1 نسب جميل بثينة العذري عاش جميل بثينة في عهد الخلافة الإسلامية الأموية، ومدة حياته اثنتان وأربعون سنة، وكانت وفاته في منفاه بمصر في أيام عبد العزيز بن مروان بن الحكم سنة اثنتين وثمانين للهجرة/ الموافقة لسنة 701م، وكانت أم جميل من قبيلة جذام، وهو جميل بن عبد الله الملقب صباح بن معمر بن الحارث بن ظبيان وقيل ابن معمر بن حن بن ظبيان بن قيس بن جزء بن ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كثير بن عذرة بن سعد وهو هذيم، وسمي بذلك إضافة لاسمه إلى عبدٍ لأبيه يقال له هذيم كان يحضنه فغلب عليه ابن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. 2 نسب بثينة جميل كان جميلٌ بن معمر يهوى بثينة العذرية، وهي بنت حيان بن ثعلبة بن الهوذ بن عمرو بن الأحب بن حن بن ربيعة، وكانت بثينة تكنى أم عبد الملك، وتلتقي هي وجميل في النسب بجدهما الأكبر حن، من قبيلة ربيعة، ولكن القرابة بينهما بعيدة بعض الشيء، ولذلك تضايق أقاربها الأقربون من جميل، ومنعوه من لقائها ما أمكنهم ذلك. 3 جميل بثينة وشعره الغنائي يعتبر جميل بن عبد الله بن معمر شاعراً غزلياً عذرياً عفيفاً، وقد حاز شعره اهتمام أدباء زمانه، والذين أتوا بعد زمانه حتى العصر الحاضر، فما من أديب إلا ويحفظ شيئاً من شعر جميل، وقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني عدداً من قصائده التي تغنى بها المغنون والجواري، وأورد تلك القصائد ضمن المئة صوت المختارة من الشعر الْمُغنى، وحدد طريقة الغناء، واسم الملحن كقوله: رحل الخليط جمالهم بسواد وحدا على إثر البخيلة حادي ما إن شعرتُ ولا علمت بِبَيْنِهِمْ حتى سمعت به الغراب ينادي 4 مكانة جميل الشعرية جميل بن معمر شاعر فصيح مُقدّم جامع للشعر والرواية، وقد كان جميلُ شاعراً، وراوية للشاعر هدبة بن خشرم، وكان هدبة شاعراً، وراويةً للحطيئة، وكان الحطيئة شاعراً، وراوية لزهير بن أبي سلمى وابنه كعب، وآخر من اجتمع له الشعر والرواية كُثيِّرُ عزّة، فقد كان كُثير شاعراً، وكان راوية لجميل بن معمر. وكان كُثير عزة راوية جميل يقدِّمه على نفسه في الشعر، ويتخذه إماماً فيه، ويُروى أن جميلاً مرّ على جماعة بشعب سلع فاستنشدوه من شعره فأنشدهم: نحن منعنا يوم أوْلٍ نساءنا ويوم أفيٍّ والأسنة ترعفُ نسير أمام الناس والناس خلفنا فإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا إذا استبق الأقوام مجداً وجدتنا لنا مغرفا مجدٍ وللناس مغرف ثم قالوا له: أنشدنا هزجاً. قال جميل: وما الهزج? لعله هذا القصير? فقالوا: نعم، فأنشدهم: رسم دارٍ وقفت في طلله كدت أقضي الغداة من جلله موحشاً ما ترى به أحداً تنتسج الريح ترب معتدله واقفاً في ديار أم جسيرٍ من ضحى يومه إلى أصله فقال ابن عبد الرحمن بن الأزهر: هذا أشعر أهل الإسلام. فقال ابن حسان: نعم والله، وأشعر أهل الجاهلية، والله ما لأحد منهم مثل هجائه ولا نسيبه. 5 بداية عشق جميل وبثينة كان أول ما تعلق جميل بن معمر بحب بثينة، أنه أقبل يوماً مع إِبلِهِ حتى أوردها وادياً يقال له: وادي بغيض، فاضطجع وأرسل إبله مصعدةً، وكان أهل بثينة بذنب الوادي، فأقبلت بثينة وجارةٌ لها واردتين الماء، فمرتا على فِصال إبلٍ لجميل بروكٍ فنفّرتهن بثينة، وهي إذ ذاك جويريةٌ صغيرة، فسَبَّها جميلٌ، فافترت عليه وسبّته، فمَلُح إليه سبابُها فقال: وأول ما قاد المودة بيننا بوادي بغيضٍ يا بثينُ سُبابُ وقلنا لها قولاً فجاءت بمثله لكل كلامٍ يا بثينُ جوابُ 6 عتاب العشاق لقي جميلٌ بثينة بعد تهاجرٍ كان بينهما طالت مدته، فتعاتبا طويلاً فقالت له: ويحك يا جميل! أتزعم أنك تهواني وأنت الذي تقول: رمى الله في عيني بثينة بالقذى وفي الغر من أنيابها بالقوادح! فأطرق طويلاً يبكي ثم قال: بل أنا القائل: ألا ليتني أعمى أصمّ تقودني بثينة لا يخفى علي كلامها فقالت له: ويحك! ما حملك على هذه المنى! أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعاً! 7 العشق العذري تجسس أبو بثينة وأخوها كلام جميل مع بثينة فلم يريا ريبة: وسعت أمةٌ لبثينة بها إلى أبيها وأخيها وقالت لهما: إن جميلاً عندها الليلة، فأتياها مشتملين على سيفين، فسمعاه يحدثها ويشكو إليها بثَّهُ، وكان يقول لها: يا بثينة، أرأيت ودي إياك وشغفي بك ألا تجزينيه? قالت: بماذا? قال: بما يكون بين المتحابين. فقالت له: يا جميل، أهذا تبغي! والله لقد كنت عندي بعيداً منه، ولئن عاودت تعريضاً بريبةٍ لا رأيت وجهي أبداً. فضحك وقال: والله ما قلت لك هذا إلاّ لأعلم ما عندك فيه، ولو علمت أنك تجيبينني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري، ولو رأيت منك مساعدةً عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي، ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد، أوَما سمعت قولي: وإني لأرضى من بثينة بالذي لو أبصر الواشي لقرت بلابله بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى وبالأمل المرجوّ قد خاب آمله وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي أواخره لا نلتقي وأوائله فلما سمعا ذلك الحوار العذري قال أبوها لأخيها: قم بنا، فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها، فانصرفا وتركاهما. 8 زواج بثينة تزوجت بثينةً رجلاً اسمه نبيه، وحينذاك حزن جميل وقال: ألا نادِ عيراً من بثينة ترتعي نودِّعْ على شحط النوى ونودَّع وحثوا على جمع الركاب وقربوا جِمَالاً ونوقاً جلةً لم تضعضع أعيذُك بالرحمن من عيشٍ شقوةٍ وأن تطمعي يوماً إلى غير مطمع إذا ما ابن معلونٍ تحدر رشحه عليك فموتي بعد ذلك أو دعي 9 هدر دم جميل بثينة عشق جميلٌ بثينة وهو غلام، فلما بلغ خطبها فمُنع منها، فكان يقول فيها الأشعار، حتى اشتهر وطرد، فكان يأتيها سراً ثم تزوجت فكان يزورها في بيت زوجها في الحين خفية إلى أن استُعمل دجاجة بن ربعي على وادي القرى فشكوه إليه فتقدم إليه ألا يلم بأبياتها، وأهدر دمه لهم إن عاود زيارتها، فاحتبس حينئذ، وضاقت عليه الدنيا، فكان يصعد بالليل على مرتفع رملٍ يتنسم الريح من نحو حي بثينة ويقول: أيا ريح الشمال أما تريني أهيم وأنني بادي النحول هبي لي نسمةً من ريح بُثنٍ ومُنّي بالهبوب على جميل وقولي يا بثينة حسب نفسي قليلك أو أقل من القليل وكانت بثينة تقول لجوارٍ من الحي عندها: ويحكن! إني لأسمع أنين جميل من بعض القيران الرملية! فيقلن لها: اتقي الله! فهذا شيء يخيله لك الشيطان لا حقيقة له. وبعد المضايقات الحكومية هرب جميل إلى اليمن فأقام بها مدة. وقال في ذلك المنفى: ألم خيالٌ من بثينة طارق على النأي مشتاقٌ إلي وشائق سرت من تلاع الحجر حتى تخلصت إلي ودوني الأشعرون وغافق كأن فتيت المسك خالط نشرها تغل به أردانُها والمرافقُ 10 الوداع لما أراد جميلٌ الخروج إلى الشأم، هجم ليلاً على بثينة وقد وجد غفلةً. فقالت له: أهلكتني والله وأهلكت نفسك! ويحك! أما تخاف! فقال لها: هذا وجهي إلى الشأم، إنما جئتك مودعاً. فحادثها طويلاً ثم ودعها، وقال: يا بثينة، ما أرانا نلتقي بعد هذا، وبكيا طويلاً. ثم قال لها وهو يبكي: ألا لا أبالي جفوة الناس ما بدا لنا منك رأيٌ يا بثين جميل وما لم تطيعي كاشحاً أو تبدلي بنا بدلاً أو كان منك ذهول 11 نعي جميل وحزن بثينة خاف جميل من الحكومة والْمُخبرين في الشام، فرحل إلى مصر، ومات في المنفى، وقال الأصمعي: حدثني رجلٌ شهد جميلاً لما حضرته الوفاة بمصر أنه دعاه فقال: هل لك في أن أعطيك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئاً أعهده إليك? فقال قلت: اللهم نعم. قال: إذا أنا مت فخذ حلتي هذه التي في عيبتي فاعزلها جانباً ثم كل شيء سواها لك، وارحل إلى رهط بني الأحب من عذرة - وهو رهط بثينة - فإذا صرت إليهم فارتحل ناقتي هذه واركبها، ثم البس حلتي هذه واشققها ثم اعل على شرفٍ وصح بهذه الأبيات وخلاك ذمٌّ. ثم أنشدني هذه الأبيات: فزعموا أنه قال حين حضرته الوفاة: صدع النعي وما كنى بجميل وثوى بمصر ثواء غير قفول ولقد أجر الذيل في وادي القرى نشوان بين مزارعٍ ونخيل قومي بثينة فاندبي بعويل وابكي خليك دون كل خليل وقال الرجلُ: فلما قضى وواريته التراب، أتيت رهط بثنية ففعلت ما أمرني به جميل، فما استتمَمْتُ الأبيات حتى برزت إلي امرأةٌ يتبعها نسوةٌ قد فرعتهن طولاً، وبرزت أمامهن كأنها بدرٌ قد برز في دجنةٍ وهي تتعثر في مرطها حتى أتتني، فقالت: يا هذا، والله لئن كنت صادقاً لقد قتلتني، ولئن كنت كاذباً لقد فضحتني. قلت والله ما أنا إلا صادق، وأخرجت حلته. فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها، واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت فمكثت مغشياً عليها ساعةً، ثم قامت وهي تقول: وإن سلوي عن جميلٍ لساعةٌ من الدهر ما حانت ولا حان حينها سواءٌ علينا يا جميل بن معمرٍ إذا مت بأساء الحياة ولينها قال الرجلُ: فلم أر يوماً كان أكثر باكياً وباكيةً منه يومئذ. 12 الخلاف في نسب قضاعة النسابون مختلفون في قضاعة، فمنهم من يزعم أن قضاعة بن معد وهو أخو نزار بن معد لأبيه وأمه، وهي معانة بنت جوسم بن جلهمة بن عامر بن عوف بن عدي بن دب بن جرهم، ومنهم من يزعم أنهم من حمير، وقد ذكر جميل ذلك في شعره فانتسب معدياً فقال: أنا جميلٌ في السنام من معدّ في الأسرة الحصداء والعيص الأشدّ قضاعة تنسب كلها في حمير، فتزعم أن قضاعة بن مالك بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقيل: اسم سبأ: عامر، وإنما قيل له سبأ لأنه أول من سبى النساء، وكان يقال له عب الشمس، أي: عديل الشمس، سمي بذلك لحسنه. ومَن زعم من هؤلاء أن قضاعة ليس ابن معد ذكر أن أمه عكبرة، وهي امرأة من سبأ كانت تحت مالك بن عمر، فمات عنها وهي حامل، فخلفه عليها معدّ بن عدنان، فولدت قضاعة على فراشه. 1 نسب جميل بثينة العذري عاش جميل بثينة في عهد الخلافة الإسلامية الأموية، ومدة حياته اثنتان وأربعون سنة، وكانت وفاته في منفاه بمصر في أيام عبد العزيز بن مروان بن الحكم سنة اثنتين وثمانين للهجرة/ الموافقة لسنة 701م، وكانت أم جميل من قبيلة جذام، وهو جميل بن عبد الله الملقب صباح بن معمر بن الحارث بن ظبيان وقيل ابن معمر بن حن بن ظبيان بن قيس بن جزء بن ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كثير بن عذرة بن سعد وهو هذيم، وسمي بذلك إضافة لاسمه إلى عبدٍ لأبيه يقال له هذيم كان يحضنه فغلب عليه ابن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. 2 نسب بثينة جميل كان جميلٌ بن معمر يهوى بثينة العذرية، وهي بنت حيان بن ثعلبة بن الهوذ بن عمرو بن الأحب بن حن بن ربيعة، وكانت بثينة تكنى أم عبد الملك، وتلتقي هي وجميل في النسب بجدهما الأكبر حن، من قبيلة ربيعة، ولكن القرابة بينهما بعيدة بعض الشيء، ولذلك تضايق أقاربها الأقربون من جميل، ومنعوه من لقائها ما أمكنهم ذلك. 3 جميل بثينة وشعره الغنائي يعتبر جميل بن عبد الله بن معمر شاعراً غزلياً عذرياً عفيفاً، وقد حاز شعره اهتمام أدباء زمانه، والذين أتوا بعد زمانه حتى العصر الحاضر، فما من أديب إلا ويحفظ شيئاً من شعر جميل، وقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني عدداً من قصائده التي تغنى بها المغنون والجواري، وأورد تلك القصائد ضمن المئة صوت المختارة من الشعر الْمُغنى، وحدد طريقة الغناء، واسم الملحن كقوله: رحل الخليط جمالهم بسواد وحدا على إثر البخيلة حادي ما إن شعرتُ ولا علمت بِبَيْنِهِمْ حتى سمعت به الغراب ينادي 4 مكانة جميل الشعرية جميل بن معمر شاعر فصيح مُقدّم جامع للشعر والرواية، وقد كان جميلُ شاعراً، وراوية للشاعر هدبة بن خشرم، وكان هدبة شاعراً، وراويةً للحطيئة، وكان الحطيئة شاعراً، وراوية لزهير بن أبي سلمى وابنه كعب، وآخر من اجتمع له الشعر والرواية كُثيِّرُ عزّة، فقد كان كُثير شاعراً، وكان راوية لجميل بن معمر. وكان كُثير عزة راوية جميل يقدِّمه على نفسه في الشعر، ويتخذه إماماً فيه، ويُروى أن جميلاً مرّ على جماعة بشعب سلع فاستنشدوه من شعره فأنشدهم: نحن منعنا يوم أوْلٍ نساءنا ويوم أفيٍّ والأسنة ترعفُ نسير أمام الناس والناس خلفنا فإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا إذا استبق الأقوام مجداً وجدتنا لنا مغرفا مجدٍ وللناس مغرف ثم قالوا له: أنشدنا هزجاً. قال جميل: وما الهزج? لعله هذا القصير? فقالوا: نعم، فأنشدهم: رسم دارٍ وقفت في طلله كدت أقضي الغداة من جلله موحشاً ما ترى به أحداً تنتسج الريح ترب معتدله واقفاً في ديار أم جسيرٍ من ضحى يومه إلى أصله فقال ابن عبد الرحمن بن الأزهر: هذا أشعر أهل الإسلام. فقال ابن حسان: نعم والله، وأشعر أهل الجاهلية، والله ما لأحد منهم مثل هجائه ولا نسيبه. 5 بداية عشق جميل وبثينة كان أول ما تعلق جميل بن معمر بحب بثينة، أنه أقبل يوماً مع إِبلِهِ حتى أوردها وادياً يقال له: وادي بغيض، فاضطجع وأرسل إبله مصعدةً، وكان أهل بثينة بذنب الوادي، فأقبلت بثينة وجارةٌ لها واردتين الماء، فمرتا على فِصال إبلٍ لجميل بروكٍ فنفّرتهن بثينة، وهي إذ ذاك جويريةٌ صغيرة، فسَبَّها جميلٌ، فافترت عليه وسبّته، فمَلُح إليه سبابُها فقال: وأول ما قاد المودة بيننا بوادي بغيضٍ يا بثينُ سُبابُ وقلنا لها قولاً فجاءت بمثله لكل كلامٍ يا بثينُ جوابُ 6 عتاب العشاق لقي جميلٌ بثينة بعد تهاجرٍ كان بينهما طالت مدته، فتعاتبا طويلاً فقالت له: ويحك يا جميل! أتزعم أنك تهواني وأنت الذي تقول: رمى الله في عيني بثينة بالقذى وفي الغر من أنيابها بالقوادح! فأطرق طويلاً يبكي ثم قال: بل أنا القائل: ألا ليتني أعمى أصمّ تقودني بثينة لا يخفى علي كلامها فقالت له: ويحك! ما حملك على هذه المنى! أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعاً! 7 العشق العذري تجسس أبو بثينة وأخوها كلام جميل مع بثينة فلم يريا ريبة: وسعت أمةٌ لبثينة بها إلى أبيها وأخيها وقالت لهما: إن جميلاً عندها الليلة، فأتياها مشتملين على سيفين، فسمعاه يحدثها ويشكو إليها بثَّهُ، وكان يقول لها: يا بثينة، أرأيت ودي إياك وشغفي بك ألا تجزينيه? قالت: بماذا? قال: بما يكون بين المتحابين. فقالت له: يا جميل، أهذا تبغي! والله لقد كنت عندي بعيداً منه، ولئن عاودت تعريضاً بريبةٍ لا رأيت وجهي أبداً. فضحك وقال: والله ما قلت لك هذا إلاّ لأعلم ما عندك فيه، ولو علمت أنك تجيبينني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري، ولو رأيت منك مساعدةً عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي، ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد، أوَما سمعت قولي: وإني لأرضى من بثينة بالذي لو أبصر الواشي لقرت بلابله بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى وبالأمل المرجوّ قد خاب آمله وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي أواخره لا نلتقي وأوائله فلما سمعا ذلك الحوار العذري قال أبوها لأخيها: قم بنا، فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها، فانصرفا وتركاهما. 8 زواج بثينة تزوجت بثينةً رجلاً اسمه نبيه، وحينذاك حزن جميل وقال: ألا نادِ عيراً من بثينة ترتعي نودِّعْ على شحط النوى ونودَّع وحثوا على جمع الركاب وقربوا جِمَالاً ونوقاً جلةً لم تضعضع أعيذُك بالرحمن من عيشٍ شقوةٍ وأن تطمعي يوماً إلى غير مطمع إذا ما ابن معلونٍ تحدر رشحه عليك فموتي بعد ذلك أو دعي 9 هدر دم جميل بثينة عشق جميلٌ بثينة وهو غلام، فلما بلغ خطبها فمُنع منها، فكان يقول فيها الأشعار، حتى اشتهر وطرد، فكان يأتيها سراً ثم تزوجت فكان يزورها في بيت زوجها في الحين خفية إلى أن استُعمل دجاجة بن ربعي على وادي القرى فشكوه إليه فتقدم إليه ألا يلم بأبياتها، وأهدر دمه لهم إن عاود زيارتها، فاحتبس حينئذ، وضاقت عليه الدنيا، فكان يصعد بالليل على مرتفع رملٍ يتنسم الريح من نحو حي بثينة ويقول: أيا ريح الشمال أما تريني أهيم وأنني بادي النحول هبي لي نسمةً من ريح بُثنٍ ومُنّي بالهبوب على جميل وقولي يا بثينة حسب نفسي قليلك أو أقل من القليل وكانت بثينة تقول لجوارٍ من الحي عندها: ويحكن! إني لأسمع أنين جميل من بعض القيران الرملية! فيقلن لها: اتقي الله! فهذا شيء يخيله لك الشيطان لا حقيقة له. وبعد المضايقات الحكومية هرب جميل إلى اليمن فأقام بها مدة. وقال في ذلك المنفى: ألم خيالٌ من بثينة طارق على النأي مشتاقٌ إلي وشائق سرت من تلاع الحجر حتى تخلصت إلي ودوني الأشعرون وغافق كأن فتيت المسك خالط نشرها تغل به أردانُها والمرافقُ 10 الوداع لما أراد جميلٌ الخروج إلى الشأم، هجم ليلاً على بثينة وقد وجد غفلةً. فقالت له: أهلكتني والله وأهلكت نفسك! ويحك! أما تخاف! فقال لها: هذا وجهي إلى الشأم، إنما جئتك مودعاً. فحادثها طويلاً ثم ودعها، وقال: يا بثينة، ما أرانا نلتقي بعد هذا، وبكيا طويلاً. ثم قال لها وهو يبكي: ألا لا أبالي جفوة الناس ما بدا لنا منك رأيٌ يا بثين جميل وما لم تطيعي كاشحاً أو تبدلي بنا بدلاً أو كان منك ذهول 11 نعي جميل وحزن بثينة خاف جميل من الحكومة والْمُخبرين في الشام، فرحل إلى مصر، ومات في المنفى، وقال الأصمعي: حدثني رجلٌ شهد جميلاً لما حضرته الوفاة بمصر أنه دعاه فقال: هل لك في أن أعطيك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئاً أعهده إليك? فقال قلت: اللهم نعم. قال: إذا أنا مت فخذ حلتي هذه التي في عيبتي فاعزلها جانباً ثم كل شيء سواها لك، وارحل إلى رهط بني الأحب من عذرة - وهو رهط بثينة - فإذا صرت إليهم فارتحل ناقتي هذه واركبها، ثم البس حلتي هذه واشققها ثم اعل على شرفٍ وصح بهذه الأبيات وخلاك ذمٌّ. ثم أنشدني هذه الأبيات: فزعموا أنه قال حين حضرته الوفاة: صدع النعي وما كنى بجميل وثوى بمصر ثواء غير قفول ولقد أجر الذيل في وادي القرى نشوان بين مزارعٍ ونخيل قومي بثينة فاندبي بعويل وابكي خليك دون كل خليل وقال الرجلُ: فلما قضى وواريته التراب، أتيت رهط بثنية ففعلت ما أمرني به جميل، فما استتمَمْتُ الأبيات حتى برزت إلي امرأةٌ يتبعها نسوةٌ قد فرعتهن طولاً، وبرزت أمامهن كأنها بدرٌ قد برز في دجنةٍ وهي تتعثر في مرطها حتى أتتني، فقالت: يا هذا، والله لئن كنت صادقاً لقد قتلتني، ولئن كنت كاذباً لقد فضحتني. قلت والله ما أنا إلا صادق، وأخرجت حلته. فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها، واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت فمكثت مغشياً عليها ساعةً، ثم قامت وهي تقول: وإن سلوي عن جميلٍ لساعةٌ من الدهر ما حانت ولا حان حينها سواءٌ علينا يا جميل بن معمرٍ إذا مت بأساء الحياة ولينها قال الرجلُ: فلم أر يوماً كان أكثر باكياً وباكيةً منه يومئذ. 12 الخلاف في نسب قضاعة النسابون مختلفون في قضاعة، فمنهم من يزعم أن قضاعة بن معد وهو أخو نزار بن معد لأبيه وأمه، وهي معانة بنت جوسم بن جلهمة بن عامر بن عوف بن عدي بن دب بن جرهم، ومنهم من يزعم أنهم من حمير، وقد ذكر جميل ذلك في شعره فانتسب معدياً فقال: أنا جميلٌ في السنام من معدّ في الأسرة الحصداء والعيص الأشدّ قضاعة تنسب كلها في حمير، فتزعم أن قضاعة بن مالك بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقيل: اسم سبأ: عامر، وإنما قيل له سبأ لأنه أول من سبى النساء، وكان يقال له عب الشمس، أي: عديل الشمس، سمي بذلك لحسنه. ومَن زعم من هؤلاء أن قضاعة ليس ابن معد ذكر أن أمه عكبرة، وهي امرأة من سبأ كانت تحت مالك بن عمر، فمات عنها وهي حامل، فخلفه عليها معدّ بن عدنان، فولدت قضاعة على فراشه.