يتبارى المهتمون بتطوير الوضع العربي في تقديم آرائهم لاصلاح الجامعة. ومنهم من يضع يده على الجرح ومنهم من لا يعلم أن الجامعة تجاوزت بعض ما يقترح ومنهم من يرى أن علة العلل هي نظام التصويت وأن من الحلول الحاسمة تشكيل محكمة عدل عربية الخ... وكل الآراء مرحب بها وهي قديمة جديدة، وبعضها تضمنته دراسات رصينة قبل أكثر من عقدين من الزمن. لكن ما يبعث على الخوف أنه اذا لم تجد دعوات الاصلاح والتطوير من يهتم بها فقد يفرض علينا على حين غرة نظام شرق أوسطي ثخين على حد تعبير السيد نبيل شعث. هذا النظام الاقليمي الجديد الموسع الذي تم التبشير به بعد احتلال العراق مباشرة لا بد أن يتفق مع قيم وأهداف الداعين اليه. وهو سيحل لا محالة محل النظام القومي العربي الحالي، الا اذا أصلحنا أحوالنا دولاً ومجتمعات وأنظمة وتصدينا بشجاعة لدعوات الجاهلية التي تريد ليس فقط هدم بيت العرب، بل العودة الى ما تسميه الكيانات القبلية وتفكيك ما تصفه ب"القومجية العربية"التي توظف احدى القنوات الفضائية العربية أحد برامجها الاسبوعية للدعوة لها، والتي لحسن الحظ لا يشاهدها الا من هم على شاكلتها. وكأحد العاملين في الجامعة العربية الذين يقرأون ما يقال عن منظمتهم من خارجها ولا يعلقون أو يردون، مع أنهم هم أدوات تنفيذ الاصلاح وجزء من الحل، أقدم مساهمة متواضعة لا ترقى قطعاً الى الأفكار الكبيرة التي ستناقش في قمة الجزائر أو بعض ما يطرح في الصحف العربية هذه الأيام. وتتلخص في أن الجامعة يجب أن تكون حصرياً منظمة لآبنائها الذين تدرجوا في وظائفها ويعتبرونها منظمتهم ويحرصون كل الحرص على أن تنجح في أداء مسؤولياتها لأنهم هم الذي ينفذون هذه المسؤوليات والمسؤولين في المقام الأول عن الفشل والذين يتلقون كل اللوم في كل وسائل الإعلام العربية يومياً على فشل النظام القومي العربي. هؤلاء يجب عليهم أيضاً ان يغلّبوا المصلحة العربية على ولائهم القطري وأن يعملوا كما لو أنهم أبناء قطر عربي واحد مكلفون بتحقيق أهداف تخدم كل العرب، وهذا يتطلب اما تجاوز نظام الحصص في الجامعة العربية واعطاء مناصبها للأكفياء بغض النظر عن جنسياتهم أو ان تحرص الدول لاأعضاء على ترشيح من تراه فقط جديراً بالوظيفة واعتبار شغل كل دولة لحصتها إلزامياً حتى لا يتم ملء الوظائف الشاغرة في فترات متباعدة بعناصر قد تفتقر للكفاءة وتسعى باستمرار للحصول على درجة وراء أخرى في مدد زمنية قصيرة بغض النظر عن مؤهلاتها وخبراتها وفترة خدمتها، استناداً الى أن حصة دولها غير كاملة أو لجوء بعض الدول الى منح بعض أو كل حصصها لمواطني دول اخرى لا تنطبق على بعضهم مواصفات الوظيفة او لا تحتاجهم الأمانة العامة، لكنها تقبلهم لأن الدولة العضو لها حق في ذلك. وتدور في الأمانة العامة أفكار حول حصر وظائفها، كل وظائفها باستثناء منصب الأمين العام بأبنائها، أي بكلمات واضحة وصريحة انتهاء اختيار أي شخص لأي منصب من خارج الجامعة، لأن هذا الاختيار من أسباب الركود في الجامعة وعدم حراك كادرها الى الأمام الذي يرتطم بسقف فيه الطموح ويسود فيه الاحباط، وعلى سبيل الايضاح فان ادارات معينة قام بأعبائها لفترات تطول أو تقصر اشخاص قضوا فيها جل عمرهم الوظيفي واستمرت في أداء مهامها بالكفاءة نفسها بوجود الرئيس المباشر أو من دونه. ان المناصب العليا تعطى لارضاء الدول وليس لها علاقة بتفعيل دور الجامعة. وقليلاً ما نجد أن أحد شاغليها قد ترك بصمات بعد انتهاء خدمته فيها. ناهيكم عن ان بعض هؤلاء يتولون مناصبهم بعد احالتهم على التقاعد في دولهم أو قبل الاحالة بفترة قصيرة. ولمصلحة الأمانة العامة ولزيادة فعالية أدائها ان يكون معاونو الأمين العام من موظفي الأمانة العامة الدائمين، وهذا يقتضي بالضرورة منح درجة سفير لمن يستحقها وأن يتم اختيار معاوني الأمين العام من قبل الأمين العام وحده الذي عليه أن يراعي الكفاءة وعدالة التوزيع الجغرافي معاً من حاملي هذه الدرجة الجديدة. ان هؤلاء هم الذين سيعاونون الأمين العام ومن المصلحة العملية ان يعرفهم عن قرب وأن يكون مطلعاً على كفاءاتهم وفي أي مجالات يصلحون. واقتصار الاختيار على الأمين العام وحده يجعله فعلا المسؤول الأول عن نجاح الجامعة او فشلها. ومن مقومات نجاح أي منظمة كبيرة متعددة الاهداف تتبعها منظمات متخصصة وبعثات ديبلوماسية اعتماد مبدأ التدقيق الصارم في اختيار موظفيها عبر التنافس النزيه المتكافئ وقيامها بعد ذلك بتأهيلهم وتقويمهم سنويا تقويما منصفا يتضمن الثواب والعقاب. وذلك يسهم في زيادة مقدار الاحترام للوظيفة في الجامعة حتى من قبل منتسبيها أنفسهم ويبعدها عن الشوائب والغمز واللمز. وفي هذا النطاق سيكون مفيداً جداً تبني نظام منظمة اليونسكو الجديد الذي يتعاقد بموجبه كل الموظفين قديمهم وجديدهم، بمن فيهم مساعدو الأمين العام في المنظمة، على العمل فيها لمدة سنتين قابلة للتجديد. هذا النظام يسهم في جعل الموظف حريصاً على أداء واجبه باخلاص والى أن يطور كفاءته التي ستكون هي وحدها سلاحه للبقاء وليس أي اعتبارات أخرى. ويتطلب تعزيز الكفاءة بجانب التأهيل والتقويم النزيه فحص ملفات الموظفين فحصاً دقيقاً لابقاء القادرين والاستغناء التدريجي عمن لا يستطيعون مواكبة التغيير وتعويضهم تعويضاً مالياً كريماً عادلاً مع رسائل تقدير لخدماتهم. ومن نافلة القول ان الأحوال في أي مؤسسة لا تستقيم الا برقابة فعالة مجردة تستهدف حسن توظيف واستخدام الموارد المالية والبشرية ووضع كل شخص في المكان المناسب وانفاق الموارد المحدودة في اغراضها المحددة، احتراماً للقسم وللأمانة التي تقتضيها أي وظيفة. ويضاف الى ذلك عدم بقاء الموظف في منصب معين لأكثر من ثلاث أو أربع سنوات منعاً لخلق مراكز قوى وتضخيم الذات، وان يتم الانتقالم ن وظيفة الى اخرى عبر الاعلان وانتقاء الأقدر. ان من متطلبات الاصلاح ايضاً ابتعاد الدول الاعضاء عن التدخل في التوظيف او الترقية سواؤ تم هذا التدخل بديبلوماسية الهاتف من العواصم او اللقاء المباشر للرجاء او للضغط في الأمانة العامة نفسها. ولا شك ان الدول الاعضاء سترفع يدها عن الجامعة عندما تشعر بأن الاحوال تسير فيها بحسب نظامها وان الكل يعامل معاملة عادلة متساوية، سواء كان في داخل الجامعة او في بعثاتها. وفي هذه الحال سينسى كل وزير خارجية ان له نفوذا مضطرا لاستخدامه عندما يحيق الحيف بأحد مواطني بلده. ان تفعيل المحكمة الادارية في الجامعة سيخلق حالة من الاطمئنان ويوفر على الدول الاعضاء الجهود التي تبذلها من حين الى آخر لاصلاح ما تراه معوجاً من الأمور. ويتكامل مع ما سبق قيام الجامعة بمعاملة بعثاتها الديبلوماسية ومبعوثيها على قدم المساواة وأن توفر الدول الاعضاء الامكانات التي توفرها لسفاراتها لتمكين هذه البعثات ومسؤوليها من العمل في أجواء ملائمة. ان الامكانات التي توفرها أفقر دولة عربية تكفيها وتكفيهم. ويتصل بالتطوير اعادة النظر في نظام التقاعد الحالي غير الكريم الذي لا يمكّن من يخدم في الجامعة ثلاثين سنة او اكثر من شراء شقة في بلده او علاج نفسه اذا اصيب بمرض خبيث أو أو أو... ومن الشروط التي تقوّي الجامعة ليس فقط استقلالية موظفيها بل إحساسهم ان الجامعة تحميهم من الضغوط والأهواء وان يكون لهم تنظيم نقابي فعال مستقل يخدم مصالح الفرد والمؤسسة معاً، وفي ظل الدعوات الحالية وفي الجامعة بالذات لافساح المجال واسعاً لمنظمات المجتمع المدني العربية فان على الجامعة ان تبدأ بنفسها وان تتيح الفرصة لموظفيها لانشاء جمعية جديدة باختصاصات قوية، وان تقول للجمعية الحالية وداعاً، وان تقول ايضاً لضيوفها وداعاً ثانياً... * سفير ورئيس بعثة الجامعة العربية في بريطانيا.