تستأثر العلاقات الأوروبية - العربية باهتمام خاص في هذه المرحلة لأسباب تتعلق بالظروف التي يمر بها الصراع في الشرق الأوسط في الأسابيع الأخيرة وانحسار عملية السلام واندلاع العنف في منطقة ملتهبة لا تبعد كثيراً عن شاطئ البحر المتوسط فوق الأرض الفلسطينيةالمحتلة. واقع الأمر أن الحديث عن علاقات أوروبا بالعرب، على رغم امتداده على مر القرون الطويلة وعبر العصور المختلفة، إلا أنه أشبه ما يكون برواية من فصل واحد تلعبه أوروبا في المناسبات المختلفة. ويهمنا هنا أن نشير إلى أن علاقات أوروبا بالعالم العربي تستند إلى أسس جغرافية وتاريخية تبدو شديدة التواصل. ويكفي أن نتذكر أن المدة التي يستغرقها الطيران بين عدد من الشواطئ العربية على المتوسط ومدن الساحل الجنوبي لأوروبا الغربية لا تتجاوز أحياناً ساعة واحدة، وهو ما يعكس درجة التقارب بين المنطقتين الأوروبية والعربية. فالبحر المتوسط يمثل بحيرة تطل القارة الأوروبية على شواطئها الشمالية فيما يطل العالم العربي على شواطئها الجنوبية. ولقد أتاحت لي ظروف عملي الديبلوماسي في جنوب آسيا في مرحلة من حياتي الوظيفية أن أدرك كم نحن العرب قريبون جغرافياً من أوروبا، فالمسافة بيننا وبين قلبها لا تزيد على الساعات الثلاث، بينما كانت الطائرة تقطع المسافة بين مدراس وكشمير داخل الدولة الهندية الواحدة في ما يقرب من الساعات الأربع. ويجب هنا أن لا نقلل من تأثير التقارب الجغرافي على حركة التاريخ وسياق الأحداث بين العرب والأوروبيين، فالأفكار الجديدة والتيارات السياسية وحتى "موضة الأزياء" تنتقل من أوروبا إلى الشواطئ الشمالية الغربية للعالم العربي بسرعة تجعلنا نقول بحق إننا نعيش في جنوب أوروبا مباشرة. وهل ننسى الاختلاط الاجتماعي لعدد من شعوب جنوب أوروبا، سواء من اليونانيين أو الإيطاليين أو الفرنسيين مع العرب. بل إن العلاقات العربية - التركية تبدو هي الأخرى قنطرة إضافية للعرب في الاتجاه الأوروبي. ويهمني هنا أن أحدد مدرستين أساسيتين تشكلت من خلالهما النظرة السياسية إلى أوروبا الحديثة تجاه العرب عموماً. الأولى هي المدرسة الفرنسية التي اصطدمت بالشرق العربي ثقافياً منذ حملة بونابرت على مصر في نهاية القرن الثامن عشر، والتي تبعها انتشار الوجود الفرنسي ثقافياً وسياسياً في الشمال العربي الافريقي، وأيضاً على سواحل المتوسط في سورية ولبنان. أماالثانية فهي المدرسة البريطانية في التعامل مع المنطقة بالاحتلال السياسي والنفوذ العسكري، فضلاً عن دهاليز التعامل المباشر مع القبائل العربية والمجتمعات الشرق أوسطية. ولعل اسماء مثل "لورانس العرب" تشير بوضوح إلى خصوصية الفهم البريطاني للجزيرة العربية والمشرق العربي خصوصاً في مرحلة الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين في غضون الحرب العالمية الأولى. لقد تنامى الارتباط العربي - الأوروبي وأخذ شكل التواصل المستمر منذ بداياته عبر الأندلس وصقلية وغيرهما من المعابر الحضارية المشتركة في حوض البحر المتوسط، بما في ذلك المواجهات السياسية والعسكرية الحادة بين الدول العربية والوجود الأوروبي. ولعل الحركة الاستقلالية لمحمد علي، عندما حاول الخروج من شرنقة السلطنة العثمانية، هي التي لفتت أنظار الأوروبيين في العصر الحديث إلى ميلاد الدولة الحديثة في المنطقة العربية بمفهومها القومي وليس مجرد دلالتها الدينية التي طبعت في أذهان الأوروبيين تجاه العرب منذ خروجهم من الأندلس وحتى السنوات الاخيرة من عمر "الرجل المريض" الذي كان يمثل الخلافة العثمانية. وإذا تركنا هذا التطور للعلاقات العربية - الأوروبية جانباً، فإننا سنقف أمام التحولات الجديدة في العلاقات بينهما في العقود الأخيرة والتي وصلت بها إلى شكلها الحالي. فالمحاولات كثيرة بدءاً من حديث متصل عن الحوار العربي - الأوروبي، مروراً بشراكة أورومتوسطية بلغت ذروتها بصيغة برشلونة وصولاً إلى وجود عدد من الدول العربية كمراقبين في منظمة الأمن والتعاون الأوروبيين. وهذه كلها صور للعلاقات النشطة والمتنامية على الصعيدين السياسي والاقتصادي بين المنطقتين، خصوصاً بعد ما أدرك الأوروبيون أن أمن الشرق الأوسط هو امتداد طبيعي للأمن الأوروبي، وأن الصراع العربي - الإسرائيلي له انعكاساته المباشرة على الأوضاع في أوروبا بشكل لا يمكن تجنبه أو الفكاك منه. والذي يهمني هنا في هذا المقال الموجز هو أن أتعرض لخصائص الدور الأوروبي في المراحل الأخيرة من الصراع العربي - الإسرائيلي ونوجزها في الملاحظات التالية: أولا: إن الدور الأوروبي كان دائماً طرفاً فاعلاً في صراعات الشرق الأوسط، ويكفي أن نتذكر أن المملكة المتحدة كانت الراعي الأول للدولة العبرية ثم ورثت دورها الجمهورية الفرنسية لفترة قصيرة، حتى ظهر الدعم الاميركي سافراً وصارخاً لإسرائيل منذ نهاية الخمسينات بعدما تصورت واشنطن وهماً أن إسرائيل هي الحامية الوحيدة للمصالح الاميركية في المنطقة في ظل المواجهة المتصاعدة بين زعامة جمال عبدالناصر وديبلوماسية جون فوستر دالاس وزير الخارجية الاميركي الشهير. وإذا كانت ادارة ايزنهاور - أحد أبطال الحلفاء في الحرب العالمية الثانية - اتسمت بمحاولة استمالة العرب لدخول الشرق الأوسط تحت دعاوى "نظرية الفراغ" الناجمة عن رحيل الوجود البريطاني والفرنسي من المنطقة، إلا أنها لم تتمكن من وضع أسس مستقرة ومستمرة لموقف أميركي متزن تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي، وهو ما جعل الحاجة دائماً ماسة إلى التفسير الأوروبي للمواقف في مراحل المواجهة العربية - الإسرائيلية. ولعلنا نذكر في هذا السياق الديبلوماسية المكوكية، لهنري كيسنجر عندما كان يمر بوزارة الخارجية البريطانية في ذهابه وإيابه من الولاياتالمتحدة إلى الشرق الأوسط طلباً للنصيحة منها وتبادلاً للمشورة معها. ثانيا: لعبت فرنسا دوراً له خصوصيته وتأثيره في الصراع العربي - الإسرائيلي، ويرجع الفضل فيه إلى الأسس التي حددها الزعيم الفرنسي شارل ديغول عندما قرر أن بلاده ستحظر تصدير السلاح لمن يبدأ بالعدوان في المنطقة واتخذ موقفاً يتسم بالشرف والحياد. وما زالت فرنسا تحاول التمسك بنتائج هذا القرار في مواقف كثيرة سعت خلالها الى الخروج من دائرة التأثير الأميركي. ولا شك في أن فرنسا، على رغم أنها جزء لا يتجزأ من أوروبا الغربية وشريك أساسي في السياسة الأوروبية عموماً، إلا أن موقفها يبدو متقدماً بمرحلة كبيرة عن الموقف البريطاني الذي يظهر أحياناً وكأنه ما زال حبيس الأفكار القديمة لدار المندوب السامي في أحد العواصم العربية في نهاية القرن التاسع عشر. ثالثا: إن تفاوت الظلال بين درجات الدور الأوروبي المختلفة من تطورات مشكلة الشرق الأوسط عبر محطاتها المتتالية، والتي كان من أبرزها إعلان فينيسيا الشهير، أدى إلى ردود فعل مختلفة. فدول جنوب أوروبا المطلة على سواحل المتوسط تبدو أكثر رغبة في التواصل مع العرب، بينما لا تبدو الرغبة بالدرجة نفسها لدى دول وسط أوروبا وشمالها. لقد شارك الأوروبيون في مؤتمر مدريد، وكانت روسيا الاتحادية - وهي دولة أوروبية آسيوية - أحد الراعيين الرئيسيين لعملية السلام في الشرق الأوسط وشريكاً للولايات المتحدة في جهودها في ذلك. ولكن الدور الروسي تضاءل كثيراً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، إلا أن قوى أوروبية بديلة لم تتقدم لوراثة ذلك الدور حتى أصبحت الولاياتالمتحدة هي اللاعب الذي ينفرد وحده برعاية عملية السلام في الشرق الأوسط. رابعاً: إن الفراغ السياسي المحتمل في ظل إدارة اميركية جديدة، سيحتاج إلى فترة لترتيب الأوراق ودراسة الأوضاع، ربما يكون مبرراً لدعوة أوروبا لكي تلعب دوراً أكثر ايجابية تجاه ما يجري في المواجهة العربية - الإسرائيلية خلال الشهور المقبلة. فإذا كنا سلّمنا بغياب الدور الأوروبي في المراحل الانتقالية للتسوية السلمية في الشرق الأوسط، فإننا يجب أن ندعو أوروبا إلى دور ايجابي يدعم السلام العادل ويقف الى جانب الحق الواضح في المراحل النهائية من تسوية ذلك الصراع الدامي الذي سيطر على الشرق الأوسط خلال القرن الماضي كله. خامساً: إن هناك مؤشرات تدعو إلى القلق ظهرت دلالتها في الاسابيع الاخيرة خصوصاً عندما أظهر التصويت في لجنة حقوق الإنسان في 19 تشرين الأول اكتوبر العام 2000 أن دول الاتحاد الأوروبي لم تدعم القرار الذي صدر تعاطفاً مع حقوق الإنسان الفلسطيني في ظل ظروف أليمة بسبب الانتهاكات اليومية التي تمارسها إسرائيل ضد الإنسان والأرض والمقدسات في فلسطين. وفي ظني أن هذه المؤشرات تدعونا نحن العرب إلى إعادة النظر في طبيعة العلاقات الأوروبية - العربية ووضع الأطراف كافة أمام مسؤولياتها الحقيقية في حساب واضح لا يسمح بأن يكون الدور الأوروبي عرضاً متقطعاً من مسرحية باهتة ذات فصل واحد يجري تكراره بين حين وآخر. تلك هي رؤية لطبيعة الدور الأوروبي الحالي وما نريده منه في المستقبل، فهل يستطيع الأوروبيون أن يثبتوا لشركاء التاريخ ورفاق الجغرافيا في الشرق الأوسط أنهم قادرون على أن يلعبوا دوراً ايجابياً متوازناً يحد من درجة الانحياز الاميركي لإسرائيل، ويتعادل - ولو نسبياً - مع الدعم المطلق الذي تقدمه واشنطن لها. إن الارتباط بين الأمن الأوروبي وأمن الشرق الأوسط يلتقي في حلقة وثيقة نطلق عليها "أمن دول البحر المتوسط". ولا يجب أن يقف الدور الأوروبي عند حدود الدعم المادي أحياناً، أو التعاطف الإنساني أحياناً أخرى، بل يجب أن يتجاوز ذلك الى تأثير سياسي يسمح بدور فاعل في صراع طويل لا تبدو احتمالات حسمه واضحة في المنظور القريب، لأنه على ما يبدو ليس فقط صراع أرض وحدود، ولكنه أيضاً صراع تعايش ووجود. * كاتب قومي وديبلوماسي مصري.