هواة موسيقى الروك الفعليين في لبنان والعالم العربي، يبستمون غالباً بشيء من السخرية وكثير من الشفقة، حين تحدثهم عن"الروك"الفرنسي. فال"روك"بالنسبة إلى كثيرين إما أن يكون إنكليزياً - أميركياً أو لا يكون. وفي الحقيقة لا يبقى الروك تماماً كما يحبّه جمهوره"الأصولي"حين يكون فرنسيّاً. لكن هناك روك فرنسي قطعاً، وروك جميل ومميّز لا يشبه سواه... هذه هي الرسالة التي حملتها إلى بيروت فرقة"الرؤوس اليابسة"إذا جاز ترجمة اسمها الفرنسي Les Tگtes Raides التي أحيت أوّل من أمس، أمسية لا تنسى على خشبة"ميوزيك هول"، بدعوة من المركز الثقافي الفرنسي. في مكان ما بين الارث"الانغلو - ساكسوني"من الروك البديل أو"ألترناتيف روك"وموسيقى ال"بانك"... وبين تقاليد الأغنية الواقعيّة الفرنسيّة، تقف هذه الفرقة لتغرّد خارج سربها إلى جوار فرق وتجارب أخرى في فرنسا مثل"نوار ديزير"و"لويز أتاك"، وقد فرضت نفسها على الساحة الموسيقيّة، عن طريق نتاج صاخب تردد بين مدارس واتجاهات عدّة، قبل أن يرسي على هويّته الحاليّة. هكذا باتت اليوم تجمع في أعمالها تقاليد عدّة، تختصر مسيرتها الشخصيّة وتحوّلاتها. بدءاً بتأثيرات البدايات في احدى ضواحي باريس، مطلع ثمانينات القرن الماضي، حين تحلّقت حول المغنّي والمؤلف كريستيان أوليفييه مجموعة شبان منشغلين بالرسم والشعر والديزاين انشغالهم بالموسيقى. تلك المرحلة بقيت منها اليوم بصمات موسيقى ال"Punk"الصاخبة، المكهربة، الموقّعة، والعنيفة. لكن تحوّلات حاسمة في التسعينات اسطوانة"العصافير"1992 جاءت بالموسيقى الهادئة النغميّة والميلوديّة القائمة على قصائد ونصوص شاعريّة. هنا انفتحت الفرقة على تلوينات جديدة، قوامها آلات النفخ النحاسيّة، وصار للشعر والكلمات حضورهما الراسخ، كنوع من الامتداد لتاريخ الاغنية الفرنسيّة، أغنية المؤلف، الاغنية الواقعيّة. لكن أغنيات"Les Tگtes Raides"تنتمي الى واقعيّة جديدة ذات لمسة سريالية واضحة، قائمة على تجاوز العلاقات المنطقيّة بين الكلمات، والمستوى التقريري للأغنية الملتزمة التقليدية... الى سخرية ملؤها الغرابة، والى لغة مباشرة وغريبة وحيّة، سوقيّة أحياناً ونابضة بالانفعالات دائماً، تعكس هموماً جماليّة وسياسيّة واخلاقيّة راديكاليّة. هكذا وقف كريستيان أوليفييه على الخشبة البيروتية تحيط به فرقته كالي على الباص، غريغوار على الساكس، سكوت تايلور على النحاسيات، آن-غاييل على التشيلو، إديث على الترومبون والبيانو، يعزفون آلات مكهربة وأخرى صوتيّة، يزاوجون الأكورديون الآتي من الحفلات الشعبية القديمة في فرنسا جافا، وفالس، وBal musette مع التشيلو والكمان، والغيتار الاسباني مع نقرات البيانو على ال"كيبورد". وطبعاً الآلات الوتريّة تحتل جزءاً مهمّاً في التأليف، وكذلك الساكسوفون والترومبون والتوبا... والغيتار الكهربائي والدرامز الاساسي في تكوين ملامح الفرقة... أوليفييه بصوته الأجشّ، القوي، القاسي، الذي يذكّر بسيرج ريجياني وجاك بريل، ويستحضر احياناً طيف الشاعر والمغنّي الروسي الملعون أيام السوفيات فلاديمير فيسوفسكي، ويعيدنا الى ثلاثينات القرن الماضي. ويستعيد مناخ الحفلة الحيّة، وطريقة التعاطي مع الموسيقى والكلمات، تقاليد الكاباريه السياسي ومناخات السيرك... فرقة The Clash وهستيريا ال"بنك"تخيّم على المسرح، وكذلك ال رولينغ ستونز"وتشاك بيري، هذا صحيح! لكن المغنية الفرنسية أديت بياف نفسها ليست بعيدة عن المكان، بلغتها الحادة الجارحة وديكورات أغنياتها... وماذا نقول عن ليو فيري آخر الفوضويّين، والأب الروحي لفرقة"الرؤوس اليابسة"؟ كلّ هذا في حفلة روك؟ ألم نقل إنّه الروك الفرنسي، خليط من تأثيرات، تربط بينها الكلمة ويوحّدها الخطاب النقدي والجذري... في لحظات الهدوء التي يطلق فيها أوليفييه كلماته رشقات، وتتحاور آلتان صوتيتان، نلمس كم أن هذا"الروك"على درجة من"الباروك"والشاعريّة وتنوّع الايقاعات، وتحاور القوافي... نحن في مسرح، أو كاباريه سياسي، والخطاب التصعيدي يستحضر شعراء بارزين مثل الشاعر الفرنسي بوريس فيان Boris Vian 1920 - 1959 الذي نشعر بدهشة ونحن نسمع كلمات قصيدته الشهيرة التي ترجمتها"لا أريد أن أموت..."Je n" voudrais pas crever ابقاعات الروك مع غيتارات كهربائيّة، علماً أن الشاعر كان أيضاً موسيقي جاز وقد أدّاها بصوته، بلحن فيه كل عذوبة الخمسينات. كما استحضر كريستيان أوليفييه ورفاقه نصّاً غاضباً للكاتب الجزائري كاتب ياسين 1929 - 1989"في فم الذئب"، يستعيد تظاهرة شهيرة في باريس من أجل استقلال الجزائر، قمعتها الشرطة الفرنسية العام 1961. إن أطياف شعراء كبار مثل هنري ميشو، وجان كوكتو وفرناندو بيسووا... كانت هي الأخرى تحوم في الجوار... إنّه الروك الفرنسي مرة أخرى!