من المعروف ان آية الله السيد علي السيستاني لا يتبنى مسألة"ولاية الفقيه"بصيغتها الخمينية، كما هي حال الكثيرين من"آيات الله"، الذين اعتبروا"ولاية الفقيه"- كما طبقها الخميني في ايران - مسألة طارئة على الفقه الشيعي الجعفري وان كان هناك من يقول ان السيستاني يقبلها بصيغة أخف. وكذلك هي حال"حزب الدعوة الاسلامية"، الذي يتزعمه الدكتور ابراهيم الأشيقر، الذي حمل لقب"أبو أحمد الجعفري"اسماً حركياً قبل سقوط نظام صدام حسين. وقد انشق عن"حزب الدعوة"أحد قيادييه الكبار، وهو الشيخ الآصفي بسبب هذه المسألة. اذ كان يدعو حزبه الى تبني"ولاية الفقيه"، وقبول ولاية السيد علي خامنئي. وكان الشيخ الآصفي على رأس وفد"حزب الدعوة"الى اجتماع المعارضة العراقية في دمشق عام 1996، بكل أطرافها الاسلامية والعلمانية، الذي خربه بموقفه المفاجئ الرافض لمشاركة"الحزب الشيوعي العراقي"في الاجتماع قبل سويعات من عقده. وورط قائد المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق الشهيد محمد باقر الحكيم بهذا الموقف الغريب، وأحرج القيادة السورية، في حينها، لأن الاجتماع كان بضيافتها. ومبعث التوريط والاحراج هو ان"الحزب الشيوعي العراقي"كان مدعواً للاجتماع، وساهم في كل الأعمال التحضيرية له، التي جرت في كردستان العراق وفي دمشق، من دون أي اعتراض من ممثلي"حزب الدعوة الاسلامية". جئت على ذكر هذه الأمور للبحث في موقف الاحزاب الاسلامية الشيعية والمؤتمر الوطني العراقي في الانتخابات، وما بعدها، في ضوئها. فقد نأى السيد السيستاني بالمرجعية، كما هو معلن، عن أن تكون مع طرف من دون آخر بين الأطراف التي انطلقت في العمل السياسي العلني في العراق، منذ التاسع من نيسان ابريل 2003. وانصب جهده على تمكين الشعب العراقي من تقرير مصيره بنفسه، عن طريق اجراء الانتخابات، التي أرادها ان تكون مبكرة، قبل الثلاثين من حزيران يونيو 2004، وان تجري صوغ الدستور من جانب هيئة منتخبة. وعندما تعذر ذلك، برغبة من عدد من الأطراف العراقية وممثلي الأممالمتحدة، التي رأت ان اجراء الانتخابات متعذر وقت ذاك، لأسباب فنية، وتحدد يوم الثلاثين من كانون الثاني يناير 2005 موعداً لاجراء الانتخابات، رمت المرجعية بثقلها، وحسناً فعلت، لانجاح الانتخابات، ودعت مقلديها الى المشاركة في التصويت، حد اعتبار هذه المشاركة واجباً شرعياً. وكان هذا أحد عوامل النجاح الكبير الذي حققته العملية الانتخابية، التي شارك فيها ما يقارب الستين في المئة ممن لهم حق التصويت 8.5 مليون من 14 مليوناً. وهي نسبة عالية، بكل المقاييس، اذا أخذنا في الاعتبار الحرمان الطويل للشعب العراقي من أية انتخابات حقيقية، والأجواء التي جرت فيها العملية الانتخابية، ودعوات التأجيل والمقاطعة، وتهديدات القوى الارهابية مجموعة أبي مصعب الزرقاوي، وفلول النظام المنهار التي أعلنت انها ستحيل العراق الى حمام دم يوم الانتخابات، بعد ان اغتالت، بأعمالها الارهابية الجبانة، العشرات من المواطنين في شهر الانتخابات بالذات. وسبق للمرجعية ان اعلنت أكثر من مرة، بسبب تصريحات وتصرفات وكلائها والمحسوبين عليها، التي لا تنسجم والموقف المعلن للمرجعية، بأنها، أي المرجعية، غير مسؤولة عن أي موقف أو تصريح ما لم يحمل ختم المرجع الأعلى السيد علي السيستاني وامضاءه. وكان آخر اعلان لهذا الأمر يوم الثامن من شباط فبراير الماضي، أصدره السيد حامد الخفاف"حول ما نسب لسماحة السيد السيستاني في اليومين الأخيرين من تصريحات بخصوص الدستور العراقي"، قال فيه:"انه لا يعبر عن آراء سماحة السيد في العملية السياسية إلا ما يصدر من مكتبه في النجف الاشرف حاملاً ختمه وامضاءه". غير ان ما يلاحظ ان هذا لم يتحقق حين صدرت ما سميت"نقاط حرصت المرجعية على تعميمها لشرح موقفها من قضية الانتخابات بعامة، ومن اللائحة 169 بخاصة، وجاءت على شكل بيان توضيح رأي المرجعية العليا"- كما ورد في مجلة"الكلمة"التي تصدر عن مؤسسة الامام الخوئي الخيرية - لندن، في عددها الرابع الصادر في شهر ذي الحجة 1425ه - كانون الثاني 2005. وكان من جملة النقاط التي حرص البيان على تعميمها باسم المرجعية - من دون ختم السيد السيستاني وامضائه - كون"قائمة الائتلاف العراقي الموحد، التي تحمل الرقم 169... تحظى بقبول هكذا وردت ومباركة المرجعية العليا". و"ان المرجعية هي أب للجميع، وترعى الجميع، ومباركتها للقائمة 169 هي هكذا وردت لأنها ترى المصلحة في التصويت لهذه القائمة". وراح البيان الصادر، باسم المرجعية، يزكي قائمة الائتلاف العراقي الموحد باعتبارها"تضم شخصيات وطنية شريفة لا تتبع أي جهة خارجية". وقد جرى تسريب البيان عن طريق القول:"التقى وفد من أهالي بغداد بسماحة المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد السيستاني في النجف الاشرف، واستمع من نجله سماحة السيد محمد رضا السيستاني الى توضيح مفصل لرأي المرجعية العليا في الانتخابات"، وفي"الائتلاف العراقي الموحد"بالذات، ونتيجة لكثرة الاسئلة الواردة الى النجف من المواطنين حول القوائم الانتخابية، ومن ينتخبون، مما لا يمكن اهماله، لذا أوضح السيد حديثه أي السيد محمد رضا نجل السيد علي السيستاني، وليس السيد آية الله السيستاني نفسه - الصافي في نقاط محددة ادرجها البيان. وورد في البيان ما أتينا على ذكره بخصوص قائمة الائتلاف العراقي الموحد. وكان لهذا البيان واستغلاله من قبل قائمة"الائتلاف العراقي الموحد"عن طريق تعميمه، ووضع صورة السيستاني على اعلانات القائمة 169 ومطبوعاتها الدعائية، الأثر الكبير في ما حصلت عليه القائمة من أصوات. ونظراً الى التباين الموجود في مواقف أطراف القائمة، وما تمثله هذه الأطراف من مصالح خاصة بكل طرف من أطرافها، فقد تنافس ثلاثة من أقطابها على منصب رئيس الوزراء المرتقب. ولم يستطيعوا حسم الموقف في ما بينهم، ديموقراطياً، عن طريق التصويت من قبل ممثليها ال140 في الجمعية الوطنية، فقد لجأوا الى المرجعية لتحديد المرشح للمنصب. غير أن السيد علي السيستاني امتنع عن التورط في تبني مرشح معين من بينهم. وقيل انه دعا الى الاهتمام بالبرنامج، قبل الشخص المرشح لرئاسة الوزراء. وقد جرى حل الموضوع بين الأطراف الثلاثة بالاتفاق على ترشيح الدكتور ابراهيم الاشيقر الجعفري لرئاسة الوزراء، بعد أخذ ورد، ليعقب ذلك ذهاب الجعفري الى النجف الاشرف لمقابلة السيد السيستاني وأخذ"مباركته"لهذا الترشيح. وعلى رغم الانتصار الكبير للشعب العراقي، الذي حققه في إنجاح عملية الانتخاب، رغم ما شابها من شوائب تتحمل مسؤوليتها القوائم الثلاث التي حصدت أعلى الأصوات، فإن الاستمرار في زج اسم المرجعية، سواء كان ذلك بختم السيد السيستاني وامضائه، أو بما يقوم به نجله السيد محمد رضا، ومكتبه في النجف الاشرف، باسم المرجعية، انما يعني شكلاً من اشكال ولاية الفقيه، التي لا يؤمن بها السيد السيستاني - كما هو معلن - وهو، أي الاستمرار، أمر ليس بمصلحة المرجعية، ولا بمصلحة الشعب العراقي، وطموحه النبيل لبناء حياة ديموقراطية نزيهة تتنافس فيها الاحزاب والقوى السياسية وفقاً لما تطرحه من برامج، وما يقدمه منتسبوها من خدمات لابناء الوطن جميعاً من دون تمييز، وما يقدمونه من مثل في النزاهة، وحفظ المال العام، واحترام حقوق الشعب وحرياته، والاعتماد علي الكفاءة لاحتلال المناصب، وليس عن طريق انتماء ديني أو طائفي أو قومي أو سياسي. ذلك ان شعبنا الذي اكتوى بنار الديكتاتورية طيلة عقود لا يريد تجربة مرّة كالتجربة الايرانية! * كاتب عراقي، لندن.