الزيارة التي يقوم بها الرئيس المصري حسني مبارك إلى واشنطن قد تكون مناسبة لإزالة أوجه التباين بين الجانبين الأميركي والمصري. وتشمل هذه التباينات جملة من المواضيع، أهمها الموقف مما تعتبره واشنطن الدول العربية "الناشزة"، أي من السودان والعراق وليبيا، والعلاقات العربية - الإسرائيلية، والتكتلات الاقليمية في المنطقة. ففي كل من هذه المواضيع كان الموقف المصري مختلفاً عن الموقف الأميركي. الاختلاف حول هذه المواضيع لم يصل إلى حدود الأزمة، ولكنه كان معروفاً وكان مجال حوار مستمر بين المسؤولين المصريين والأميركيين. على صعيد الموقف من السودان والعراق وليبيا، أبدت القاهرة معارضتها لأي مساس بالوحدة الترابية للعراق والسودان وللأعمال العسكرية ضد أي بلد من البلدان الثلاث، بينما سارت السياسة الأميركية في طريق مغاير عبر تبني فكرة التغيير المسلح في الدول الثلاث، ودعم الاتجاهات الانفصالية في العراق والسوان، وشن الهجمات الجوية على المواقع والأراضي العراقية. وتأخذ القاهرة في الاعتبار راهنياً التطورات التي طرأت على ليبيا بعد تسليمها المتهمين بقضية لوكربي، وكذلك في السودان بعد اضعاف موقف د. الترابي في الحكم. وفي الحالتين يعتقد المسؤولون في القاهرة ان البلدين سيتجهان إلى الاعتدال في السياسة الخارجية والاقليمية. الإدارة الأميركية تبدو مصرة على استمرار العقوبات الأميركية ضد البلدين، هذا فضلاً عن تشديدها وربما تصعيد العمل العسكري ضد العراق. واشنطن تفضل تأجيل ادخال التغيير الجاد على سياستها تجاه ليبيا والسودان إلى ما بعد انتهاء محاكمات لوكربي، وإلى ما بعد انجلاء آفاق التطورات الراهنة في السودان. واشنطن تستطيع تطبيق سياسة الحصار والعقوبات على الدول الثلاثة إلى ما لا نهاية. هذه السياسة لا تؤثر على مصالح الولاياتالمتحدة الحيوية ولا تنال من أمنها واستقرارها. القاهرة لا تملك مثل هذه المرونة في علاقتها مع ثلاثة أطراف اقليمية عربية مهمة بمقياس المصالح الاستراتيجية والاقتصادية المصرية. فليس من مصلحة مصر ان تكون محاطة إلى الجنوب والغرب بدولتين تمارس تجاههما سياسة الحصار والعقوبات وتسود العلاقة معهما توترات دائمة. وحاجة مصر إلى تطبيع العلاقات مع الدولتين، هي على الأقل، مثل حاجة الولاياتالمتحدة إلى إقامة علاقات وثيقة مع كنداوالمكسيك. الولاياتالمتحدة لا تتحمل ان تغرق المكسيك في الفوضى، أو ان تخوض كيبيك حرباً ضد الحكومة المركزية الكندية، بحيث ترشح اثارها إلى داخل الأراضي الأميركية. مصر أيضاً لا يناسبها أن يتعرض السودان إلى "الصوملة" على نحو يعرض انسياب النيل إلى الأخطار. كذلك لا تستطيع مصر تجاهل ما لاستمرار سياسة العقوبات والحصار على العراق وعلى ليبيا من اثار سلبية على أمن المنطقة واقتصادها، ومن تداعيات مصرية لهذه السياسة. حرص مصر على مصالحها الوطنية دفعها إلى التفتيش عن طريق لحل لاغلاق ملف العنف والنزاعات المسلحة في السودان. وحرص القاهرة على انجاح مبادرتها، وربما على تمتين العلاقات المصرية - الليبية، جعلها تستعين بالحكومة الليبية في مبادراتها، فلا تسير الجهود الليبية والمصرية في طريقين متناقضين. الإدارة الأميركية عارضت المبادرة المصرية - الليبية المشتركة، وأيدت مبادرة "ايغاد" لإحلال السلام في السودان. لماذا؟ التفسير الأقرب إلى الأذهان هو ان واشنطن لا ترحب بالدور الليبي في هذه المبادرة، بيد ان الموقف الأميركي من ليبيا لم يؤثر على نشاط الليبيين في القارة الافريقية بمقدار ما اثر على دور مصر في ايجاد حل للمعضلة السودانية. فهل يكون الموقف الأميركي تعبيراً عن اعتقاد واشنطن ان "السودان ليس عربياً بل افريقي"، كما جاء في تصريح أدلى به أخيراً الزعيم السوداني المعارض الصادق المهدي؟ هل يكون هذا الموقف موجهاً أساساً ضد تعزيز دور القاهرة الاقليمي؟ في الحالتين، هناك تباين بين الموقفين الأميركي والمصري تجاه سياسة العقوبات والحصارات والعمل العسكري الذي تقوم به الإدارة الأميركية ضد بعض الدول العربية. المصالح الوطنية المصرية تملي على القادة المصريين ان يتابعوا باهتمام تطور العلاقات العربية - الإسرائيلية. إنهم يعتقدون أنه بالامكان تحقيق السلام العربي - الإسرائيلي ولكن من دون أن تخرج إسرائيل من هذه العملية كقوة اقليمية كبرى تحتل الموقع المصري في المنطقة. انسجاماً مع هذه المصالح ومع هذا التصور، تمارس القاهرة ضغطاً على الإسرائيليين من أجل الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وتتبع سياسة "السلام البارد" مع إسرائيل. الموقف المصري يصطدم بمعارضة إسرائيلية - أميركية مشتركة. فإسرائيل، واستطراداً الإدارة الأميركية، تتطلع إلى سرقة الدور الاقليمي المصري، وهي تضغط على مصر حتى تحول السلام البارد إلى سلام حار. عندما زار ايهود باراك القاهرة خلال تموز يوليو من العام الفائت بعد فوزه في الانتخابات. بدا وكأن غرضه تمتين العلاقات المصرية - الإسرائيلية. الغرض الحقيقي من الزيارة كان تحييد الدور المصري في المفاوضات العربية - الإسرائيلية وليس تأكيد هذا الدور. عندما عاد إلى إسرائيل أبلغ الإسرائيليين أنه اتفق مع مبارك على ألا يتعدى التدخل المصري حدود اسداء النصح والمشورة إلى المتفاوضين. بعد ذلك بأشهر دأبت وزارة الخارجية الإسرائيلية على توجيه الانتقادات إلى المصريين لأنهم يعارضون مساعي التطبيع مصرياً وعربياً. الشكاوى الإسرائيلية من الموقف المصري تلقى، عادة، أصداء أميركية سريعة وتؤثر على العلاقات الأميركية - المصرية. في منتصف التسعينات، عندما نظمت القاهرة تحركاً ديبلوماسياً قوياً بهدف إلزام إسرائيل بالمصادقة على معاهدتي منع انتشار الأسلحة النووية والكيماوية، وكذلك بقبول التفتيش الدولي على منشآتها النووية، رد المسؤولون الإسرائيليون على الموقف المصري بحدة، فقال شمعون بيريز إن مصر "تدمر عملية السلام" بسبب حملات التعبئة ضد إسرائيل. مؤيدو إسرائيل في واشنطن نظموا حملة مضادة للتحرك المصري بقصد حمل الإدارة الأميركية على تخفيض الدعم المالي لمصر بحجة أن مصر تستخدم الأموال الأميركية لتدعيم قواتها العسكرية. هذه الحملة تحركت على محورين: الأول، ارسال تحذيرات مباشرة من الكونغرس الأميركي حملها إلى الرئيس المصري في مطلع عام 1997 عضوا الكونغرس البارزان ميتش ماكونيل وسوني كالاهان، مفادها ان موقف مصر "المشاكس" ازاء إسرائيل قد يؤدي إلى إلغاء أو تخفيض المساعدة السنوية لمصر. الثاني، دفع الإدارة الأميركية إلى الضغط على القاهرة لكي تحول "السلام البارد" مع إسرائيل إلى "سلام دافئ"، ولكي تكفّ عن إثارة مسألة السلاح النووي الإسرائيلي. الإدارة الأميركية تجاوبت مع الحملة الإسرائيلية، فارسل الرئيس الأميركي ممثلاً خاصاً في مجال الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل لكي يقنع المصريين ب"التخلي عن العواطف" والتوقف عن إثارة مسألة السلاح النووي الإسرائيلي، لأنه "لا خطر على مصر من هذا السلاح"! هذا المشهد يبدو وكأنه على وشك التكرار فيما الرئيس المصري يزور واشنطن. فخلال الفترة الواقعة بين 24 نيسان ابريل و19 أيار مايو المقبلين سينعقد المؤتمر الدولي مراجعة معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في نيويورك. مصر بدأت للإعداد لهذا المؤتمر، بصورة منفردة وفي إطار جامعة الدول العربية منذ أواخر العام الفائت. الهدف العام لهذا النشاط التحضيري استهدف الإفادة من المؤتمر من أجل فتح ملف التسلح النووي الإسرائيلي والضغط على إسرائيل للتخلي عن هذا السلاح. إسرائيل، تعد بالطبع، من أجل احباط هذا المسعى المصري والعربي. واشنطن، كالعادة، ستتجاوب مع المسعى الإسرائيلي وستحاول اقناع الرئيس مبارك بالتخفيف من حدة الحملة المصرية ضد سلاح الذرة الإسرائيلي مقابل تقديم تطمينات ضبابية إلى مصر بصدد استخدام السلاح الذري. من الأرجح ألا تحقق الإدارة الأميركية في هذا المسعى نجاحاً حاسماً، لأن مصر تعرف ان احتكار إسرائيل للخيار النووي في المنطقة يعني أنها لا تستطيع تهديد اعداءها فحسب، بل يمكنها أيضاً من ممارسة ضغط غير مشروع على الدول التي وقعت معها معاهدات سلام وانتزاع تنازلات منها تمس مصالحها الوطنية. إن مصر قد تخفض مستوى حملتها ضد السلاح النووي الإسرائيلي، ولكن ليس إلى الدرجة التي ترضي إسرائيل واستطراداً الإدارة الأميركية. التباين الأميركي - المصري لا يظهر في هذه القضايا فحسب، ولكنه يظهر أيضاً عندما تتجه مصر إلى تحريك مؤسسات العمل الجماعي العربي بقصد تحقيق أهدافها. فعندما أثارت مصر قضية السلاح النووي الإسرائيلي، قوبل هذا التحرك برد فعل أميركي سلبي. وعندما حاولت القاهرة اقناع الدول العربية الأخرى بالقيام بتحرك مشترك على ذلك الصعيد، قوبلت تلك المحاولة بتهديد أميركي أطلقه وارن كريستوفر في مطلع عام 1995 عندما قال إن الولاياتالمتحدة لن تكون راضية إذا التقت دول الجامعة العربية واتفقت على التحرك المشترك ضد السلاح النووي الإسرائيلي. الملفت للنظر في ذلك التهديد هو أنه لم يكن موجهاً بقصد اتقاء النتيجة فحسب، أي الحيلولة من دون اتخاذ قرار عربي بالتضامن مع الحملة المصرية، بل انه كان موجهاً ضد فكرة لقاء الدول العربية. هذا الموقف الأميركي تطور بعد مؤتمر القمة العربي المنعقد في حزيران يونيو عام 1996 إلى ضغط متواصل مارسته واشنطن عبر الدول العربية بقصد منع عقد أي قمة عربية. للقاهرة في الشأن الاقليمي تطلعات مغايرة للمشاريع الأميركية. فالرئيس المصري يدعو باستمرار إلى قمة عربية. وإذا كانت القمة العربية غير متيسرة حالياً، فإن وزير الخارجية المصري يطالب بعقد اجتماع لدول إعلان دمشق ربما بهدف فتح الأبواب المغلقة أمام القمة. إلى جانب ذلك تحث القاهرة الدول العربية على تعزيز دور مؤسسات العمل العربي المشترك وترفض استبدالها بمؤسسات شرق أوسطية. هذا الموقف هو نقطة خلافية مهمة بين مصر وإسرائيل، كما قال الرئيس المصري مرة في تصريح لمجلة "دير شبيغل" الألمانية، وهو استطراداً نقطة خلافية بين مؤيدي إسرائيل في واشنطن والحكومة المصرية. التباين بين مصر، من جهة، وبين الولاياتالمتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، برز خلال شهر تشرين الثاني نوفمبر من العام الفائت عندما اقترح شمعون بيريز، رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق وزير الشؤون الاقليمية الحالي، خلال زيارته إلى القاهرة فكرة عقد المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال افريقيا في العاصمة المصرية خلال شهر آذار مارس الحالي. المسؤولون المصريون ردوا على الاقتراح آنذاك قولهم بأن عقد مثل هذا المؤتمر رهن بتقدم عملية السلام، وبأنه ما دامت المفاوضات مستمرة بيم الأطراف العربية وإسرائيل، وما دامت هناك الكثير من القضايا المعلقة في هذه المفاوضات، فإنه من السابق لأوانه الحديث عن عقد المؤتمر الشرق أوسطي. زيارة الرئيس مبارك إلى واشنطن قد تؤدي إلى ازالة بعض أوجه التباين على الأصعدة الثلاثة، إلا أن أساس التباين يبقى مستمراً. فمصر تعتبر نفسها الدولة الأهم في المنطقة، والنخبة الحاكمة المصرية ترغب في أن تشاطرها الإدارة الأميركية هذا المنظور. أصحاب القرار في واشنطن يعتبرون ان دور الدولة الأولى في المنطقة محجوز لإسرائيل، فإذا كان الكيان العبري لم يتمكن حتىء هذا التاريخ من تفعيل أولويته وتفوقه بالمعايير الاقليمية، فإت ذلك يرجع إلى حالة الحرب التي كانت تسود علاقته بالدول العربية. ومع زوال الحرب ومع فتح الأبواب أمام إسرائيل لكي تدخل دول المنطقة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، فإن إسرائيل ستتمكن من الوصول إلى قمة الهرم الاقليمي. هناك خيار آخر مطروح في واشنطن وإسرائيل ألا وهو ان يتشكل محور مصري - إسرائيلي يتولى زعامة المنطقة يشبه المحور الألماني - الفرنسي الذي تزعم أوروبا خلال مرحلة الحرب الباردة. الفارق الكبير هنا هو ان المحور الألماني - الفرنسي نشأ بعد ان هزمت المانيا وتخلت، ولو لزمن، عن مشاريعها الأوروبية. في الشرق الأوسط مصر لا تعتبر نفسها مهزومة ولا هي تخلت عن دورها العربي، ولا تخلى العرب عن مصر وعن دورها القيادي في المنطقة. بالمقابل فإن إسرائيل الصهيونية تعتبر نفسها منتصرة وانها هي "منارة العالم"، واستطراداً الشرق الأوسط، بينما يعتبرها العرب عدواً لهم كما نظر الأوروبيون إلى الدولة النازية. صعوبة تحقيق الشراكة الاقليمية المصرية - الإسرائيلية تضع مصر وإسرائيل أمام مواجهة مستمرة. التجارب التاريخية والمؤشرات الراهنة ترجح ان تقف واشنطن في تنافس من هذا النوع إلى جانب إسرائيل وليس إلى جانب مصر. في هذه الحالة، فإن التبيان بين الطرفين، المصري والأميركي، مرشح للنمو إلا إذا استمع أصحاب القرار الأميركي إلى أهل الفكر والرأي الأميركيين الذين يعتبرون مصر واحدة من "الدول المحورية" في العالم ويطالبون واشنطن بالتعامل مع المصريين على هذا الأساس. * كاتب وباحث لبناني