لن تكون جامعة الدول العربية بعد عام أو عامين، حين تهدأ رياح التغيير التي تجتاح المنطقة، هي نفسها المنظمة التي عرفناها منذ 1945. العالم العربي يتغير. ويشمل هذا التغيير حكومات بعض دوله الأعضاء في الجامعة، وشعوبه التي لم يحسب هؤلاء الأعضاء، أو على الأقل معظمهم، حساباً لها من قبل. ولا يمكن أن يتغير العالم العربي من دون أن يؤثر ذلك في المنظمة الإقليمية التي تجمع دوله. كانت هذه المنظمة في حاجة إلى تغيير قبل تسونامي التغيير وبعد أن بلغت العمر الذي يُحال فيه الأفراد عادة إلى التقاعد. ولكن إرادة التغيير كانت مفقودة. لذلك، فعندما بدأ هذا التغيير في تونس وامتد إلى دول عربية عدة، وأسقط نظامين وقد يسقط غيرهما، لم يعد ممكناً أن تبقى الجامعة على حالها. وهذا هو ما يفترض أن يعرفه أمينها العام الجديد الدكتور نبيل العربي. فهو يمتلك من الخبرة الطويلة والمعرفة ما يمكنّه من إدراك أن الجامعة، التي اضطر إلى تولي موقع أمينها العام حلاً لنزاع غير مسبوق إليه، دخلت في مرحلة انتقال لن تخرج منها كما كانت من قبل على مدى 66 سنة. ولم يكن الصراع الحاد على موقع أمينها العام بين مرشحين، استحال فوز أحدهما حتى بالاقتراع بعد أن كان التوافق سهلاً من قبل، إلا إحدى العلامات الأولية الدالة على أنها لن تبقى كما كانت. كما أن تأجيل القمة العربية الدورية، التي كان مقرراً عقدها في بغداد في آذار (مارس) الماضي، جاء دالاً على أن لا جدوى من عقد مؤتمرات قمة أو ما دونها في مرحلة انتقال لا تستطيع الجامعة فيها القيام بوظائفها التقليدية أو حتى المحافظة على الشكل الذي نجحت فيه طوال تاريخها أكثر من أي شيء آخر. والأرجح أنه سيكون صعباً عقد القمة في موعدها الجديد في آذار 2012. فليس متوقعاً أن ينتهي تسونامي التغيير خلال أشهر. وهذا ما قد يعرفه الأمين العام الجديد، الذي يفترض ألّا يشغل نفسه بمسائل إجرائية ربما يطولها تغيير في جامعة الدول العربية «الجديدة» التي قد تكون مختلفة عن تلك التي أنُشئت في 1945 بدرجة أو بدرجات وفق ما ستكون عليه صورة العالم العربي الجديد أيضاً. ويعني ذلك أن الأمين العام الجديد ليس في وضع مماثل لسابقيه، الذين تولى الأخيران بينهما هذا الموقع في أجواء جمود وركود مختلفة بل مناقضة لتلك السائدة الآن في العالم العربي. وحتى الأمناء العامون الذين عاصروا فترات تحول واضطراب في الفترة ما بين منتصف خمسينات القرن الماضي وحرب 1967، وإبان أزمة كامب ديفيد، كان عليهم أن يؤدوا أدوارهم التقليدية المعروفة من دون تغيير ولكن في أجواء أصعب. ويختلف ذلك عن الدور المتوقع من الأمين العام الجديد، الذي ستكون مهماته التقليدية محدودة في لحظة تحولات داخلية في بعض الدول العربية. فربما تكون مهمته الأولى السعي إلى بلورة مشروع للجامعة العربية «الجديدة» التي يمكن أن تولد من رحم التحولات الجارية عبر فتح حوار منهجي ومنظم مع الأوساط الرسمية والشعبية في الدول الأعضاء فيها، ومراجعة الأفكار والمقترحات التي طُرحت خلال العقود الماضية لإصلاح هذه الجامعة وتطويرها. وبين هذه المقترحات مشاريع رسمية قُدمت حين كانت الحكومات العربية في حال هلع من الهجمة الأميركية لإعادة ترتيب المنطقة وإقامة شرق أوسط كبير بعد الحرب على العراق في 2003. وبينها، أيضاً، أفكار بعضها بالغ الأهمية طرحها مثقفون وأكاديميون وناشطون في المجتمع المدني في كثير من الدول العربية. فكم من كتب ومقالات نُشرت ومؤتمرات وندوات عُقدت وقُدمت فيها دراسات وأوراق في هذا المجال. وهناك تراكم معرفي في مجال تقويم الجامعة ونقد أداء أمانتها العامة ومؤسساتها الأساسية ومنظماتها المختصة، كما في اقتراح مداخل وسبل وأفكار لإصلاحها ووضع حد لركودها وترهلها وغيابها عن الساحة حين يتعين عليها أن توجد، وحضورها عندما لا يكون ثمة مقتضى لوجودها. إذاً، فالمنتظر من نبيل العربي ليس الأداء الروتيني التقليدي الذي لن يكون مضطراً إلا إلى القليل منه في مرحلة انتقال. المتوقع منه هو أن ينشغل بوضع الأساس لمشروع إصلاحي كبير لتطوير الجامعة العربية وتحديثها لتكون جديدة من دون أن يعني ذلك إعادة بنائها من نقطة الصفر. وفضلاً عن مراجعة التراكم المعرفي، وتنظيم حوار منهجي، يستطيع العربي الاستفادة من تجربة مجلس التعاون الخليجي الذى بُدئ في توسعته أخيراً، والتعاون مع أمانة هذا المجلس التي يبدو أن لديها تصوراً لمستقبله من أجل إيجاد التناغم الضروري بين هذا القصور والمشروع المنتظر من الأمين العام الجديد للجامعة. وقد يكون مفيداً، كذلك، الاطلاع على تجربة الاتحاد الأفريقي وكيف تم تطوير منظمة الوحدة التي سبقته على نحو جعله أكثر فاعلية وإنجازاً. فلم يكن هذا مجرد استبدال اسم أو تغيير شكل، بخلاف بعض المقترحات التي طرحتها حكومات عربية من قبل ضمن مشاريعها لتطوير الجامعة. ولا يمكن التطلع إلى جامعة عربية «جديدة» حقاً من دون تطوير أمانتها العامة دوراً وأداء. فالأمانة العامة هي روح أي منظمة إقليمية مرهون دورها بحاصل إرادات الدول الأعضاء فيها على نحو قد يشل حركتها أو يجعلها شكلاً بلا مضمون إذا اختلفت هذه الدول أو تنافرت. ويعرف العربي أن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية كانت أضعف من أن تعالج أوضاعاً معقدة في العلاقات بين أعضاء هذه الجامعة. ويتطلب تفعيل دور الأمانة العامة مراجعة صلاحياتها المنصوص عليها في ميثاقها في ضوء تجربتها السابقة وتجارب المنظات الإقليمية الأخرى. ولا يقل أهمية عن ذلك مراجعة طريقة تجنيد العاملين فيها وإنهاء «الكوتة» السقيمة التي تستخدمها الدول الأعضاء بطريقة تتعارض مع أبسط مقتضيات الكفاءة، ووضع معايير صارمة في هذا المجال. وفي إمكان العربي أن يشرع في هذا كله ضمن مشروع متكامل لمنظمة إقليمية سيكون العرب في أشد الحاجة إليها عندما تستقر الأوضاع في منطقتهم التي هبت عليها رياح التغيير.