تمر اليوم، 25 آذار مارس، ذكرى مرور ثلاثين سنة على استشهاد رجل من أعظم رجالات العرب في العصر الحديث، وهو المغفور له بإذن الله الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود. وأجدها مناسبة لاستعادة ذكرى هذه الشخصية العربية النادرة. وقد أتيح لي شخصياً شرف مقابلته اكثر من مرة خلال حضوره اجتماعات مجلس الجامعة العربية في القاهرة، في اواسط الخمسينات، وكذلك حين قيامي بأعمال المفوضية العراقية في جدة عندما كانت مقراً للهيئات الديبلوماسية في الفترة نفسها وأخيراً في واشنطنونيويورك خلال اجتماعات الأممالمتحدة في اواسط الستينات. كان الملك فيصل، رحمه الله، ممثل الديبلوماسية العربية في أسمى مظاهرها، ولم يكن في اتصالاته وجهوده ممثلاً لمصالح المملكة العربية السعودية وحدها، بل كان ناطقاً باسم العرب جميعاً، ومدافعاً عن قضاياهم وحقوقهم، ومعبراً عن آلامهم وآمالهم. وكان بكل المعايير من دهاة العرب في القرن العشرين. خدم بلاده وأمته في الداخل والخارج، وفي الاوساط العربية والمحافل الدولية، خدمة صادقة لمدة تزيد على نصف قرن، وكان نموذجاً فريداً لرجل الدولة الحكيم، ذي المبادئ العالية، ومن أقوى وأبرز الحكام العرب الذين عرفهم العالم منذ أجيال. ولد الملك فيصل بن عبدالعزيز في الرياض في 14 صفر سنة 1322ه 9 نيسان/ ابريل 1906م، وهو النجل الرابع للملك عبدالعزيز، وشارك في سن مبكرة في المعارك والاحداث التي واكبت نشوء المملكة العربية السعودية وبناءها على يد والده. وأصبح معروفاً خارج بلاده منذ يفاعته، اذ أوفده والده، قبل ان يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، بمهمة ديبلوماسية، وهي ابلاغ دول الحلفاء تهانئ والده لمناسبة انتصارها في الحرب العالمية الاولى، ومباحثة المسؤولين البريطانيين في القضايا المشتركة التي تهم البلدين، وكان ذلك خير إعداد له، منذ نعومة أظفاره، لما كان سيضطلع به بعد ذلك من مهمات ومسؤوليات قدم خلالها لبلاده وأمته خدمات لا تنسى. وفي سنة 1925 عينه والده أميراً لمكة المكرمة، ونائباً للملك في الحجاز وكان لقبه "النائب العام" وهو يومذاك في التاسعة عشرة من عمره، لكنه كان منذ ذلك الوقت يتمتع بثقة والده الذي توسم فيه الخير وآنس من تصرفاته آية الرشد. وفي تلك السنة ايضاً أوفده والده لينوب عنه في المباحثات التي أجريت مع الحكومة البريطانية وانتهت بالتوقيع على "معاهدة جدة" في 20 أيار مايو 1927، وبها اعترفت بريطانيا ب"المملكة العربية السعودية" اعترافاً كاملاً. وفي السنة التالية زار الأمير فيصل بن عبدالعزيز انكلترا وفرنسا وهولندا وأقطاراً اخرى، وتعرّف الى رجالاتها. وفي سنة 1931، بينما كان الأمير فيصل "نائباً عاماً" للملك، اختاره والده رئيساً ل"مجلس الشورى" ووزيراً للداخلية، وكان في الخامسة والعشرين من عمره، ثم أوفده في مهمة ديبلوماسية الى تركيا والاتحاد السوفياتي وعدد من الدول الاوروبية، فأدى مهمته خير أداء. قضية فلسطين كانت قضية فلسطين في تلك الفترة في بدايتها، وكانت المخططات الصهيونية لاغتصاب ذلك الجزء من الوطن العربي قد بدأت بالظهور الى الوجود تدريجاً. وفي سنة 1939 وجهت الحكومة البريطانية دعوة الى مصر والعراق والمملكة العربية السعودية واليمن وشرق الاردن لعقد مؤتمر في لندن لبحث قضية فلسطين مع ممثلي اليهود. وقبلت الدول العربية الدعوة، واختار الملك عبدالعزيز الأمير فيصل لتمثيل المملكة العربية السعودية في هذا المؤتمر. وحضر ممثلو الدول العربية الى لندن، لكنهم رفضوا الاجتماع بممثلي اليهود والجلوس على مائدة واحدة معهم. وافتتح مؤتمر لندن في 7 شباط فبراير 1939، فلم يجد البريطانيون مناصاً من الاجتماع بممثلي الدول العربية صباحاً، وممثلي اليهود بعد الظهر. ووقف الأمير فيصل بن عبدالعزيز، رئيس الوفد السعودي، وانتقد سياسة بريطانيا المتناقضة في فلسطين، اذ كانت تؤيد العرب وكأنها الى جانبهم، وتؤيد الصهيونية وكأنها معها. وحمّل الأمير فيصل في خطابه الهادئ الرصين بريطانيا مسؤولة إراقة الدماء العربية في فلسطين، كما طالب بوقف الهجرة اليهودية اليها، وبتحديد موعد لاستقلال فلسطين وجلاء القوات البريطانية عنها. واختتم خطابه محذراً بأن "قضية فلسطين اذا لم تُحلّ حلاً عادلاً يؤمن للعرب سلامة ارضهم ومقدساتهم وكرامتهم، فإن ذلك سيسيئ اساءة بالغة الى علاقة بريطانيا مع العالمين العربي والاسلامي، مؤكداً اهمية ? بل ضرورة ? استقلال فلسطين. وكان لخطاب الأمير فيصل وقع عظيم، فتناقلته الصحف العربية والعالمية على نطاق واسع، ولخّصته جريدة الاهرافم القاهرية بقولها:"... بسط الأمير فيصل العهود المقطوعة للعرب، وأقام الادلة على صحتها وقوتها، وتكلم عن علاقات الصداقة الوثيقة بين بلاده وانكلترا. وقال ان هذه العلاقات التي يريدها العرب وثيقة، ويخشى ان تتصدع اذا لم يعامل عرب فلسطين بالعدل والانصاف، فإن الخطر الذي يهدد كيانهم أثار في العالمين العربي والاسلامي روح استياء يجب ان يحسب له حساب. ثم طلب الأمير فيصل تحقيق العهود المقطوعة للعرب تعزيزاً للصداقة وتأميناً لمصالح الامتين، وحل مشكلة فلسطين التي هي موضوع الخلاف بينهما". ولم تتمكن الحكومة البريطانية من التوفيق بين مواقف العرب واليهود، ولم تؤد المفاوضات الى نتيجة بعد ان رفض الطرفان المقترحات التي طرحت في المؤتمر. وأعلنت الحكومة البريطانية انها ستنفذ ما تراه ملائماً ولو لم يقبله الطرفان، فكان الكتاب الابيض الذي رفضه العرب واليهود جميعاً. كان مؤتمر لندن فاتحة اهتمام الأمير فيصل بن عبدالعزيز بقضية العرب الكبرى التي قضى بقية عمره في الدفاع عنها في كل مؤتمر، وفي كل اجتماع عربي، وعلى كل منبر دولي. وظلت هذه القضية الرئيسية التي شغلت الأمير فيصل، والتي عمل لأجلها بكل قدراته، بما عهد عنه من حكمة، وتأن، وعمق، ونظرة واقعية، حتى يومه الاخير. وفي سنة 1943 زار الأمير فيصل الولاياتالمتحدة استجابة لدعوة من رئيسها روزفلت، وكانت الحرب العالمية الثانية لا تزال في أشد مراحلها ضراوة. وخلال إقامته في نيويورك قام، ضمن اتصالاته الواسعة، بزيارة "بنك تشيس الوطني" وقابل كبار موظفيه لأمور تتعلق بمصالح المملكة المالية. وفي الوثائق البريطانية التي فتحت في عام 1973، تقرير سري للقنصل البريطاني في نيويورك غود فري هوغارد مؤرخ في 2 كانون الاول ديسمبر 1943، عن هذه الزيارة، جاء فيه انه علم من احد موظفي ذلك البنك ان حديث الأمير فيصل مع مديري البنك خصص كله تقريباً للإعراب عن مخاوفه من المخططات الروسية بعد الحرب تجاه الشرق الاوسط، بما فيه الجزيرة العربية. وقد أكد الأمير فيصل وكبار موظفي البنك على مدى سيطرة الاتحاد السوفياتي على القسم الشمالي من ايران، وكان يبدو لهم ان الروس لم يعودوا ينظرون الى مضيق البوسفور كنفذ لهم الى "المياه الدافئة"، بل ان انظارهم اتجهت الى الخليج العربي والبحر الاحمر. وكان الشخص الذي أبلغ القنصل بهذه المعلومات يظن ان الاهتمام بهذا الامر كان مبعثه الخوف من احتمال عودة الولاياتالمتحدة الى سياسة العزلة بعد الحرب. وفي حال تحقق ذلك لن تكون بريطانيا قادرة على مقاومة الضغط السوفياتي في ذلك الجزء من العالم بمفردها. ولما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وعقد مؤتمر سان فرانسيسكو في سنة 1945، كان الأمير فيصل وزيراً للخارجية، فترأس الوفد السعودي الى ذلك المؤتمر التاريخي، كما انه مثّل والده في مؤتمر ملوك ورؤساء الدول اعضاء جامعة الدول العربية الذي عقد في القاهرة سنة 1946، وفي تلك السنة زار الأمير فيصل سورية ممثلاً والده، ومعه أخوه الأمير منصور، للمشاركة في احتفالاتها بجلاء الفرنسيين. في الأممالمتحدة ترأس الأمير فيصل الوفد السعودي في معظم اجتماعات الأممالمتحدة، وفي اجتماع سنة 1947 ألقى خطابه الشهير الذي خصص الجزء الاكبر منه لقضية فلسطين، وتساءل الأمير في خطابه: "هل ان قضية فلسطين معقدة بدرجة يتعذّر معها حلها؟" وأجاب عن هذا التساؤل قائلاً: "انني اقول هذا: ان قضية فلسطين معقدة لأن تعقيدها كان مقصوداً، ولم يكن في النية حلها. ان المسؤولين عن هذا التقصير هم بريطانياوالولاياتالمتحدة بالدرجة الاولى، وتليهما عصبة الأمم البائدة... ولكنها بريطانيا التي كانت مسؤولة بالدرجة الاولى، لأنها شجعت الهجرة اليهودية، وبالنتيجة اثار تساهل بريطانيا طمع الصهيونيين بحيث بدأوا ادعاءاتهم ببلاد لا تعود لهم، وكأنها بلاد خالية من السكان". ثم قال: "هنالك امر واحد لا نستطيع ان نفهمه ولا نجد له تبريراً، وهو تدخل حكومة الولاياتالمتحدة في قضية فلسطين، ودعمها للصهيونيين. ان فلسطين ليست البلد الوحيد الذي تسكنه اقلية، فلماذا يجب السماح لهذه الاقلية بفرض ارادتها على مستقبل الاكثرية وعرقلة استقلال بلاد، وحرية شعب لا هدف له سوى تطوير بلاده والعمل لخير الانسانية؟". "وكذلك لا نستطيع ان نفهم الصمت الذي التزمته الولاياتالمتحدة تجاه الارهاب الصهيوني والعدوان الصهيوني. اذا كانت الولاياتالمتحدة تحدوها دوافع انسانية حقاً، وهي دوافع نشاركها فيها، فلماذا لا تفتح ابواب بلادها لهؤلاء اللاجئين؟ فالولاياتالمتحدة، على أي حال، اغنى وأوسع من فلسطين التي هي مكتظة بهؤلاء المعتدين الدخلاء، لدينا مثل عربي يقول: اذا اردت ان تجود فجد مما تملك". ثم تساءل الأمير فيصل في خطابه قائلاً: "أين ميثاق الاطلسي؟ اين ميثاق الاممالمتحدة؟ إن الحبر الذي كتبت به تلك المواثيق لم يجف بعد، ولذلك فإننا نجد ممثل الولاياتالمتحدة يحاول اثارة العالم كله حول قضية اليونان، فماذا يفكر حول فلسطين؟ هل نسي مبادئ الميثاق أم أراد التنكّر لها؟ انني لأستغرب موقف من يمنعون الهجرة الى بلادهم، ويريدون فرضها على بلاد غيرهم". وختم الأمير فيصل خطابه الرائع قائلاً: "ليس هنالك الا حل واحد، وهو حل عادل، ولكنه يتطلب الشجاعة والحزم. وذلك الحل هو اعلان استقلال فلسطين، وتأسيس دولة ديموقراطية فيها أسوة بما هو موجود في غيرها من الأقطار". وطرح في الأممالمتحدة مشروع لتقسيم فلسطين وعقدت الجمعية العامة اجتماعها في 29 تشرين الثاني نوفمبر 1947، وعلى رغم استبسال مندوبي الدول العربية وباكستان في هذه المعركة السياسية، وما أبدوه من حجج في اضرار التقسيم وجوره وبطلانه، فقد بذل الرئيس الاميركي ترومان جهداً كبيراً للتأثير في الاعضاء وإغرائهم بالوعود، وتهديدهم. ومن الغريب ان الولاياتالمتحدة اتفقت مع الاتحاد السوفياتي على تأييد التقسيم على رغم كونهما على خلاف دائم في كل شيء آخر. ولياً للعهد ثم ملكاً كان آخر منصب شغله الأمير فيصل في عهد والده هو منصب نائب رئيس مجلس الوزراء الذي كان أخوه الاكبر الأمير سعود رئيساً له. وعلى أثر وفاة الملك عبدالعزيز وولاية الأمير سعود للعهد عام 1953، أصبح الأمير فيصل ولياً للعهد ورئيساً لمجلس الوزراء، ورأس وفد بلاده الى مؤتمر باندونغ سنة 1955، والى مؤتمر بلغراد لرؤساء دول عدم الانحياز في سنة 1961. وكان الملك سعود ? رحمه الله ? خلال القسم الأعظم من سنة 1963 خارج بلاده، مريضاً تحت المعالجة. وفي آذار مارس 1964 تسلم الأمير فيصل السلطات الكاملة في المملكة العربية السعودية بمرسوم ملكي، وفي تشرين الثاني نوفمبر من السنة نفسها ارتقى العرش ملكاً للمملكة العربية السعودية. اتبع الملك فيصل منذ اعتلائه العرش سياسة واضحة في قيادة بلاده تقوم على ثلاثة أسس: 1- النهوض بالمملكة العربية السعودية. 2- إحياء مجد الإسلام. 3- دعم التضامن العربي والاسلامي، والدفاع عن الحقوق المغتصبة من العرب، والعمل على نصرة قضية فلسطين. وقام بسلسلة من الزيارات الرسمية الى الدول الاسلامية. وعلى أثر الحريق الذي دبّر في مسجد الاقصى كان هو الذي دعا الى مؤتمر عربي، فعقد هذا المؤتمر في الرباط، وفيه تحققت مسؤولية اسرائيل عن هذه الجريمة النكراء، ودينت فيها امام العالم. ثم جاءت هزيمة سنة 1967 تلك الهزيمة التي أجريت لها "عملية تجميل" فصارت تسمى "نكسة"، ولم يكن تأثيرها في المملكة العربية السعودية أقل منه في الدول العربية الاخرى، خصوصاً ان الملك فيصل كان قد جعل قضية فلسطين منذ زمن بعيد هاجسه الرئيسي وأهم أهداف سياسته. وكثيراً ما قال، بعد سنة 1967، ان طموحه الكبير هو ان يصلي في المسجد الاقصى قبل وفاته، وهو بطبيعة الحال لم يقصد ان يفعل ذلك بإذن من قوات الاحتلال الصهيوني او بموافقتها، بل بعد تحريرها وعودتها الى اصحابها الاصليين. ولم يحمل الملك فيصل أي عطف على الاتجاه اليساري، خصوصاً النفوذ المتزايد للاتحاد السوفياتي الذي كان يسود او يوجه او يؤثر في بعض الدول العربية في تلك الفترة، ما عمّق آثار الهزيمة. وقد بلور الأمير فيصل، عندما أصبح ملكاً، اعتقاداً راسخاً بأن الشيوعية عملت في الخفاء، بتحالف مع الصهيونية واسرائيل، على تحطيم التضامن العربي والاسلامي. وكان يعتقد بأن الصهيونية والشيوعية وجهان بديلان لمؤامرة دولية واحدة، وأدلى في سنة 1971 بتصريح الى مجلة "نيوزويك" الاميركية قال فيه: "ان الشيوعية هي من صنع اليهود، وغرضها تحقيق اهداف الصهيونية...". اما في داخل المملكة فقد عمل الملك فيصل على تكثيف برامج التعليم، وعني بالتنمية الاقتصادية، خصوصاً في مجال الزراعة، فحققت البلاد في عهده خطوات سريعة في هذه المجالات. وكان الملك فيصل، او الناطق بلسانه، يطالب على الدوام باستعادة الاراضي التي احتلتها اسرائيل. وقد ازدادت هذه المطالبة صراحة وقوة في سنة 1972. وفي تموز يوليو 1973، اشار الملك فيصل للمرة الاولى الى قطع النفط السعودي عن اميركا اذا هي لم تعدل موقفها المنحاز لاسرائيل. وعلى رغم صداقته الطويلة مع الولاياتالمتحدة وشركات النفط الاميركية العاملة في بلاده، فإنه صرّح في هذا الشأن قائلاً: "إن دعم اميركا الكامل للصهيونية ضد العرب يجعل من الصعوبة بمكان علينا ان نواصل تزويد الولاياتالمتحدة باحتياجاتها من النفط بل وحتى اقامة علاقات ودية معها". ولما بدأ القتال بين مصر وسورية من جهة، واسرائيل من الجهة الاخرى، في تشرين الاول اكتوبر 1973، اعلن الملك فيصل اولاً خفض عشرة في المئة من صادرات النفط السعودي الاجمالية، ثم اعلن بعد بضعة ايام وقفاً كلياً لصادرات النفط الى الولاياتالمتحدة. ان امكانات النفط الضخمة المتوافرة للمملكة العربية السعودية جعلت هذا الاجراء تهديداً خطيراً للصناعة الاميركية، وأصبح الملك فيصل في وضع مسيطر في العالم العربي. ولما أعلن وقف اطلاق النار بين الطرفين العربي والاسرائيلي، اعرب الملك فيصل عن تصميمه على وجوب تحقيق المطالب العربية ازاء اسرائيل. وبصفته حامياً للأماكن الاسلامية المقدسة، جعل من الواضح للأميركيين حرصه على ان أي تسوية تتم يجب ان تتضمن عودة القدس الى العرب. وكان الملك فيصل طوال عام 1974 وخلال الشهور الاولى من سنة 1975 على اتصال مباشر وتشاور مستمر مع الرؤساء العرب الذين كانوا ايضاً شديدي الحرص على دعمه، وكان من الواضح ان دعمه كان حيوياً وأساسياً في كفاحهم ضد اسرائيل وعدوانها. صفات الملك فيصل الشخصية كانت صفات الملك فيصل الشخصية تتمثل بالدرجة الاولى في اخلاصه، لأسرته ولشعبه ولأمته ولدينه. ومكنته خبرته التي امتدت خمسين عاماً مع رجال من جميع الاجناس والاقوام، وفي ظروف متباينة ومتنوعة، من الإلمام بشتى الظروف المحيطة بالقضايا التي يواجهها، واتخاذ افضل الاجراءات المحسوبة بدقة لتحقيق أهدافه الدائمة، وفي مقدمها الحفاظ على الكيان الذي اسسه والده، وعلى مصالح بلده، وأمته، ودينه. وكان الملك فيصل يلام احياناً على مبالغته في الحذر، ولكنه كان حذر الحكيم المحيط بتفاصيل الامور ودقائقها. وقد حققت بلاده خلال حكمه تقدماً سريعاً في شتى مجالات العمران والثقافة، ولا شك في ان شعبه يدين له بالكثير مما يتمتع به من رخاء، وينعم به من معطيات الحضارة. وكان رحمه الله مع اطلاعه على الحضارة الغربية، شديد التمسك بتعاليم الدين الاسلامي والشريعة الغراء، وكان في حياته الشخصية متقشفاً. وكان أيضاً رابط الجأش دائماً، هادئ الاعصاب لا يُستفز، عميق الغور صريح العبارة، وكان شديد التنظيم في اعماله، دقيقاً في مواعيده. وكان افراد عائلته والمقربون منه يقولون ان المرء يستطيع ان يضبط ساعته وفقاً لتحركات الملك فيصل، اذ كانت لكل ساعة من ساعات يومه مهمة خاصة بها. وطوال المدة من سنة 1964 الى سنة 1975 - التي شهدت مأساة وفاته ? أمضى الملك فيصل كل يوم من ايام عمله بحسب جدول زمني دقيق، وكانت مواعيد الصلوات الخمس من أبرز معالم ذلك الجدول. وكان الملك فيصل في مظهره نحيفاً، متوسط الطول، مع تقاطيع وجه دقيقة، تعلوها مسحة خفيفة من الحزن، وقد يعزى ذلك الى سوء صحته في السنوات الاخيرة من حياته، واجراء جراحات عدة له. وفي مثل هذا اليوم قبل ثلاثين عاماً بالضبط، أي في 25 آذار مارس 1975، استشهد الرجل الوديع المسالم، الذي كان أمّة في رجل، وانساناً عظيماً، وملكاً كانت سيرته جزءاً من تاريخ بلاده وأمته، وهي سيرة غنية، حافلة، هيهات ان توجز معالمها في عجالة، او تسرد تفاصيلها في مقالة. رحمه الله، وعطّر المولى ثراه.