يبلغ معدل الاستهلاك العالمي للمياه للفرد الواحد 150 ليتراً يوميا. أما في اسرائيل فيرتفع المعدل الى 400 ليتر، فيما ينخفض في الاراضي الفلسطينية الخاضعة للنفوذ الاسرائيلي الى 40 ليترا فقط، وتخلو 250 بلدة فلسطينية من شبكات المياه. وعلى رغم هذه الصورة القاتمة، تتهم اسرائيل الفلسطينيين بسرقة المياه بواسطة حفر آبار جديدة. حتى عند الحديث عن نعمة الامطار والمياه لري الاراضي خوفا من القحط، يكون حديث الفلسطيني مختلفا. فالارض هي المصدر الوحيد المتبقي له بعد تدهور حالته الامنية والاقتصادية والاجتماعية على مدار اربع سنوات. والامطار بالنسبة اليه تعني ضمان مياه الشرب له ولاطفاله في ظل ازمة المياه الفلسطينية والمتمثلة في نقصها او في النسبة العالية لملوحتها، ما يدفعه الى شرائها بأثمان باهظة أو الى ممارسة الطرق البدائية لتوفير مياه الشرب من الامطار. وباتت قضية نقص المياه في الاراضي الفلسطينية ازمة حقيقية تنذر بخطر جدي على مستقبل الفلسطينيين على رغم أجواء التفاؤل الحالية بمستقبل افضل للعلاقات بين الطرفين. ففي وقت تنشد انظار العالم كله الى هذه المنطقة الحساسة في الشرق الاوسط، في انتظار بدء تنفيذ خطة الانسحاب من غزة، تكثف اللجان الاسرائيلية المسؤولة عن المياه نشاطها لمعركتها المقبلة مع الفلسطينيين وتعد"لائحة اتهام"ب"السرقة"لانهم حفروا ما يقارب 300 بئر مياه من الخزان الجوفي الشمالي - الشرقي في الضفة من دون اذن من اسرائيل، الامر الذي يرفضه الفلسطينيون ويعتبرونه انتهاكا لحقهم في المياه ويندرج ضمن سياسة استراتيجية لا تنفصل عن السياسة الاستيطانية الهادفة الى بسط السيطرة على اكبر مساحة ارض وعلى كل مصادر المياه. واذا كانت المشكلة في الضفة تقتصر على الاسرائيليين فانها في قطاع غزة تشمل ايضا الاميركيين الذين يرفضون تنفيذ الخطط المعدة لتحسين وضعية المياه وضمان وصولها الى جميع الفلسطينيين خالية من مخاطر الاوبئة والكوارث الصحية، وهو ما يصفه الفلسطينيون ب"العقاب الجماعي". اذ يرفض الاميركيون التزام تعهداتهم في هذا الشأن قبل الكشف عن حيثيات عملية قتل الدبلوماسيين الثلاثة في قطاع غزة قبل اكثر من سنة. وبات هذا الموضوع، اليوم، يشغل الفلسطينيين والعاملين في سلطة المياه الذين يديرون مفاوضات ماراتونية مع الاميركيين والدول المانحة والمؤسسات المختلفة لضمان تنفيذ ولو خطة واحدة من خطط عدة اعدت لحل مشكلة المياه في قطاع غزة، في حين تتازم المشكلة في الضفة الغربية حيث لا تسمح اسرائيل للفلسطينيين بالحصول ولو على الجزء القليل من حقهم في المياه فحسب، بل تعلن ان هذه القضية ستكون الازمة الحقيقية لخطة الانسحاب من الضفة بعد انجاز الانسحاب من قطاع غزة. وتتهم اسرائيل الفلسطينيين بحفر نحو 300 حفرة مياه من الخزان الجوفي في الضفة مما يمس مشاريع ري اراض شاسعة من الزراعة في المنطقة الاسرائيلية القريبة من هذه الحفر بحيث ترتفع نسبة الملوحة الى حد تقضي على الزراعة بمختلف انواعها وتسبب انهيارا اقتصاديا كبيرا للصناعات الاسرائيلية. وتقول الهيئة التي تبحث في قانونية استعمال الفلسطينيين للمياه وحفر الابار التابعة للجيش الاسرائيلي ان الدولة العبرية"تملك الحق في معاقبة الفلسطينيين ايضا بعد تفكيك المستوطنات الاسرائيلية في المنطقة". لكن شخصيات اسرائيلية رأت في ذلك عقابا جماعيا سيؤدي الى تعطيش الفلسطينيين. وتتساءل هذه الشخصيات:"ماذا سيكون رد الهيئة اذا سؤلت من قبل الفلسطينيين او الهيئات الدولية التي قد تتدخل في الموضوع عن عدم السماح للفلسطينيين الا باستعمال 30 مليون متر مكعب من مياه الخزان الجوفي الشمالي - الشرقي في الضفة من اصل 130 مليون متر مكعب. وكيف سترد عندما تعرض الخرائط التي تبين ان جدار الفصل تسبب في ضم 29 بئرا ارتوازية يبلغ معدل ضخها حوالي ثلاثة ملايين متر مكعب سنويا، ما يعني ان الفلسطينيين سيفقدون حوالي 5,16 في المئة من حصتهم في المياه الجوفية من الحوض الغربي في الضفة الغربية؟". حقيقة المشكلة مشكلة المياه مع الفلسطينيين، ودول عربية عدة، مطروحة منذ العام 1967. وتأزمت المشكلة لدى سيطرة اسرائيل على مياه نهر الاردن في الضفة الغربية وشمال فلسطين ومنابعه في لبنان مثل الحاصباني وغيره، وفي بانياس وجبل الشيخ في سورية، كما سيطرت على جميع الاحواض المائية في فلسطين واستولت على ما نسبته 88 في المئة من مجموع مصادر المياه الفلسطينية المحددة البالغة 800 مليون متر مكعب، اضافة الى حصة الفلسطينيين من مياه نهر الاردن التي لا يحصلون عليها. وبعد اتفاق أوسلو تم الاتفاق اسرائيل على تحويل 80 مليون متر مكعب من المياه في السنة للفلسطينيين. لكن الاتفاق بقي حبرا على ورق. وفي حين يحتاج فلسطينيو الضفة 150 مليون متر مكعب سنويا من المياه لا يتوافر لهم نصفها. ويزداد الوضع صعوبة في قطاع غزة بسبب الكثافة السكانية والمساحة الضيقة للقطاع التي لا تزيد على 365 كيلومتراً ويحتاج سكانها الى 120 مليون متر مكعب سنويا في وقت لا يتجمع لهم من مياه الامطار سوى 45 مليون متر مكعب. وأدى هذا الوضع الى تدهور الاوضاع واحداث مشكلة صحية بسبب تلوث مصادر المياه نتيجة السحب الزائد للمياه الذي يؤدي الى دخول المياه العادمة الى المياه المستعملة. وقال احمد اليعقوبي، المسؤول في سلطة المياه في قطاع غزة، ان الوضع في القطاع"في تدهور مستمر مما استدعى تكثيف المسؤولين لقاءاتهم واجتماعاتهم هذا الشهر مع مختلف الاطراف الدولية ذات الشأن لدعم مشاريع المياه في قطاع غزة لاستدراك كارثة بيئية حقيقية". وأضاف:"سلمنا للاميركيين والدول المانحة اوراق عمل ودراسات توضح مخاطر الوضع ونطالب فيها بالموافقة الفورية على تنفيذ ولو مشروع واحد من المشاريع المقترحة لتحلية مياه البحر ووضع حد لتلوث المياه". وزاد ان"المشكلة الاساسية مع قرار الاميركيين تجميد الدعم لهذه المشاريع منذ ان قتل لها ثلاثة دبلوماسيين في قطاع غزة، وهي حتى هذه اللحظة ترفض تقديم اي دعم لتنفيذ المشاريع المتفق عليها لعدم الكشف عن حيثيات القتل واعتقال منفذيه الامر الذي يعتبره الفلسطينيون عقابا جماعيا لمليون و300 الف فلسطيني". وتكمن مشكلة المياه في قطاع غزة في محدودية كمية المياه في الخزان الجوفي في هذه المنطقة وهو المصدر الوحيد للشرب. ويقول اليعقوبي ان الكمية لا توفر الحد الادنى من متطلبات الفلسطينيين اذ انها لا تتعدى 60 مليون متر مكعب في حين ينتج الفلسطينيون 140 مليون متر مكعب للشرب والزراعة. مما يعني انه يتم استنزاف كل الكمية من الخزان لنقص 80 مليون متر مكعب وهذا يعني، اضافة الى النقص الكبير للمياه، تدهور نوعية المياه نتيجة اندفاع مياه البحر الى الخزان وزيادة الملوحة بنسبة عالية. كما انه يتم استنزاف المياه المالحة في الطبقات السفلى في الخزان مما يدفعها الى اعلى وتسبب في زيادة نسبة الملوحة التي تؤثر صحيا في السكان وتضر بالمزروعات. اضافة الى ذلك فان النقص الكبير في الخدمات الصحية والصرف الصحي يشكل خطرا على المياه . فهناك 40 في المئةمن بيوت الفلسطينيين غير مرتبطة بشبكات للصرف الصحي مما يضطرهم الى حفر الحفر بشكل شخصي الامر الذي يدفع المياه العادمة نحو المياه الجوفية ويؤدي الى تلويثها. وفي اي حديث عن حرمان الفلسطينيين من الحد الادنى من حقوقهم لا بد من الاشارة الى ما تضمن اسرائيل توفيره للمستوطنات القائمة على اراضي الفلسطينيين. اذ ان المستوطنات اقرب الى المياه العذبة وهي تستغلها بكاملها في حين يحرم الفلسطينيون منها كليا. وازاء هذا الوضع اعدت سلطة المياه الفلسطينية مشاريع عدة لانقاذ ما يمكن انقاذه ووضعت على رأس اهتماماتها ضرورة ايجاد بدائل عن المياه الجوفية. البديل الاهم والافضل تحلية مياه البحر. وهذا المشروع الذي يعرض هذه الايام على الاميركيين والدول المانحة تصل كلفة مرحلته الاولى الى 70 مليون دولار ويضمن تحلية مياه بمعدل 22 مليون متر مكعب. المشروع يتطرق الى وضعية الفلسطينيين حتى العام 2020. ولضمان هذه المرحلة يتطلب توفير 55 مليون متر مكعب اضافية ليتناسب وارتفاع عدد السكان وتصل كلفته الى 140 مليون دولار . "مواصلة الوضع الحالي سيؤدي الى كارثة صحية خاصة للاطفال"، يقول اليعقوبي ويضيف:"هذه الشريحة اكثر ضحايا المياه الملوثة، وكل الدراسات تشير الى ان الارتفاع المتواصل في مشاكل الفشل الكلوي وازرقاق الاطفال يعود الى تلويث المياه التي يستعملها الفلسطينيون يوميا". ويؤكد الدكتور زاهر سالم الخبير في سلطة جودة البيئة ان تلوث المياه الجوفية والسطحية بالملوثات العضوية والأملاح وبأشكال النيتروجين من نيترات ونيتريت وأمونيا، وكذلك بالمعادن الثقيلة، في غاية الخطورة على صحة الانسان والنبات والحيوان وتتسبب في العديد من الأمراض أهمها ضعف جهاز المناعة والاضطرابات في الجهاز الهضمي وتشوه المواليد. وهناك من العلماء من يشير إلي أنها تسبب مرض السرطان. كما أن النيترات تتسبب في مرض الزرقة عند الأطفال الرضع". ولا تثل الاضرار التي تسببها هذه المياه للاراضي الزراعية لا تقل خطورة كونها تفقد الفلسطينيين مصادر رزقهم الاساسية. فنقص المياه وتلويثها كانا سببا في القضاء على الاف الدونمات من الاراضي المزروعة التي باتت غير صالحة خصوصاً لزراعة الحمضيات . كما ان القصف الاسرائيلي والعمليات الحربية ساهمت هي الاخرى في تدمير قطاع المياه. ففي تقرير لوزارة الزراعة الفلسطينية منذ بداية انتفاضة الاقصى وحتى مطلع السنة الحالية دمرت 236 بئرا و16128 دونماً من شبكات الري و849 بركة وخزانا للمياه و405 الاف و617 مترا من خطوط المياه . الضفة وحوّلت الازمة في الضفة المياه الى مشاريع تجارية مربحة لتجار اسرائيليين حولوا سرقة المياه من المستوطنات والكيبوتسات مهنة لهم. ولحاجة الفلسطينيين الضرورية للمياه وعدم قدرتهم على الوصول الى مناطق بعيدة للحصول عليها بسبب صعوبة الطرق الجبلية اضطروا الى اقامة علاقات مع هؤلاء التجار الاسرائيليين لشراء المياه منهم. تجار المياه استغلوا كل المستوطنات والكيبوتسات الخالية من الجيش ووصلوا الى مصادر المياه وسحبوا ما تمكنوا من كميات في مقابل دفع المال لمزارعين مستوطنين يهود وفرت لهم الحكومة كميات كبيرة من المياه. ولحاجة الفلسطينيين للمياه اضطروا لشرائها بأسعار باهظة تساوي اربعة اضعاف السعر الرسمي في اسرائيل. وراوحت التسعيرة المحددة للفلسطينيين بين 10 و20 دولاراً بحسب الكمية. ولكن هناك من الفلسطينيين ممن لا يملكون هذا المبلغ لشراء المياه فاتفقوا مع الاسرائيليين على مبادلتها بالزيت والزيتون حتى ان بعضهم حصل على المياه مقابل تصليح سيارات الاسرائيليين في كراجاتهم الخاصة وتبديل قطع سيارات . ازمة سكان الضفة تتوضح لدى اجراء حساب لاستهلاك الفرد الاسرائيلي من المياه. فالمعروف ان الاستهلاك العالمي للفرد الواحد من المياه هو 150 ليترا يوميا. وفيما تصل نسبة الفرد الاسرائيلي الى 400 ليتر من المياه يوميا لا تتعدى حصة الفلسطيني 40 ليترا. وجعلت هذه الازمة 250 من اصل 615 مدينة وقرية ومخيماً فلسطينياً تعيش من دون شبكات مياه فيما وقع سكانها ضحايا التجار الاسرائيليين. اسرائيل، كما اسلفنا، انتهكت ما تم الاتفاق عليه في اوسلو. اذ قدر ما في الخزان الجوفي الفلسطيني ب 734 مليون متر مكعب وحدد نصيب الفلسطينيين ب235 مليون متر مكعب اي ما نسبته 32 في المئة من كمية المياه. الا ان الفلسطينيين وبسبب الإجراءات الإسرائيلية لم يسمح لهم باستغلال اكثر من 13.5 في المئة من كمية المياه، في حين تستغل اسرائيل 86.5 في المئة لمصلحتها سواء في مستوطناتها في الضفة الغربية وقطاع غزة او داخل إسرائيل. وفي الوقت نفسه تواصل بناء جدار الفصل الذي يمس بشكل كبير مصادر مياه الفلسطينيين. فالدراسات الفلسطينية تشير الى انه في المرحلة الاولى من الجدار دمّر 35 الف متر من شبكات الري وضم نحو 200 خزان وبركة ماء الى اسرائيل كما دمرت عشرات الابار الارتوازية في محافظات جنين وطولكرم وقلقيلية. والى ان يوافق الاميركيون على تنفيذ الاتفاق مع الفلسطينيين والشروع في خطة تحلية مياه البحر في قطاع غزة وان يقتنع الاسرائيليون بحاجة الفلسطينيين للمياه وعدم تحويل القضية الى لائحة اتهام ضد الفلسطينيين تكون اوضاع الفلسطينيين الصحية والبيئية والزراعية قد تدهورت الى حد يكون من الصعب استدراكه.