثلى لتصريف التناقضات الداخلية... وسيبرر كل القمع الداخلي بالحرب ضد عدو خارجي وتصبح هذه القاعدة الثابتة التي يتبعها النظام في متتالية"حرب تلد أخرى". ويدرك النظام ان القمع يفقد بعضاً من سطوته ان هو تحول الى عادة رتيبة. ولذلك يقوم بتجديده وتصعيده ليثبت للمخاطبين ان كل الشرور ممكنة ولا حدود لخيال النظام وقسوته. وسيكون التصعيد اللاحق هو مجزرة حلبجه في 24 نيسان 1988. الدجيل وحلبجه إذا استعدنا التوقيتين سنجد أن مجزرة الدجيل حدثت في فترة انعطاف في مسار الحرب وبروز الميل الإيراني لفرض إرادة خارجية لتحقيق تحول داخلي. في حين ترافقت مجزرة حلبجه مع نهايات الحرب وإمكان إنقلاب المجتمع العسكري الذي خلقته الحرب نحو الداخل في حال توقف الحرب. في الحالين تطلب الخطر عقاباً تحذيرياً يجدد خيال الجلاد والضحية معاً. وتذكر الوقائع بالتكتيكات العسكرية التي اتبعتها كتائب فرانكو ضد الجمهوريين والتي تلخصت في بيانهم الأول في 17 تموز يوليو 1936:"إن إعادة فرض مبدأ السلطة الذي جرى التخلي عنه في السنوات الماضية تستوجب العمل بإلحاح على أن تكون العقوبات نموذجية والمقياس في ذلك هو الشدة والسرعة التي يجري بها التنفيذ". ففي مجزرة الدجيل كما في الأمثلة اللاحقة تجسدت السرعة في ترافق نموذجي بين التحقيق والتنفيذ والحدث. المحاكم الميدانية شكلت فور وقوع محاولة الاغتيال ونفذ العقاب ميدانياً بالتزامن مع الحدث. كما ترافق القرار مع التنفيذ بحضور صدام حسين نفسه في ساحة الحدث. ووفق منطق المجازر الجماعية لا يحتاج العقاب الى التطابق مع ذنب يساويه، لا في شخصية المذنب ولا في تزامنه مع الذنب ولا في تجاوره معه مكانياً... المهم ان يكون هناك عقاب شديد على ذنب ما. وسيطبق هذا العقاب على اي متهم ولأي ذنب لكي يدرك الكل بشاعة ما سيتحمله الآخرون إذا أقدموا على فعل مشابه. ولكي يكون التحذير واضحاً ومؤثراً لن يقتصر العقاب على القائمين بالفعل وحدهم، إنما البيئة البشرية والجغرافية التي جاؤوا منها. ففي الوقت الذي كانت الجرافات تجرف بساتين المدينة وأشجارها وبيوتها، كان جميع الأهالي، من السنة والشيعة قد احتجزوا في معسكرات اعتقال وقسموا قطاعات بشرية مذنبون، يحتمل أن يكونوا مذنبين، وأبرياء. الرعب ينبغي أن يشمل الجميع، بما في ذلك أعضاء في مليشيا النظام الجيش الشعبي كما يرينا الشريط الذي عرض خلال محاكمة صدام، وجرى تنفيذ حكم إعدام فوري حتى من دون محاكمات في ساحات القرية. لم تكن البشاعة نتاجاً عرضياً لعقاب، انما كانت البشاعة نفسها مطلوبة. وقد كانت صورتها ماثلة في خيال الذي اتخذ القرار وقد حضر بنفسه التحقيق والتنفيذ. وقد اتبعت الحملة اسلوب الابادة الجماعية التقليدي الذي يقوم على الثوابت الثلاث: تحديد - حجز - ابادة. الرعب والاستسلام وأعود هنا لتعليمات كتائب فرانكو التي توصي بتشديد العقاب على مجموعات تؤوي الجمهوريين، وبضرب هذه المجموعات في مناطق تجمعها الذعر الذي سيصيب المدنيين سيؤدي الى تحطيم معنويات القوات المنسحبة. الرعب سيدفع إلى الاستسلام ويجعل أي مقاومة مستحيلة ما دام كل شيء مهما كان جنونياً يبدو ممكن التحقيق من خلال هول الجريمة. وفي مجزرة الدجيل والمجازر اللاحقة تساوت الحربان الداخلية والخارجية في التوقيت والشدة. فأخطر الأسلحة التي استخدمها النظام في حربه الخارجية الأسلحة الكيماوية جربت داخلياً على المساجين السياسيين، ثم على القرى الكردية قبل أن تجرب على العدو الخارجي. وتستند حروب الإبادة الداخلية إلى إرادة تريد فرض انسجام قسري على مجتمع يمثل القائد رمزه الموحد. وتنكر هذه الإرادوية وجود تعارض داخلي بين السلطة وأي جماعة، وحين يتعذر الأنكار المعنوي يحال التعارض الى امتداد خارجي، وعندها ستبدأ الإبادة الجسدية. وبمقارنة بسيطة بين عدد المنفذين في مجزة الدجيل 12 بمن فيهم الاستطلاع وعدد المعاقبين 148 أعدموا ونحوپ500 اعتقلوا نجد أن المنطق التحذيري يريد بالعقاب الحالي مخاطبة نيات الآخرين. ولذلك فمن المهم ان يكون هناك عقاب شديد على ذنب ما لا يقتصر على الفاعلين وحدهم، إنما يشمل محيطهم السكاني أيضاً، وببشاعة العقاب يراد تصدير رسالة للمدن الأخرى كنموذج لما يمكن أن يحدث لاحقاً.