لا أضيف جديداً في القول بأن فرص العمل العربي المشترك تتناقص بشكل حاد، وان العام الجديد بدأ، وهذا التناقص يوشك ان يفرغ الجعبة العربية من الحد الادنى من العمل العربي المشترك. وليس الهدف هنا رثاء عالم يتهاوى نجمه بين نجوم الاقاليم الاخرى وتتسلط عليه فوضى النظام الدولي وضغوطه. وانما الهدف تقديم تشخيص دقيق لما بقي من فرص للعمل العربي المشترك، ثم محاولة تقديم مقترحات لعلاج هذا الموقف في اتجاه تجاوز هذه الازمة المستحكمة بالنظام العربي. سيجدّ الباحثون طويلاً في البحث عن اسباب تفسخ النظام العربي والعلاقات العربية التي اصابها الوهن بشكل مفاجئ على الاقل منذ أحداث أيلول سبتمبر 2001. ففي قمة القاهرة العربية عام 2000 كان بوسع الزعماء العرب ان يتخذوا قرارات تعالج القضايا العربية التقليدية، ولو معالجة نظرية، فكانوا يدينون إسرائيل وسياساتها ويلومون الانحياز الأميركي ويعتبون على الإتحاد الأوروبي ويشجعون الاتحاد الروسي على ان يقوم بدور لتخفيف حدة الانفراد الأميركي بقمة النظام الدولي. كما كان بوسعهم اعلان دعمهم ومباركتهم للانتفاضة الفلسطينية، ومباركتهم ولو بشكل غير مباشر تضحيات الشعب الفلسطيني الذي اخذ زمام المبادرة، بل بلغ الامر حد اعلانهم عن انشاء صناديق مالية بمبالغ خيالية لدعم شهداء الانتفاضة وابطالها الاحياء دعماً مادياً وسياسياً واقتصادياً، ولم يكن ينقصهم سوى اعلان التعبئة العسكرية لردع اسرائيل وتخفيف الضغط عن المقاومة وزرع الامل في نفوس الفلسطينيين بأنهم جزء عزيز على أمتهم التي تحتضنهم. كذلك تجرأ الزعماء العرب على التهديد بإتخاذ إجراءات اقتصادية صارمة وتجميد العلاقات مع اسرائيل، واحياء المقاطعة العربية. كنت ممن ظنوا ان هذا الخط جدي ويحتاج الى تكييف قانوني في مرحلة العلاقات السلمية فاجتهدت في بيان الأسس القانونية للمقاطعة العربية الجديدة، كما اسميتها. وفي الوقت نفسه كان العالم العربي يترقب بقلق شديد وصول حكومة شارون الى الحكم، ولكنه قلق يداخله الامل بأن يتم الفصل بين سياسات شارون وبين تاريخه ودمويته، بمعنى ان يبقى شارون وان تتغير سياسات. وبالفعل عبرت قمة عمان في احد قراراتها عن هذا الأمل في آذار مارس 2001، وكنت ممن لا يرون رأي القمة ونصحت بأن يتخذ العالم العربي في هذه المرحلة المبكرة موقفاً يتسم بالحزم تجاه شارون فيرفض الاعتراف بحكومته على غرار ما فعلت اسرائيل ومعها أميركا والاتحاد الأوروبي بحكومة نمسوية تضم هيدر رئيس الحزب الوطني، ومن قبلها حكومة الرئيس كورت فالدهايم الذي فرضت عليه عزلة كاملة لمدة عشر سنوات لمجرد ان الرجل كان يعمل بشرف ازاء الحقوق الفلسطينية. غير أن قمة عمان جددت قرارات قمة القاهرة التي تعكس ولو على الورق مواقف موحدة من مختلف القضايا العربية. ثم جاءت قمة بيروت في آذار مارس 2002 وبدا الاهتزاز واضحاً من أثر أحداث 11 أيلول سبتمبر وعلامة استفهام كبيرة تطوق قاعات المؤتمر بعدما اتهم العرب والمسلمون بأنهم الضالعون في هذه الأحداث، وان العالم العربي اصبح ساحة للانتقام وان العرب والمسلمين أصبحوا كبش الفداء امام الانتقام الأميركي. وللحق، فإن قمة بيروت العربية حاولت المحافظة على ثوابت الموقف العربي، ولو من الناحية النظرية ايضاً، لكن الطموح الذي سيطر عليها كان مفارقاً تماماً للهوة التي كان العالم العربي ينزل اليها. يكفي ان نشير الى أنه في الوقت الذي تواضعت المواقف العربية العملية، فإن قمة بيروت قدمت مبادرة بالغة الطموح لقيت تحدياً اسرائيلياً مكشوفاً ومساندة أميركية مستترة لهذا التحدي مما يكشف عن الفارق بين طموح المبادرة، ومدى ملاءمة البيئة الاقليمية والدولية لإستيعابها. وتولى شارون الرد على المبادرة بإجتياح الضفة الغربية بعد انتهاء القمة بساعات ليبعث بإشارة الى العالم العربي، بأنه في واد وموازين القوة في المنطقة في وادٍ آخر، وان الفارق بين فاعلية العالم العربي وقدرته على التنفيذ وبين مشروعه كالفارق بين السماء والأرض. ثم كانت مذابح جنين التي تحدت إسرائيل فيها مجلس الامن الذي وقف صاغراً امام هذا التحدي وابتلع اهانته في كبرياء ذليل وقبل تعطيل قراره الرقم 1403 في نيسان ابريل 2002، والعالم العربي لا يحرك ساكناً، بل بدأت واشنطن واسرائيل حملة ضارية على العالم العربي والاسلامي، فاتهمتهم بمساندة "الإرهاب" الفلسطيني، وحذرتهم من تقديم اي دعم اعلامي أو سياسي أو مالي للعمليات الاستشهادية او للمنظمات الفلسطينية او للجمعيات الخيرية، بل إن واشنطن طالبت الدول العربية صراحة بتعديل برامج التعليم وتهذيب التعليم الديني والخطاب الديني والثقافي، حتى لا تنمو فيه مشاعر العداء للولايات المتحدة اي الارهاب بالمفهوم الأميركي. ثم تصاعدت الحملة الأميركية ضد الحكومات العربية، والمساندة تماماً للبطش الاسرائيلي، حتى أصبحت الانتفاضة ومجرد ذكرها جزءاً من ثقافة الارهاب. وتعرض العالم العربي فعلاً لأكبر حملة إرهابية من واشنطن، وقادت الحكومات العربية الى اعتقاد خاطئ بان السلام في فلسطين ممكن فقط اذا تم التغلب على "الارهاب" الفلسطيني ووضع المنظمات الفلسطينية على قائمة المنظمات الارهابية، والتي يجب تفكيكها ونزع سلاحها بعد ان ادركت واشنطن واسرائيل ان الانتفاضة هي اكبر خطر يهدد اسرائيل مما كانت تهددها العمليات الفدائية الفلسطينية حتى غزو بيروت 1982. وعندما ثارت المشكلة حول جزيرة "ليلى" بين المغرب وأسبانيا عام 2003، وتحالف الاتحاد الأوروبي مع أسبانيا، سكت العالم العربي تماماً، بل خرجت منه اصوات تدين المغرب ما دفع المغرب الى احتواء الموقف بسرعة، خصوصاً بعد ان فهم المغرب ان واشنطن تخطب ود مدريد من اجل الحشد السياسي والعسكري الذي كان بدأ أواخر 2002، استعداداً لغزو العراق. وليس صدفة أن يصدر الكونغرس قانون ضم القدس لإسرائيل في أيلول سبتمبر 2002، وهي الذكرى الثالثة للانتفاضة، ثم تركز واشنطن على حملة غزو العراق التي بدأتها بقرار مجلس الأمن 1441 في تشرين الثاني نوفمبر 2002 لتفتيش العراق بعد اتهامه بحيازة اسلحة الدمار الشامل. كان ذلك نذيراً بأن مأساة العراق ستثقل كاهل العالم العربي المثقل أصلاً، ولذلك كان شبح الحرب ضد العراق اقترب كثيراً من الواقع عندما حان انعقاد القمة العربية الدورية الثانية في المنامة - البحرين، والتي تقع على خط النار، فتقرر عقد هذه القمة في شرم الشيخ في الأول من آذار مارس برئاسة البحرين. ولكن هذه القمة لم تتمكن من المحافظة على المواقف السابقة نفسها في القضية الفلسطينية، كما انها تحاملت على نفسها لكي تتجاوز الانقسامات الحادة حول القضية العراقية بقرارات تكشف عن هذا التمزق، خصوصاً ان الاتجاه العام لم يكن ليجرؤ على معارضة الغزو أو تحديد موقف العالم العربي منه، بل إن بعض الزعماء العرب حرص على ان يجنب العراق مخاطر الغزو، وان ينزع الحجة الأميركية، فعرض ان يلجأ الرئيس العراقي صدام حسين الى احدى الدول العربية، بينما لم يكن صدام في الاستراتيجية الأميركية هو القضية، كما زعمت واشنطن. وهكذا اضيف ملف العراق الى مأساة فلسطين، وانقسم العالم العربي حول كل جوانب المأساة العراقية، فلاذ بمواقف غامضة عامة لا تقدم حلاً ولا تشفي غليلاً. واذا كان العالم العربي دخل العام 2004 والتهديدات الاسرائيلية بالمزيد من الدمار للفلسطينيين والمزيد من الضربات لسورية تلاحقه بمباركة واشنطن، والعراق يزداد انقساماً والولايات المتحدة تزداد اصراراً على البقاء في العراق، والعالم العربي يزداد انسحاباً وانقساماً، بحيث تنعقد القمة العربية المقبلة بعد أسابيع وعلى جدول أعمالها كل هموم المنطقة العربية، فيجب ان لا نستسلم لهذا الانهيار في المواقف العربية، بل لا بد من إعادة بناء الموقف العربي، ليكون للقمة موقف ورأي وقول. ففي القضية الفلسطينية لا شك أن غياب العالم العربي واستجابته للإرهاب الاسرائيلي والأميركي هو الذي أعاق اقامة السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين، لانه أخل بنظام القوة بينهما لمصلحة إسرائيل، فأصبحت لا تجد ما يضطرها إلى وقف برامج الابادة. وفي القضية العراقية لا بد ان يعبر العالم العربي عن المصلحة العربية العليا بموقف عربي واحد فوق التمزقات الطائفية والعرقية. وبالنسبة الى سورية لا بد ان تجد في القمة العربية موقفاً مسانداً حتى تسلك اسرائيل سلوكاً جاداً من اجل السلام. واما بالنسبة إلى ليبيا فلا بد ان يحاذر العالم العربي من ان يكون الملف الليبي سبباً جديداً في انقسامه. ولا بد ان يتفق الزعماء العرب على حد ادنى تقف عنده تيارات الانهيار العربي وبلورة مصلحة عربية عليا يجب الدفاع عنها، وان يتوقف الجميع عن الترويج للنغمة القطرية التي يقدم كلٌ فيها وطنه على سائر الأوطان. تلك هي القضايا التي نرجو ان تشكل جزءاً مهماً من جدول أعمال القمة العربية المقبلة وان تقاوم القمة كل الضغوط التي تتمنى لها ان تكون نهاية القمم. * كاتب مصري.