يثير الوضع العربي الراهن الرغبة في المقارنة بين ملفاته الرئيسة من خلال قراءة جديدة تضع الأمور في سياقها التاريخي وتطورها السياسي، والملفات القديمة كثيرة ولكننا نحاول عبر السطور التالية إعادة قراءة بعض ما فيها قراءة مختلفة استكمالاً لما فعلناه من قَبل. ولقد كان الباعث لاختيار هذا الموضوع هو ذلك الحادث المأساوي الذي أودى بحياة أكثر السياسيين اللبنانيين بريقاً، فاغتيال الشيخ رفيق الحريري، ورفاقه، يفتح ملف لبنان إذ لازلنا نتذكر حتى الآن أجواء الحرب الأهلية الدامية التي استمرت لأكثر من خمسة عشر عاماً حافلة بالاغتيالات والانتهاكات والجرائم العشوائية وكأن لبنان أصبح هو المسرح الشرق أوسطي لكل تناقضات المنطقة وصراعاتها المختلفة، وسنتناول الآن الملف اللبناني، والملف الفلسطيني، والملف العراقي، ثم الملف السوداني. * الملف البناني: ستظل ألغاز الحرب الأهلية اللبنانية مطروحة باعتبارها واحدة من تراُيديا لبنان ذلك البلد الرائع الذي لا يُراد له أن ينعم بشخصيته المتميزة وامكاناته الطبيعية وثقافته المعروفة فتلك الحرب التي حصدت الآلاف من اللبنانيين وأدت إلى هجرة آلاف أخرى إلى الخارج هي حرب تداخلت فيها العوامل الطائفية والدوافع السياسية والظروف الاقتصادية حتى حصدت أرواح عدد كبير من الساسة اللبنانيين، منهم رئيسان للجمهورية، ورئيس للحكومة، وعدد من قيادات الأحزاب، اضافة الى بعض رجال الدين. ولقد كانت تلك الحرب انعكاساً طبيعياً للصراع العربي - الإسرائيلي، أو لعلها كانت ايضًا نوعًا من تصفية الحسابات بين القوى المتعددة في الشرق الأوسط ولم تكن فقط مجرد مواجهة عسكرية بقدر ما كانت مواجهة بين قوى اجتماعية وطوائف دينية وصلت فيها ذروة المأساة حد القتل وفقاً للهوية، وفي تلك الأيام السود من تاريخ لبنان المغلوب على أمره كنا نسمع من الأخبار ما يشيب له الولدان، ويندهش له الناس، ولا زلنا نتذكر"حرب الفنادق"، و"خطوط التماس"والصِّدام بين بيروتالشرقية، وبيروت الغربية. ولعل الشيء المثير للانتباه هو أن الكثيرين قد قتلوا بسلاح الغدر رغم انتماءاتهم المختلفة، ومع ذلك لم يشهد لبنان ظاهرة الحزن العام والفجيعة الكاملة مثل تلك التي شهدها باغتيال رفيق الحريري، ربما لأن الشهداء الذين سبقوه لقوا حتفهم في غمار الحرب الاهلية، أما هو فجرى اغتياله في ظل قرار مجلس الأمن 9551 وتصاعد المعارضة للوجود السوري في لبنان تحت ظروف شديدة الحساسية، بالغة التعقيد، والكل يعلم أن الحريري عارض القراري السوري بالتمديد للرئيس اللبناني إميل لحود، ولكن معارضته وقفت عند حدود معينة لم يتجاوزها حفاظاً على علاقته الوثيقة بالدولة السورية وهو الرجل الذي حافظ في حياته السياسية - بعقلية رجل الأعمال - على علاقات متوازنة مع كل من سورية، والمملكة العربية السعودية، ومصر، بل وفرنسا، والولايات المتحدة الاميركية ايضًا، ومن هذه النقطة بالذات تبدو صعوبة التعرف على قاتليه الحقيقيين، وإن كانت أظن شخصيًا أنه الإرهاب الأسود اللا منتمي إلى دولة بعينها والذي كان هدفه ليس اغتيال الحريري الشخص بقدر ما هو اغتيال لبنان الإعمار، والاستقرار، والأمن، والإساءة الى علاقته بسورية واعطاء ذريعة لمزيد من الضغط عليها في ظل الولاية الثانية للرئيس الاميركي ُورُ دبليو بوش. * الملف الفلسطيني: بينما دخل الملف الفلسطيني مرحلة انفراج ظاهري بعد"قمة شرم الشيخ"فإذا المنطقة تتجه إلى التوتر من جديد عندما فوجئت الساحة اللبنانية باغتيال الرئيس الحريري، وكأنه لم يكن من المقبول أن تهدأ المنطقة ولو إلى حين إذ أن ما يجري حاليًا على الساحة الفلسطينية يبدو أقرب إلى حالة الترقب والتوقع المتبادل بين الطرفين لأن اسرائيل برعت تاريخيًا في التلاعب بارتباطاتها وانتهاك سيادة غيرها والعبث بحقوق سواها، ولقد بدا ذلك جليًا في مسألة إطلاق سراح المسجونين الفلسطينيين إذ ركزت الحكومة الاسرائيلية على أصحاب الاتهامات الصغيرة والتجاوزات المحدودة ولم تتطرق الى الفدائيين الحقيقيين. والمهم في النهاية لدى اسرائيل هو أن مَنْ تطلق سراحهم يقفون في طابور طويل تحت لافتة"المسجونين الفلسطينيين"، وهذه هي اسرائيل دائماً، المراوغة والمماطلة وتغيير المواقف وقلب الحقائق. ويبدو الرئيس الفلسطيني الجديد أبو مازن ممسكاً بالخيوط بطريقة أفضل من ذي قبل، ولكن الاسرائيليين لم يساعدوه حتى الآن بالقدر الكافي، ويبقى على إدارة بوش الثانية أن تلتزم ما وعدت به في فترتها الأولى وما رددته في الشهور الاخيرة قبل الانتخابات الاميركية وبعدها، وتبقى أدوار عربية اخرى في مقدمها الدور المصري وهي تحاول جمع الكلمة الفلسطينية وإلزام الاسرائيليين بموقف واضح خصوصًا ونحن على أعتاب قمة عربية مقبلة ينبغي أن يرتفع فيها صوت جديد، قومي التوجه، عربي النبرة، واقعي النظرة، يحتفظ بالثوابت ولكنه يخاطب العالم بلغة جدية مفرداتها معطيات العصر والتحولات التي جرت على المجتمع الدولي في السنوات الاخيرة، تبقى في نهاية الملف الفلسطيني نقطة شديدة الاهمية ونعني بها الواقع الاقتصادي لحياة الفلسطينيين والظروف الصعبة التي يعيشونها، فعلى نحو يجعل من التلازم بين التسوية السياسية والتحسن الاقتصادي أمرًا مهمًا في حياة ذلك الشعب المناضل الذي دفع ثمنًا غاليًا لحريته ولكرامته واستقلاله الذي لا زال يناضل من أجله. * الملف العراقي: إن النفق المظلم الطويل الذي دخله الشعب العراقي منذ بداية الحرب العراقية - الايرانية حتى اليوم جعل معاناته المتزايدة على امتداد ما هو أكثر من ربع قرن مدعاة للأسف والقلق وهو يرضخ تحت الاحتلال الاميركي كثمن باهظ للخلاص من الحكم الديكتاتوري وكأن الخيار الأعمى أمامه هو إما الديكتاتورية الداخلية، وإما الاحتلال الأجنبي حتى أصبحت بلاد الرافدين مركز جاذبية للعنف العشوائي والقتل الجماعي، إذ غاب الأمن وعمّت الفوضى وانعدمت الخدمات وتوقفت الحياة اللازمة لشعب في قيمة الشعب العراقي، وتاريخه العريق، وأمجاده المعروفة، خصوصاً وأنه شعب أبيّ شديد المِراس صعب االقيادة، وقد جرت الانتخابات محققة بعض النجاح النسبي، ولكن غياب عنصر من العناصر الأساسية للشعب العراقي عن تلك الانتخابات قلّل بالضروة من قيمتها وحدَّ من فاعليتها لأن خبرة القوى المتحكمة في العراق اليوم هي خبرة لا تضع في اعتبارها تاريخه العربي، وشخصيته القومية، ولكنها تركز فقط على الفروق المذهبية، والاختلافات الدينية، والأصول العرقية، وهي أمور يمكن أن تطيح وحدة العراق، ناهيك عن عروبته، وسنظل نتطلع مع العراقيين الى يوم قريب تعود فيه إليهم مقاليد أمورهم وترتفع رايات العراق الديموقراطية الحر العربي الانتماء المتحد الكيانات كما كان دائماً عَبْرَ تاريخه الطويل. * الملف السوداني: يجب أن نعترف نحن العرب أننا لم نعط مشكلات السودان حجمها الطبيعي على امتداد العقود الماضية مع أن السودان يمثل واحدًا من أهم الدول العربية لأنه يقف على بوابة الاتصال العربي الافريقي، فضلاً عن ضخامة مساحته، ووفرة موارده الطبيعية، وقد ظل السودان مرتبطاً بمصر حتى استقلاله في أول كانون الثاني يناير 6591، ومنذ ذلك الحين والعلاقات المصرية - السودانية في صعود وهبوط أو هي موسمية الاتجاه مثل الأمطار الموسمية التي تهطل على الهضبة، فينبع منها النهر الخالد الذي ترتبط بحوضه عشر دول افريقية تقريباً. ولقد عانى السودان كثيرًا من ظروفه الاقتصادية ووحدته السكانية وسلامته الاقليمية، ولكنه ظل متماسكًا على الرغم من المؤامرات والمشكلات والأزمات، وما كان فصل الصراع الدامي في الحرب الدائرة بين شماله وجنوبه يأخذ طريقه الى الحل ولو جزئيًا، حتى تفجرت في غربه مشكلة من نوع جديد تتمثل في صراع عرقي بين القبائل من أصول عربية، والأخرى من أصول افريقية، رغم انهما ينتميان الى ديانة واحدة هي الإسلام. ولقد كانت الخلافات بينهما دائمة لأن"القبائل الرعوية"كانت في صراع دائم مع"القبائل الزراعية"، وعندما تفجرت المشكلة بصورته الحالية تحركت جهات دولية عديدة للإمساك بهذا الملف وظهرت شهوة التدخل الأجنبي بشكل غير مسبوق، ومع ذلك كان الحضور العربي محدوداً ولم يتجاوز بعض محاولات التدخل من جامعة الدول العربية فضلاً عن الدورين المصري، والليبي، في هذا السياق، ولو أننا نحن العرب أولينا مشكلات السودان ما تستحقه من اهتمام لما تعرّض لما يعانيه الآن، فلقد قصرنا في إعمار الجنوب حتى طالب بالانفصال وتقاعسنا أمام مشكلات الغرب حتى جرى تدويلها وكأنما نسينا أن ثلثي العرب يعيشون في القارة الافريقية. تلك هي رؤيتنا العابرة لذلك الملفك الشائك الذي يحتاج الى رؤية عربية واعية تدرك مكامن الخطر وتعرف مصادر الداء الذي أصابنا جميعًا في السنوات الاخيرة. هذه قراءة سريعة في ملفات قديمة قصدنا بها أن نركز على الملفات الأربعة التي أصبحت تسيطر على الساحة العربية وتحتل مساحة من العقل القومي لعلها تكون مجدية في هذه الظروف الصعبة أو لعلها أقرب إلى عملية المسح السياسي للواقع القومي الذي يتأرجح صعودًا وهبوطًا بين الاستقرار والاضطراب، بين العنف والتهدئة، بين الماضي والمستقبل، إننا نحتاج بحق الى قراءة جديدة لكل ملفاتنا القديمة. كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.