يغادر الأمين العام للجمعية البرلمانية للتعاون العربي - الأوروبي جان ميشيل ديموند، منصبه بعد 18 عاماً قضاها في خدمة أغراض التعاون العربي - الأوروبي، داخل المؤسسات الأوروبية، وخصوصاً دعم القضية الفلسطينية في أوساط البرلمان والمفوضية الأوروبية. وينتقل جان ميشيل ديموند الى القطاع الخاص بعد أن شحت موارد الدعم الخارجي وتحول الجزء الأكبر من نشاط الجمعية الى محاولات التسول بحثاً عن معونات تكفل نفقات نهاية الشهر الجاري من دون ضمان تغطية كلفة الشهر المقبل. إلا أن جان ميشيل لا يغرق في الحسرة ويفضل المفاخرة برصيد النواب أعضاء الجمعية، في دفع الحكومات الأوروبية الى إصدار "بيان البندقية" الذي يعد ضمن مراجع السياسة الخارجية الأوروبية حيال المنطقة، وكذلك في المواقف الحازمة التي اتخذها البرلمان الأوروبي عندما عطل في 1988، البروتوكولات المالية المبرمة مع إسرائيل واتفاقات التعاون العلمي معها 1990. وأذعنت اسرائيل في حينه للطلبات الأوروبية واضطرت الى فتح المجال أمام الصادرات الفلسطينية نحو السوق الأوروبية في 1988 ومعاودة فتح المؤسسات التربوية الفلسطينية خلال الانتفاضة الأولى. وذاك دليل قدرة الاتحاد الأوروبي على التأثير في السياسة الإسرائيلية. إلا أن جان ميشيل ديموند، مثل الكثيرين، لا يتوهم موقفاً أوروبياً حازماً اليوم. وينتقد ضعف المساندة العربية للفلسطينيين. ويقترح أن تبادر البلدان النفطية بخفض الصادرات بنسبة 1 في المئة فقط حتى يعلم العالم بأن اللوبي الإسرائيلي في الغرب يتحمل مسؤولية مباشرة عن الوضع. وهنا نصر الحوار: ودعت الجمعية البرلمانية للتعاون العربي - الأوروبي قبل أسابيع قليلة بعد أكثر من عقدين في العمل داخلها وتوليت امانتها العامة مدة تسع سنوات. لماذا غادرتها وما هو شعورك؟ - أشعر بتأثر كبير لأنني قضيت 18 عاماً من حياتي داخل الحقل العربي - الأوروبي اكتسبت خلالها تجربة ثرية وتعلمت فيها أن توافر الرغبة من ناحية وأدنى الإمكانات من ناحية أخرى يكفيان لتغيير موقف مناهض الى رأي مساند لمصلحة قضيتك. وعلى رغم مكاسب سياسية مهمة تحققت في فترة ما لمصلحة القضية الفلسطينية، داخل البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية، فإنني أحس بالمرارة أحياناً لأنني غادرت الجمعية لأسباب شح موارد الدعم المالي. ووجدت نفسي أقضي الوقت بحثاً عن مصادر الدعم بدل الاجتهاد في مهمات تعزيز الحوار والتعاون بين الاتحاد الأوروبي والبلدان العربية. وأطوي الآن صفحات عقدين من العمل لمصلحة التفاهم العربي - الأوروبي، وأفضل الاحتفاظ بمشاهد خدمة الفلسطينيين عبر زيارات عدة نظمتها للوفود البرلمانية وكانت نتائجها مفيدة بشكل دائم في كل مرة تطرح فيها قضية النزاع العربي - الإسرائيلي في البرلمان الأوروبي. هل تذكر كيف ولدت الجمعية البرلمانية للتعاون العربي - الأوروبي وهل لك ان تلخص المراحل التي قطعتها منذ إنشائها؟ - ولدت الجمعية البرلمانية بمبادرة نواب فرنسيين وبريطانيين، اجتمعوا قبل ربع قرن في باريس، لأنهم كانوا يحسون بالمسؤوليات التي تتحملها أوروبا حيال النزاع العربي - الإسرائيلي. وكانت منطقة الشرق الأوسط خرجت في تلك الفترة من حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 والصدمة النفطية الأولى التي طالت عواقبها الاقتصاد العالمي ككل. واستندت نقاشات النواب الى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 181 الذي دعا الى قيام دولتين يهودية وعربية والقرارين 242 و338 الذين أصدرهما مجلس الأمن حول عدم جواز احتلال الأراضي بالقوة وحقوق اللاجئين في العودة أو التعويض عن أرضهم وممتلكاتهم. وقرر النواب الفرنسيون والبريطانيون إنشاء سكريتارية لتبادل وجهات النظر حول النقاشات التي تجري داخل كل من البرلمان الوطني للبلدان الأوروبية. وبذلت الجمعية البرلمانية للتعاون العربي - الأوروبي، مثل الكثير من المنظمات، جهوداً منتظمة من أجل الاعتراف المتبادل بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وأذكر نقاشاً مثيراً أجريناه في مناسبة زيارة وفد برلماني الى إسرائيل والأراضي المحتلة، مع يوسي بيلين في 1988. كنا نؤكد بأن أفضل سبيل لحل النزاع هو التفاوض المباشر. فكان رد بيلين ويعد من الحمائم أن "ذاك هو سبب نقاشه معنا" وكان الوفد يضم نواباً أوروبيين وكذلك الأمين العام للجمعية. ويبقى تعليق بيلين هادئاً مقارنة مع الاتهامات التي كان ينسبها إلينا ممثلو اليمين عندما كنا نلتقي بأعضاء تجمع "الليكود". وأحس بشيء من الافتخار عندما أذكر القرار الذي أصدرته القمة الأوروبية في 1980 في البندقية او افتتاح المفوضية الأوروبية للمرة الأولى، مندوبية تمثلها في القدسالشرقيةالمحتلة في 1994. وتعاونت الجمعية البرلمانية للتعاون العربي - الأوروبي مع الاتحاد البرلماني العربي من أجل دفع الحكومات الأوروبية الى إصدار بيانها في البندقية الذي سجلت فيه الاعتراف، للمرة الأولى، بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وتنفرد الجمعية بالنشاط المكثف الذي بذلته في النصف الثاني من الثمانينات وانتهى بإقناع النواب الأوروبيين بضرورة الضغط على إسرائيل، وأصدروا بياناً في خريف 1988 رفضوا فيه المصادقة على بروتوكولات مالية لمصلحة إسرائيل التي كان يحكمها زعيم حزب "الليكود" اسحق شامير وربط النواب الموافقة المصادقة على الاتفاقات المالية بفتح إسرائيل الأبواب أمام المصدرين الفلسطينيين كي يصدروا منتوجاتهم نحو السوق الأوروبية معفاة من الضرائب. كذلك، اضطلع النواب أعضاء الجمعية بدور مهم في جعل النواب الأوروبيين يشعرون بتردي وضع السكان المدنيين خلال أعوام الانتفاضة الأولى. واقتنعت غالبية النواب في البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ وعطلت في 1990 اتفاق التعاون العلمي مع إسرائيل الى حين عدولها عن عقوبات إغلاق المؤسسات التربوية الفلسطينية. كما بذلت الجمعية في الأعوام الأخيرة جهداً كبيراً، على رغم توقف الدعم الخارجي وندرة الموارد، في تعطيل مصادقة النواب الأوروبيين على اتفاق الشراكة المبرم مع إسرائيل، في ظل حكم رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو. وعلى صعيد أوسع ساهمت الجمعية في تشجيع أفكار التعاون بين الاتحاد الأوروبي والتجمعات العربية مثل "اتحاد المغرب العربي" و"مجلس التعاون لدول الخليج العربية" وكذلك المساهمة في تعزيز "أفكار الإعلان الأوروبي لمناهضة التمييز والعنصرية". أذكر أيضاً نشاط الجمعية البرلمانية لتعطيل مشاريع قرارات كانت استهدفت تطبيق الشريعة الإسيلامية في بعض البلدان العربية. فهل تعتقد في وجود نشاط مناهض داخل البرلمان الأوروبي؟ - لا شك في أن مروجي الأفكار المناهضة يستغلون عدم اطلاع الأوساط النيابية الأوروبية على الثقافة العربية - الإسلامية لتمرير مواقف معادية. وعطلت الجمعية البرلمانية للتعاون العربي - الأوروبي في العام الماضي قراراً أحمق كان يستهدف تطبيق الشريعة الإسلامية. ويعتقد أعضاؤها في أن مصالح البلدان العربية والأوروبية تقتضي تفاهماً أفضل من كل طرف لثقافة الطرف الآخر واحتراماً متبادلاً وحواراً حضارياً. وهناك حاجة واسعة ومستديمة الى المزيد من المعلومات والشروحات حول السلوك السياسي والثقافي لهذا الطرف أو ذاك. وهنا يكتسب عمل الجمعية البرلمانية، إذا توافرت الإمكانات، بعداً حضارياً. إلا أن المتتبع لتطور الحوار العربي - الأوروبي، ولا أقصد هنا العلاقات الثنائية يلاحظ انكماشه بل انعدامه طوال التسعينات. فهل يصح الحديث عن حوار عربي - أوروبي بعد المتغيرات الجيوسياسية التي خلفتها حرب الخليج الثانية ومؤتمر مدريد للسلام واتفاقات أوسلو ومؤتمر برشلونة؟ - يمثل مشروع الشراكة الأوروبية المتوسطية، في نظر المفوضية، بديلاً عن الحوار العربي - الأوروبي. وهو منظور خاطئ لأن مشروع الشرااكة يستبعد بلداناً عربية ذات تأثير كبير، وفي المقابل فهو يحاول إدماج الدولة العبرية داخل المحيط الإقليمي المتوسطي. ويمكن أن تقوم الشراكة وفق الخطة المنظمة لكن لا يصح استبعاد خيار الحوار العربي - الأوروبي لأنه إطار أوسع للتفاهم السياسي والثقافي بين الاتحاد والعالم العربي الذي بدأ يستعيد بعض انسجامه. ماذا يمكن لأوروبا القيام به اليوم في الشرق الأوسط؟ - بإمكان أوروبا القيام بمبادرات كثيرة لأن الاقتصاد الإسرائيلي يرتبط الى حد كبير بالسوق الأوروبية. وكانت أثبتت قدرتها في مناسبات نادرة في السابق عندما تحرك النواب الأوربيون وطالبوا حكومات البلدان الأعضاء بمواقف حازمة. لكن يجب أن لا نتوهم. فأوروبا قادرة لكنها لن تفعل شيئاً كبيراً لأن مصالحها ليست مهددة. فهي تحاول، منذ اتفاقات اوسلو، استمالة إسرائيل لكسب ثقتها حتى يقبل الإسرائيليون بدور أوروبي في عملية السلام. لكنها مساع فاشلة. فإسرائيل ترفض أي دور سياسي أوروبي ولا تقبل سوى دور الخزانة الأوروبية لتعويض الخسائر الاقتصادية التي يتكبدها الفلسطينيون جراء الدمار الذي تحدثه آلات جيش الاحتلال وجرافاته. ما رأيك في ردود فعل البلدان العربية؟ - البلدان العربية استخدمت القضية الفلسطينية وترغب التخلص من العبء الفلسطيني. وأعتقد في وجود رغبة صادقة في السلام مع إسرائيل. اتخذت البلدان العربية موقفاً تضامنياً مع الشعب الفلسطيني خلال قمة القاهرة. أليس ذلك مهماً؟ - انعقدت القمة العربية بفعل ضغط الشارع العربي الذي أثبت هذه المرة نضجاً سياسياً وطلبات واضحة مثل دعوة البلدان العربية الى تجديد فرض المقاطعة وقطع العلاقات مع إسرائيل. وأنشأت بقرارات من القمة صناديق مالية للتضامن مع الانتفاضة وتعزيز قدرات الصمود والدفاع عن المقدسات. إلا أن التقارير الواردة تتحدث عن تأخر صرف هذه المعونات لمصلحة العائلات المنكوبة وقطاعات العمال الذين أصبحوا عالة على سلطة فلسطينية لا تمتلك مورداً في خزانتها. ثم إن أثر الدعم الاقتصادي العربي قد يتساوى مع تأثير المعونات الأوروبية التي تستخدم لإصلاح الأضرار التي تسببها إسرائيل. وإذ يصح انتقاد ضعف موقف أوروبا على رغم قدرات التأثير التي تمتلكها فإن الموقف العربي لا يزيد قوة. فالبلدان العربية تمتلك وسائل المقاطعة وقطع كل اشكال العلاقات مع إسرائيل إلى سلاح النفط. ويكفي القضية الفلسطينية مبادرة البلدان العربية النفطية خفض 1 في المئة فقط من صادراتها، لأن أصابع الاتهام ستوجه، على الصعيد العالمي، نحو أنصار إسرائيل في الولاياتالمتحدة وأوروبا. آنذاك سيكون اللوبي الإسرائيلي مسؤولاً عن الصدمة النفطية وعواقبها السلبية على الاقتصاد العالمي. وهي مسؤولية لا يقدر على تحملها فيضطر الى التراجع ويحمل الحكومة الإسرائيلية على قبول الحل السلمي العادل. هل يبعد تصاعد المواجهات آفاق الحل السلمي أم يقربها؟ - تعبر الانتفاضة عن الحرمان الذي يحسه الفلسطينيون، وتراكم الحرمان والإحباط على مدى أعوام مسيرة السلام. وقد تحولت فوائد السلام في الخطابات النظرية الى مرارة في الواقع اليومي للمواطن الفلسطيني إذ تدهور الوضع الاقتصادي ولم تأت اتفاقات أوسلو سوى بزيادة البطالة وإجراءات القمع التي تولتها السلطة الفلسطينية، نيابة عن إسرائيل. وفي الجهة المقابلة، تضاعف عدد المستوطنين، واتسعت المستوطنات. فهل ضاعت فرص السلام؟ - السلام ممكن لأن لا بديل آخر عن الحل التفاوضي. وأكدت الأطراف المعنية تمسكها بالخيار السلمي على رغم اشتداد المواجهات وتوالي طوابير الشهداء. وتكمن المشكلة في أن خيار السلام تحوّل الى عملية مزايدات انتخابية داخل الساحة الإسرائيلية. فيقايض المتطرفون في اليمين الإسرائيلي دعم خطة السلام بالمعونات التي يحصلون عليها لمصلحة المدارس أو تعطيل النشاط يوم السبت. ويذكرني سؤال فرص السلام بقول الوزير الإسرائيلي السابق ابا ايبان "أن الفلسطينيين لا يضيعون أية فرصة لإضاعة الفرصة". وأرى أن قوله ينطبق اليوم تماماً على الإسرائيليين. فالمفاوضات بلغت مرحلة متقدمة لامست الحلول النهائية سواء مع سورية أو مع الفلسطينيين. لكن التطرف والمزايدات الانتخابية قد تدفع الإسرائيليين الى إضاعة السلام وهو على مرمى حجر.