هناك شخصيات في التاريخ تبدو كأنها على موعد مع القدر، تأتي في لحظة حاسمة من اللحظات التي ينقسم فيها الزمن على نفسه، موزعاً ما بين الرماد والورد، التخلف والتقدم، فتأخذ الشخصية من خصوصية اللحظة ودافعها الخلاّق مما ينعكس على ملامح وجودها في الزمن، وتضفي هي بقوة حضورها ونفاذ بصيرتها ملامحها على زمنها الذي تصنعه على عينها، ووفق رؤيتها الجذرية الجديدة للعالم الذي تصنعه بقدر ما يصنعها، وذلك في جدلية الاستجابة والتحدي التي تتقدم بالتاريخ صوب المستقبل الذي يحمل من الوعود والإمكانات ما لا يدركه سوى نموذج هذه الشخصية، وتصوغه رؤيتها لعالم المستقبل. ومحمد علي واحد من هذه الشخصيات التي صنعها التاريخ وصنعت هي التاريخ بحضورها الفاعل في مجالها النوعي من ناحية، ورؤيتها الجذرية للمستقبل الذي استجابت إلى تحدياته وحققت أحلامه من ناحية مقابلة. ولذلك فنحن نتحدث عن عصر محمد علي، لا من حيث هو حقبة انتهت، وعبرت بين حقب الزمن المتعاقب، والمتشابه، وإنما من حيث هو لحظة تاريخية، استثنائية، تأسس بها وفيها مشروع التحديث في مصر، بل في العالم العربي كله، وانطلق بإرادة عفوية، ورؤية جسورة، حققت أحلام الشعب الذي عرف محمد علي كيف يستجيب إلى رغبته في الخلاص من القوى الثلاث المتصارعة على مصيره: الأتراك العثمانيون الذين استعمروا مصر منذ أن غزاها سليم الأول سنة 1517، والمماليك الذين اقتسموا خيرات البلاد مع العثمانيين، والقوى الأوربية القديمة التي لم تتوقف أطماعها الاستعمارية في مصر، ابتداء من الحملة الفرنسية سنة 1798. وهي الحملة التي اختتمت القرن الثامن عشر، واستهلت القرن التاسع عشر، فارضة على القوى الشعبية المقاومة التي تجاوب معها قائد ألباني، أدرك ببصيرته ما لم يدركه غيره، ورأى بعيني المستقبل إمكانات تحديث البلد الذي صار له وطناً، فصاغ له رؤية مستقبل يتحدى شروط الضرورة، ويضع مصر على الطريق الصاعد للتحديث والحداثة. وكان معنى ذلك تغيير لحمة العالم وسداه، والانتقال من عالم قديم آفل إلى عالم جديد صاعد، عالم يتعمد بالدم والمعرفة والحلم والإرادة. أقصد إلى الدم الذي اقترن بعنف القضاء على رموز العالم القديم: المماليك. وأقصد إلى المعرفة التي اقترنت بإدراك قيمة العلم المتقدم في صوغ دنيا جديدة، الأمر الذي فرض الانفتاح على مراكز تفوقه في العالم كله، وإرسال البعثات التي كانت أساس البناء الذي انطلق صاعداً واعداً في كل اتجاه. وأقصد إلى الحلم الذي غمر روح طليعة الأمة، ومنحها طاقة الفعل الإبداعي، ودعم فيها حس التجديد الأدبي الذي انطلق من الإحياء إلى الانشاء. اما الإرادة فهي عزيمة المفرد بصيغة الجمع على مجاوزة شروط الضرورة، أو صيغة المفرد بصوت الجمع الذي تجسد حلمه في طليعته، والتفت طليعته حول المفرد الذي أصبح رائداً مقتحماً وعود الزمن المقبل. هكذا، امتد الحضور الصاعد لعالم جديد واعد، عالم فرض وجوده على الفضاء الجيوبوليتكي المحيط، وذلك بما امتد بهذا الحضور من المورة إلى كريت، ووصل ما بين الشام وشبه الجزيرة العربية، في دولة عرفت كيف تصنع جيشاً قاهراً، وصناعة غير مسبوقة، وتغييرات جذرية، امتد نفوذها، واتسعت موجات تأثيرها بقوة المدفع والمصنع والمعهد، واصلة ما بين مؤسسات العلم الحديث والتنظيمات السياسية الجديدة، والإصلاحات الاقتصادية والزراعية، وذلك في سياقات شهدت انبثاق المطبعة والصحيفة وتدافع البعثات التي هدفت إلى تجسير الهوة الفاصلة ما بين التقدم الأوروبي والتخلف الشرقي. وكان لا بد من تجسير هذه الهوة لعبور حواجز التخلف، واللحاق بركب التقدم الإنساني، والإسهام الفاعل فيه. وانبثق مبدأ الرغبة، في مدى فعل التجسير، فارضاً حضوره الذي أخاف القوى الطامعة والمتربصة، وهدد مصالحها، فتحالفت هذه القوى ضد الحلم - المشروع، ساعية إلى قص جناحيه، كي لا يمضي في طيرانه الذي اصطدم بجدار مطامعها. وكانت معاهدة لندن في الخامس عشر من تموز يوليو 1840 التصديق العملي على المواجهة التي أوقفت الاندفاعة العاصفة للمشروع - الحلم. لكنها لم تقض عليه، ولم تستأصل مبدأ الرغبة الذي انطوى عليه بتأسيس زمن جديد، زمن كانت علامته المعرفية الأولى قرينة تولد نموذج صاعد للشيخ العقلاني المستنير الذي أعاد فتح أبواب الاجتهاد على مصراعيها، واستهل حواراً خلاقاً مع العالم المتقدم من منظور الابتداع لا الاتباع. وهو المنظور الذي تجسد في رفاعة الطهطاوي وأقرانه، وكانت علامته المعرفية الموازية استهلال التعليم المدني الحديث المقترن بإنشاء المدارس العصرية، ومنها مدرسة الألسن، جنباً إلى جنب مطبعة بولاق التي طبعت كتاب رفاعة"تخليص الإبريز في تلخيص باريز"الذي كان بداية حوار جديد مع الآخر الأوروبي الذي ازدوج حضوره، وتضاد طرفا وجوده الذي جمع ما بين تقدم المعرفة العلمية وتصاعد الرغبة الاستعمارية. وقد أصدرت مطبعة بولاق كتاب رفاعة بعد إحدى وعشرين سنة من إرسال المجموعة الأولى من المبعوثين المصريين إلى إيطاليا لدراسة الفنون العسكرية، ومعها فنون الطباعة 1813 وبعد اثنتي عشرة سنة من إنشاء مطبعة بولاق نفسها 1922 وتسع سنوات من إنشاء جريدة الوقائع المصرية 1928. وكان طبع الكتاب - العلامة، أيضاً، قبل عامين فحسب من إنشاء مدرسة الإدارة والألسن التي أوكل محمد علي الإشراف عليها لرفاعة الطهطاوي 1836 وقبل سبع سنوات من ظهور جريدة"الوقائع المصرية"1838 وثمان وثلاثين سنة من إنشاء المدرسة الأولى لتعليم البنات سنة 1873 بعد وفاة محمد علي بحوالى ربع قرن. وهو الأمر الذي يؤكد أن مشروع الحداثة والتحديث الذي استهله محمد علي، وتحمس له، لم يتوقف طويلاً، وإنما عاود استمراره بقوة الدفع التي تجسّد بها مبدأ الرغبة في الوجدان الجمعي لطلائع الأمة. وإذا كان طبع كتاب رفاعة قد تم بعد تسعة وعشرين عاماً من بداية الحكم المطلق لعصر محمد علي 1805-1848 فقد كان عام طبع الكتاب، سنة 1834، علامة واعدة لمقدمات تغير الحكم المطلق نفسه وظهور أفق الشورى الحديثة، ففي العام نفسه لصدور الكتاب الذي تحدث، للمرة الأولى، عن الدستور، وحكم الشعب بالشعب، أصدر محمد علي قراراً بتأليف"المجلس العالي"الذي يتشكل من نظار الدواوين ورؤساء المصالح، واثنين من ذوي المعرفة بالحسابات، واثنين من العلماء يختارهما شيخ الجامع الأزهر، واثنين من التجار يختارهما كبير تجار العاصمة، واثنين من الأعيان عن كل مديرية من مديريات القطر، ينتخبهما الأهالي. وبعد ذلك بثلاثة أعوام فحسب، أصدر محمد علي سنة 1837 قانونه الجديد"سياستنامة"الذي صاغ نظام الحكم في البلاد، مجارياً أنظمة الدولة المدنية الحديثة في أوروبا، ونظّم المصالح الحكومية المختلفة. وقد أكد القانون الجديد حقوق المواطنين، وألزم المديرين والموظفين بمعاملة الناس بالعدل وعدم استغلال النفوذ. وكان ذلك في المناخ الواعد الذي تقبل فيه محمد علي الخط الشريف العثماني الصادر سنة 1839 مؤكداً المزيد من حقوق المواطنين، وإعمال مبدأ المساواة الذي حدده الفرمان الذي صدر في عهد السلطان عبدالمجيد، وصاغه وزير خارجية الدولة العَلِيّة في الثالث من تشرين الثاني نوفمبر عام 1839 باسم"فرمان خط شريف كلخانة"الذي يعد أول دستور حديث للدولة العثمانية. وأهم ما جاء فيه أمران: أولهما: أنه لا يجوز للسلطان أو الوزراء أو الولاة إصدار حكم بالإعدام ما لم يصدر قرار بذلك من المحكمة. وثانيهما: المساواة بين جميع المواطنين في كل الحقوق والواجبات، من دون تفرقة بينهم على أساس من دين أو عرق. يستوي في ذلك الالتحاق بالمدارس الحكومية، والخدمة العسكرية، والمساواة أمام القانون والمحاكم، تأكيداً لمبدأ الحرية الذي شمل الحرية الشخصية، وحرية التملك، وحرية المسكن وحرمته، وحرية التجارة والعمل والصناعة. وسواء رددنا"المجلس العالي"أو"سياستنامة"إلى رغبة محمد علي في الإصلاح، أو حرصه على محاكاة الدول الأوروبية المتقدمة، فإن كلا الأمرين لا ينفصل في دلالته عن سياق تحديث الدولة، وما ارتبط بهذا التحديث من حداثة فكرية وإبداعية، حداثة ظهرت آثارها في تغير علاقات المثاقفة، وتقدم قوى الإنتاج المعرفيِّ وعلاقاته، ومن ثم نشأة نموذج جديد لمثقف مدني واعد، سرعان ما أصبح افندياً مطربش، يحل تدريجاً محل الشيخ المعمم، فيغدو بشارة صعود الدولة المدنية الحديثة، وضمان استمرارها. هل كان مصادفةً - والأمر كذلك - أن يولد محمد علي في العام نفسه الذي ولد فيه نابليون بونابرت سنة 1769، وأن يولد مثله في بلد غير البلد الذي صنع فيه مجده الخاص وزمنه المغاير، زمن نابليون الكورسيكي الأصل، وزمن محمد علي الألباني الأصل. وكلا الزمنين عصر من صعود الحلم بالتغير الذي أصاب كل شيء. لكن تبقى معجزة محمد علي الخاصة في قدرته على صياغة مستقبل أمة، ونقلها نقلة جذرية في كل مجال، وهو الأميّ الذي لم يتقن القراءة والكتابة، ولم يعرف اللغة العربية للشعب الذي حكمه وفتح أمامه أبواب التحديث والحداثة. ونحن عندما نحتفل - هذا العام - بمرور مئتي عام على اعتلاء محمد علي عرش مصر، في شهر أيار مايو من سنة 1805، فإنما نحتفل بالشعب الذي أوصله إلى كرسي الحكم في وطن أصبح وطنه، وفرضه على السلطان العثماني الذي عيّنه استجابة إلى ضغط القوى الشعبية. ونحتفل بالمثقفين والمبدعين الذين فتحوا أبواب الفكر والإبداع، في عصر محمد علي، صاعدين مع أمواج الحلم المتدافعة بالمستقبل الواعد. ونحتفل كذلك بالقيمة الوطنية التي تعلو على موطن الولادة بمعناه الضيق، فتؤكد الانتماء إلى دائرة أحلام الوطن الذي يتجاوب فيه الأصيل والوافد الذي تأصّل، فأصبح قوة دفع لمشروع التحديث والحداثة. ويعني احتفالنا بذلك كله وضع زمن محمد علي ومشروعه موضع المساءلة، استخلاصاً للدلالة والمعنى والقيمة، خصوصاً بعد أن تجاوزنا مراحل المراهقة الفكرية التي يتقاذفها الإعلاء الحماسي أو الانتقاص الانفعالي. ولا تخفى على مثقف عربي معاصر أهمية المساءلة في هذا المجال، فهي وسيلتنا للإفادة من دروس الماضي وإنجازاته، وفي الوقت نفسه، تجنب ثغراته وسقطاته. ويؤكد هذه الأهمية أننا بعض ثمار الإنجاز التاريخي لعصر محمد علي، وبعض أشكال استمراره سلباً وإيجاباً، الأمر الذي يدفعنا إلى المزيد من التطلعات في عالمنا المعاصر الذي ينبني مستقبله الإيجابي على تفاعل ثقافات التنوع البشري الخلاق التي انتسب إليها المشاركون في المؤتمر الدولي عن"عصر محمد علي"الذي استضافته القاهرة، فأتاح لها الوصل المجدد ما بين أقطار الشرق والغرب، والباحثين من الأقطار العربية والأوروبية والولايات المتحدة، أولئك الذين جمعتهم رغبة معرفية أصيلة، في استعادة تاريخ مضى، إرهاصاً بتاريخ مقبل. ولذلك فإن تقديري لإقامة هذا المؤتمر يظل قرين ما رأيته واستمعت إليه من مساءلات بحثية ونقاش حر واختلاف مفيد، وقرين عرفاني للجهد المضني الذي بذله الدكتور عماد بدر الدين أبو غازي، والدكتورة شهرت العالم، وكل من عاونهما في الإعداد لهذا المؤتمر وإخراج مطبوعاته المشرفة. ومعهم سفراء ألبانياوإيطاليا واليونان وفرنسا الذين أسهموا بعونهم في إنجاح هذا المؤتمر. وهو إسهام يؤكد معنى إضافياً من معاني التنوع الخلاق الذي تنطوي عليه رمزية الاحتفال بعصر محمد علي في هذه السنوات المملوءة بالوعد والوعيد. نص الكلمة التي ألقيت في الاحتفال الدولي بمرور مئتي عام على حكم محمد علي.