أعادت قمة الجزائر العربية طرح مبادرة السلام العربي، وأكدت رفض محاولات تعديله التي وصفت بأنها"محاولة للالتفاف عليه، لفصل تطبيع العلاقات مع إسرائيل عن تعاونها في التسوية مع الأطراف العربية". ومعنى ذلك أن المبادرة التي تقدم تصوراً شاملاً للتسوية، والتي وضعتها خارطة الطريق في اعتبارها، لا تزال تجسد ما يردده العالم العربي بأنه خيارهم الاستراتيجي للسلام. وعندما طرحت هذه المبادرة في قمة بيروت في 28 آذار مارس 2002، رد شارون عليها في اليوم التالي مباشرة باجتياح الضفة الغربية، وتنفيذ عملية واسعة من المذابح والمجازر والإبادة في جنين. واستمرت هذه المذابح أكثر من شهر ونصف الشهر، عاودت إسرائيل خلالها احتلال الأراضي الفلسطينية، وتمكنت من إذلال الأممالمتحدة التي حاول مجلس الأمن فيها على استحياء أن يرسل لجنة لتقصي الحقائق في مذابح جنين بناءً على تشجيع إسرائيل، التي رفضت دخول اللجنة الأراضي الفلسطينية بعدما أبقتها أسبوعاً كاملاً تنتظر ردها في جنيف. واضطر الأمين العام لأن يبتلع في هدوء كبرياء مجلس الأمن، وأن يطوي في صمت القرار الرقم 1403 الخاص بهذه اللجنة. واستغرب العالم العربي يومها لماذا تتعامل إسرائيل بهذه الوحشية مع حمامة السلام العربية. فتقوم، ليس فقط بإحراق غصن زيتون، وإنما باقتلاع شجرة الزيتون من أساسها، حتى تبيد صاحب الأرض ونباتها. ولم تتمكن جامعة الدول العربية والإعلام العربي من استخدام هذا الموقف، كما عجزت الديبلوماسية العربية عن توظيف هذه الحقائق للتنديد بإسرائيل وإدانة مواقفها. بل قبلت المنطقة العربية في صمت إهانة جديدة، وهي عدم التعقيب على تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الذي أكد فيه وجهة النظر الإسرائيلية في أحداث جنين، وهي أن الإصابات البشرية والمادية لا يمكن أن تكون مشهداً من مشاهد الإبادة الجماعية، وإنما هي في أسوأ الأحوال نتيجة المواجهة بين الجيش الإسرائيلي وبين عناصر"الإرهاب"الفلسطيني. وعبر شارون عن خطته صراحة في الإعلام الدولي، وحدد برنامج العمل أقرته الكنيست البرلمان الإسرائيلي، كما شكل حكومة ائتلاف وطني لتتحمل المسؤولية الجماعية وسط شعب منحها التفويض المطلق لتحقيق الأمن له وفقاً للمنظور الشاروني، الذي يفخر الإسرائيليون اليوم بأنهم يجنون ثماره. أما مبادرة السلام العربية التي يعتبر البعض أن مجرد إعادة طرحها في قمة الجزائر هو قمة النجاح في ضوء محاولات تعديلها، وتحويل قمة الجزائر إلى أداة للتطبيع والتصفية بدلاً من أن تكون سنداً لرد الحقوق في إطار تسوية عادلة، فقوبلت مجدداً برفض اسرائيلي. وطبيعي أن ترفضها إسرائيل، بل طبيعي أيضاً أن تعتبر واشنطن أن قمة الجزائر أضاعت وقتها في ما لا طائل منه. فلماذا يتوقع العرب أن تقبل إسرائيل خطة عربية للسلام، وهي عادة لا تقبل الخطط العامة، وإنما تصر منذ العام 1967 على التسويات الثنائية غير المتماثلة؟ ولماذا لا ترفض إسرائيل اليوم هذا المشروع الذي أُنتج عام 2002 حين كان العالم العربي في وضع أفضل كثيراً، نسبياً، من وضعه الحالي؟ فهو تحول من دعم الانتفاضة في العام 2002 إلى التبرؤ منها تماماً قولاً وفعلاً في العام 2005، بل اعتبر بعضهم الانتفاضة إرهاباً، وأنها أضاعت فرص التسوية. ومن الخطر ألا يرد الإعلام العربي، على الأقل، على إسرائيل التي أعلنت أسباب رفضها المبادرة، لأنها انطلقت من نقطة تجاهلت كل ما تحقق في شرم الشيخ، وتنفيذ إسرائيل بالفعل كل وعودها، فكان يجب على القمة، في نظر إسرائيل، أن تبارك خطوات الدولة العبرية، وأن تسارع إلى تشجيع شارون في مواجهة التطرف اليهودي الذي يعارض انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، وفى مواجهة"الإرهاب"الفلسطيني الذي يشل حركة رئيس السلطة الفلسطينية، ويمنع نداء السلام الإسرائيلي من الوصول إلى ربوع المجتمع الفلسطيني. وأضافت مصادر الخارجية الإسرائيلية سبباً آخر أكثر أهمية لتجاهل مشروع السلام العربي، وهو أن القمة تتحدث بلغة لا تنسجم مع السلوك العربي - وسط الاستعدادات لحملة واسعة من التطبيع - مادامت إسرائيل شارون عازمة على تحقيق السلام إلا أن العقبة الأساسية امامها هي وجود الفصائل"الإرهابية"الفلسطينية التي يجب تفكيكها أولاً ونزع أسلحتها وتجريم أنشطتها، وتعقب عناصرها في فلسطين وغيرها. ومعنى ذلك أن إسرائيل ترى أن الأقوال المرسلة وتمنيات السلام العربي أحلام يقظة تبشر بفجر كاذب ما دام السلوك العربي يناقض هذه الأقوال. ولعل إسرائيل تنسجم مع نفسها عندما تشعر العالم العربي في كل مناسبة بأنه لا يملك أوراقاً لهذه اللعبة، بل إنه يحرق أوراقه ببلاهة، وهي تساعده على ذلك. يكفي أن نشير إلى أن إسرائيل التي أسعدها كثيراً أن تكافئها مصر والأردن على مجرد إعلان عزمها المضي في طريق السلام في شرم الشيخ، بإعادة سفيريهما إليها، على رغم عدم وضوح هذا السلام. وخططت إسرائيل كي ترتب تقديم أوراق اعتماد السفيرين المصري محمد عاصم إبراهيم، والأردني الدكتور معروف سليمان بخيت إلى رئيس الدولة الإسرائيلية قبل افتتاح القمة بساعات، كي تؤكد الأثر النفسي الذي أحدثه تصريح وزير خارجية إسرائيل قبل القمة بيوم واحد بأن إسرائيل ستقوم بتطبيع علاقاتها مع 10 دول عربية على الأقل قبل نهاية العام 2005. وأفرد موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية على شبكة الإنترنت تغطية خاصة لتقديم أوراق اعتماد السفير المصري مع صورة فوتوغرافية له وهو في قمة السعادة مع وزير خارجية إسرائيل، ونقل الموقع عن رئيس إسرائيل تشديده في هذا اللقاء على ضرورة أن تساعد مصر في وقف"الإرهاب"الفلسطيني، لأن هذا"الإرهاب"يؤجل فرصة السلام التاريخية إلى عقود مقبلة. أما الولاياتالمتحدة، فإن موقفها من قضية التسوية واضح ولم يتغير، فقد تضمن خطاب الضمانات الذي سلمه الرئيس بوش لشارون في واشنطن في 14 نيسان أبريل 2004 تأكيداً أن التسوية في فلسطين يجب أن تستجيب للحقائق الديموغرافية، وهو ما أكده سفير الولاياتالمتحدة في إسرائيل دانيل كيرتزر قبل أيام، حين أكد أن بناء المستوطنات ينسجم مع الموقف الأميركي. وأكد مبعوثان أميركيان في اليوم نفسه هذا الرأي، وإن كانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قالت في 25 آذار مارس الماضي إن توسيع المستوطنات يتناقض مع السياسة الأميركية، ما يشير إلى تناقض في الموقف الأميركي، إذ يبدو أن الوزيرة تحاول أن تلطف أثر سياسة الاستيطان الإسرائيلية التي تؤيدها الولاياتالمتحدة على العالم العربي، أو ربما تعتقد بأن الاستيطان يعوق عملية السلام، إذ سبق أن نقل عنها قبيل قمة شرم الشيخ في شباط فبراير 2005 أنها حضّت إسرائيل على وقف الاستيطان وترك تقرير موضوع القدس إلى مفاوضات الوضع النهائي. والصحيح أن الموقف الاستراتيجي الأميركي من التسوية لا يزال ثابتاً وهو تشجيع الفلسطينيين على التسوية مع إسرائيل وفقاً لخطاب الضمانات الأميركي الذي يقضي بأن القدس عاصمة لإسرائيل وليست موضعاً للتفاوض، وأنه لا انسحاب إلى حدود ما قبل 5 حزيران يونيو 1967، وأن الواقع هو الذي يرسم خطوط التسوية. ومن الواضح أن هذا الموقف الأميركي يتناقض تماماً مع مشروع السلام العربي، ومع الشرعية الدولية في القضية، ولذلك فإن صلب المشكلة في المبادرة العربية ليس رغبة العالم العربي في سلام عادل أو سلام معقول، وإنما المشكلة في أن العالم العربي لا يتصرف على نحو يؤدي إلى تعديل الموقفين الأميركي والإسرائيلي، فهو أعجز من أن يضغط على الطرفين، ومن أن يجهر بتناقض الموقفين، ويكتفي بالإعلان من دون أن يعرف الطريق إلى التنفيذ. والهوة سحقية بين آمال العرب في السلام العادل وبين خطة إسرائيل في الحصول على ما تريد من دون أن تقدم شيئاً في المقابل. ويبقى الصراع الأشمل قائماً بين طرفين، الأول يريد سلاماً قائماً على مبادلة الأرض بالتطبيع، والثاني يريد الأرض والتطبيع كليهما، ويملك كل أوراق اللعبة التي لا يملك العرب منها شيئاً، وهي القضاء على الانتفاضة، ومنع العالم العربي من مساندتها، بل إشعاره بأن الانتفاضة هي التي عطلت قطار السلام، والسيطرة الكاملة على القرار الأميركي، وأخيراً حيازة كل أصناف القوة ومنع الآخرين من حيازتها. فلماذا تقبل إسرائيل في ظل هذا الوضع مشروع السلام العربي؟ وهل يقدم شارون ما يعتبره تنازلاً للفلسطينيين والسوريين واللبنانيين مع علمه بأن ما يمكن أن يقدمه يهز شعبيته التي تكرست أصلاً بسبب سياسات القوة الشارونية. بل إن دولاً عربية كثيرة، وفي مقدمها مصر، تحاول أن ترضي شارون على أساس أن ذلك يحقق لها مكاسب كثيرة تقدرها هي لنفسها. فإذا كان العالم العربي يجمع نظرياً على مشروع السلام، إلا أنه لا يتصرف عملياً بما يمكنه من حيازة الأوراق اللازمة لهذه اللعبة، وهي أوراق الضغط أو أوراق الإغراء، بل إنه يقدم أوراق الإغراء من دون أن يقصد حقيقة أن تحقق الهدف المجمع عليه نظرياً. فهل يبرر هذا الموقف ما قاله الدكتور بطرس غالي يوماً في مجلة"المصور"المصرية، بأنه لو كان مستشاراً لشارون لنصحه بإكمال المشروع الصهيوني في هذه الظروف المؤاتية تماماً لنجاحه؟ * كاتب مصري.