كان سعي دول العام الثالث الى إيجاد علاقات إقتصادية تحقق المصالح المشتركة لها وللدول المتقدمة الغنية - وهي إما دول مستعمرة سابقة أو دول صناعية - من الأولويات إبان الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين متنافسين ومتصارعين على النفوذ والموارد. ورأى العالم العربي ان الفرصة سانحة بعد حرب اكتوبر 1973 وبعد ازمة الطاقة الدولية التي اعقبت إستخدام النفط العربي كسلاح سياسي بفرض عقوبات جزئية ورمزية على بعض الدول الغربية التي انحازت للموقف الإسرائيلي أثناء الحرب وبعد رفع اسعاره، كي يدخل في حوار جاد مع اوروبا التى تتعدد وتتشابك مصالحها مع مصالحه وتشكل مع بعض دوله منطقة جغرافية واحدة. وبدأ الحوار بصورة جدية وفى إطار مؤسسي ترعاه جامعة الدول العربيه والسوق الأوربية المشتركة قبل ان تصبح إتحاداً اوروبياً. ولأن من بديهيات الأمور أن يسعى كل طرف في أي علاقة ثنائية او متعددة الأطراف إلى تحقيق اقصى المنافع لنفسه فإن الطرف الأوروبي ألحّ على أولوية الإقتصاد على السياسة وعدم إلزام نفسه بموقف من القضية الفلسطينية يبتعد كثيراً عن الموقف الأميركي وفوق ذلك قبل"النصيحة"الأميركية بأن يكون النفط العربي خارج الحوار. وخلال الحوار وقعت واقعة كامب ديفيد لتغيّر من اولويات وموازين القوة لدى الطرفين. وادى ذلك التطور إلى تجميد الحوار وهو ما كانت تتمناه إسرائيل والولاياتالمتحدة، والأخيرة وطنت نفسها لإفشال اي سياسة عربية تفكر باستخدام سلاح النفط وأنفقت على إستراتيجيتها هذه بلايين الدولارات ثم رأت ان الأفضل لمصالحها هو ان تعسكر بجانب آبار النفط وهي الآن جارة عزيزة لأكثر من دولة نفطية. منذ ذلك الحين وحتى عملية برشلونة عام 1995 تغيرت احوال وتعدلت اولويات واصبح العدو شريكاً، ولا إعتراض على ذلك إذا كان يريد حقاً إزالة أسباب العداوة. وعندما قال إيهود باراك وهو وزير خارجية فى برشلونة أن إسرائيل تريد تحويل السلاح في المنطقة إلى محاريث صدّقه بعض الحاضرين. ومع مرور الوقت وتراكم الخبرة التفاوضية ادرك الطرف العربي أن ليس أقل ما يتمناه يدركه فالأهداف الإستراتيجية الأوروبية والإسرائيلية لم تتغير كثيراً رغم عدم تطابقها بالكامل، فأوروبا تريد شراكة تتحول بها المنطقة إلى خياطة لملابسها مع إحتفاظها بحقها المكتسب بمدها بمكائن الخياطة والإبر والقماش وحتى الفتلة. ولا مانع لديها بعد ذلك ان تباع هذه"المنتجات"في اسواقها كمنتجات مصنوعة في هذه الدولة العربية او تلك يشتريها فقراؤها لرخص اسعارها وبذلك نسهم معها في تحسين مستوى معيشة هذه الشريحة وفي الوقت نفسه لا يخلو هذا الجانب من فائدة نقدية لعمال الخياطة الذين سيظلون فى هذه"الصنعة"إلى أبد الأبدين لأنها لا تضيف إلى عالمهم الضيق جداً أي خبرة أو تخلق لديهم أي إمكان للابداع. هذا المثال الحي والواقعي واحد من أمثلة عديدة تعمق القناعة بأن العنوان الكبير - الشراكة - ما هو إلا إحلال لإسم التبعية التي حاولت دول العالم الثالث منذ سبعينات القرن الماضي التقليل من اضرارها الإقتصادية والسياسية وفي مرحلة غاب او خبا فيها الطموح الوطني من اجل تحقيق تنمية وطنية مستقلة نسبياً إندفعنا نحو التنفيذ الأعمى او شبه الأعمى لأجندة الطرف الغني القوي. وها نحن نهتم بالسياحة ونجعلها في طليعة الأولويات وهي لا شك عظيمة الأهمية إذا تلازم الإهتمام بها مع الإهتمام بالتعليم والتصنيع وتطوير الزراعة. السياحة كأي شيء آخر يمكن ان يتحول التركيز الزائد عليها إلى كارثة وطنية إذا ما قررت دول التصدير السياحي إيقاف تدفق مواطنيها إلى دول الشمس والرمل لأي سبب من الأسباب تراه وغالباً ما تكون الأسباب السياسية هي الغالبة، ولوحظ ان السائح الغربي لا يمتلك إرادة مستقلة بالكامل عن سياسة دولته العضو في العالم الحر الذي يوظف السياسة متى ما اقتضت مصالحه ذلك. أميركا زعيمة هذا العالم منعت مواطنيها من الذهاب إلى الصين الشعبية قبل تطبيع العلاقات السياسية بين البلدين، وبعض الصناعيين العرب لا يندفع نحو السوق الأميركية بسبب تسييس الولاياتالمتحدة للعلاقات التجارية وإقحامها لمكونات إسرائيلية لا ضرورة لها في المنتج الصناعي العربي ولخوفهم من التوظيف الأميركي السياسي لهذه العلاقة ليس لخدمة المصالح الأميركية وإنما الإسرائيلية. إدماج إسرائيل في المنطقه قضية إسنراتيجية غربية وقد حقق تجمع برشلونة بعضاً منها. وقد عبر الرئيس كلينتون عن هذا الهدف عقب عملية مدريد مباشرة. والحقيقة انه لولا عملية مدريد وما تلاها من مفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف لما رأت عملية برشلونة النور التي دخلتها إسرائيل - وهي لا تزال تحتل الأراضي العربية - قبل ليبيا وموريتانيا اللتين لا تحتلان ارض احد ولم يعترض الطرف العربي على غياب شقيقتين له عنها. ويصل الشغف الغربي بإدماج إسرائيل في المنطقة إلى حد الرغبة في إشراكها في الحلول للمشاكل التي تواجهها مدرسة عربية اوربية مشتركة في إسبانيا. وعلى رغم أننا نقدم التنازل تلو الآخر بدون عائد فإن الشهية الأوروبية والإسرائيلية مفتوحة للمزيد واحياناً ينظر إلى ما نقدمه على أنه غير كاف. وكل مرة يزور فيها مسؤول غربي المنطقة فإن احد أهداف الزيارة هو قياس العد التنازلي العربي إزاء الإلتزام بالقضايا العربية. ألم نقدم مبادرة سلمية عربية في بيروت عام 2002؟ هل يعتبرها الإتحاد الأوروبي أساساً للتسوية السلمية؟ ألم تكن روسيا الإتحادية وحدها التي إقترحت ان تذكر المبادرة العربية في خارطة الطريق وليس أي دولة اوروبية؟ وقد يكون مفيداً ان نشير هنا إلى ما جاء في خطاب للسيد دومينيك دو فيلبان رئيس وزراء فرنسا الحالي ووزير خارجيتها السابق ألقاه في 12 إبريل نيسان 2003 في القاهرة. يقول فيه"لقد التزم العالم العربي رسمياً في بيروت في شهر آذار مارس 2002، مستلهماً من الملك عبدالله بن عبدالعزيز، تطبيع العلاقات مع إسرائيل ما إن يتوقف الإحتلال، لكنه في الخطاب نفسه الذي اورد فيه شرط التطبيع وهو إنهاء الإحتلال يقول في ختامه وبصيغة الأمر"على جميع البلدان العربية أن تقبل بإسرائيل كدولة في هذه المنطقة وان تعترف كليا بهذا البلد المجاور مع إعطائه ضمانات السلامة ومع تطويرعلاقات طبيعية معه في إطار السلام"، لم يقل دو فيلبان ان العرب قد وضعوا أوراقهم على الطاولة وأن السلام لا يستقيم مع الإحتلال الذي يجب ان ينتهي في الحال وأن اوروبا تصر على سماع موقف إسرائيل من المبادرة العربية وأن اوروبا لا تقبل بعد الآن المماطلة الإسرائيلية وتهربها من السلام. كل اليجب والينبغي على العرب فعله وحدهم. يبدو ان السلام ليس مصلحة اوروبية وإلا ما قبلت اوروبا ان يجلس المحتل والمحتلة اراضيهم على مائدة مفاضات واحده ليناقشوا قضايا ليس الإحتلال في صلبها وأن تنحاز اوروبا للتفسير الإسرائيلي للإرهاب. هذا الأمر يفتح الباب للظن بأن الذاكرة الأوروبية نسيت الإحتلال الذي إبتليت به بعض الدول الأوروبيه قبل ستة عقود عندما كانت الماكي maquis الفرنسية تقاوم محتلاً كما تعمل اي مقاومة سابقة ولاحقة لها في تأريخ البشرية. في الواقع العيب ليس عيب اوروبا ولكنه عيب العرب الذين سمحوا لأميركا وإسرائيل، ومعهما اوروبا إلى حد كبير، أن تضعف أوراقهم التفاوضية التي كانت في افضل احوالها عندما بدأ الحوار العربي - الأوروبي عام 1975. اوروبا لا يعنيها السلام كثيراً. وهذا إستنتاج غير مبالغ فيه وإلا كانت وظفت كل اوراقها الضاغطة على إسرائيل ليس من اجل السلام وحده ولكن لئلا تستمر في دفع فاتورة الإحتلال الإسرائيلي في شوارعها ومطاراتها واحياناً من دم أبنائها. اوروبا لها اولوياتها التي تجعل منطقتنا ثانوية ومشاكلها المزمنة والمستجدة غير ذي بال لأننا بالأساس قبلنا بأن يكون دورها ودورنا أيضاً تابعين للدور الأميركي. وفي السنوات القريبة ركزت على ما عرف في الإتحاد الأوروبي بالقضايا الثلاث التي تبدأ بحرف إي : E وهي ENLARGEMENT أي توسيع الإتحاد، و:ENVIRONMENT البيئة، و:EMPLOYMENT العمالة، وهذا لا يجيز لنا إغفال تفضل الإتحاد علينا بتذكره لنا في بياناته التي تعرف إسرائيل أنها من باب إسقاط الواجب وهو يعرف تماماً ان إسرائيل لا ترفض فقط قرارات مجلس الأمن وإنما لا تلتزم بأحد بنود إتفاقية الشراكة الخاص باحترام حقوق الإنسان في الأراضي العربية المحتلة، لأن لإسرائيل تفسيرها الفريد له ولحق الدفاع عن النفس غير المعترض عليهما كثيراً من جانب الإتحاد الأوروبي المنقسم على نفسه إزاء الصراع العربي - الإسرائيلي. والأول - حقوق الإنسان - يخضع للتفاوض بين الطرفين وليس واجب التنفيذ. وفي العام الماضي فقط قبلت إسرائيل أن تخضع منتجات المستوطنات لنظام الضرائب الإتحادي وان لا يكتب عليها صنع في إسرائيل - بمعنى ألا تعامل معاملة تفضيلية ولم يتحقق ذلك إلا بعد سنوات من التفاوض. العرب بدون ادنى مبالغة فشلوا في ان يجعلوا بعض اولوياتهم اولويات اوروبية ولم يعد يجعلهم يفترقون عن الموقف الأوروبي إلا موضوع المقاومة والإرهاب الذي يجعلهم يغادرون اي إجتماع ورؤسهم مرفوعة لأنهم لم يستسلموا للموقف الأوروبي - الإسرائيلي اما الشراكة في التنمية وعلى رأسها التصنيع فإن التجارة وفتح الأسواق والخصخصة وبالذات في قطاع البنوك التي تسمح بخروج ارباح شركاتها كامله وأموال المواطنين العرب إلى بنوكها بدون قيود هي مطالبها الأساسية لكي تستثمر الإستثمار الحقيقي هناك. وبعد ذلك تخدرنا بأمور مثل حقوق الإنسان والإصلاح والمقرطه لكي تشعرنا ان قلبها شفيق بنا. إن حق الملكية الفكرية وتحويلنا إلى خياطين يجعلان علاقة التبعية هي التي لها فرصة الديمومة وتجعل ما نقوله عن التنمية المستدامة شعاراً أجوف. كاتب من اليمن.