ارتبطت القمم العربية التي استضافتها عواصم الشمال الافريقي بتحولات عميقة في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، اذ أن قمة فاس صاغت الخطة الأولى للسلام على أنقاض اللاءات الشهيرة لفترات الحماس والخطابة، بينما اخترق المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر لاءات الفصائل المتشددة. وقد يروق الاعتقاد بأن منطقة الشمال الافريقي اعتلت واجهة العمل العربي على خلفية النزوح الفلسطيني من لبنان الى تونس، كونها كانت مهيأة لذلك بسبب البعد الجغرافي وعدم الارتباط مباشرة بولاءات الأطراف المتصارعة، غير انها ردت التحية الى لبنان بأفضل منها من خلال الدور الذي اضطلعت به لجنة الحكماء الثلاثية التي ضمت السعودية والجزائر والمغرب، ولو أن السوريين تلقوا الاشارات القوية من الثلاثية وقتذاك لما احتاجوا الى تعميم مواقفها لتصبح قراراً ملزماً من مجلس الأمن، وليس هناك غير طريق سهلة ووحيدة في تصور تطابق الأحداث، أي توقعها من دون الاطمئنان الى الاستنتاجات المغلوطة. مناسبة استحضار دروس التاريخ أن الجزائر تستضيف القمة العربية التي تبدو استثناء في سجل المؤتمرات العربية. أول مظاهره أن الدول العربية لم يعد أمامها سوى بدائل سياسية قليلة لتأكيد أن في إمكانها التعاطي والأزمات العربية من العراق الى لبنان الى السودان. والثاني أنه لا توجد آمال كبيرة معلقة على هكذا حدث يمكن أن يشد انتباه العالم الى معجزة عربية في غير زمن المعجزات. ومع الإقرار بان الانعقاد الدوري للقمم العربية أفضل من ترك ذلك لضرورات التطورات، فإن التوقعات كلما كانت متواضعة تساعد في اضفاء الصدقية واحتواء المشاعر. وينطبق الموقف ذاته على أولويات القمة، أكان ذلك على صعيد تحريك مبادرة السلام العربية أو دعم توجهات السلطة الفلسطينية أو الاحاطة الشاملة بهواجس الاصلاحات من الجامعة العربية الى اشاعة الديموقراطية. ما يعني أن مضاعفة فرص الإفادة من التحولات الاقليمية والدولية يشكل تحدياً حقيقياً أمام القمة، اقله أن الغياب القسري في التعاطي والقضايا العربية المحورية، ان كان ظاهرة أملاها انتقال تلك القضايا الى مجلس الأمن بزعامة الولاياتالمتحدة، فإن العجز العربي كان في مقدم اسباب الانتقال المفروض. ومن دون التزام سياسة نقدية بناءة ازاء مصادر وعناوين التهديدات الحقيقية التي تواجه العالم العربي لن يكون وارداً تغيير الواقع العربي قبل تغيير أو تهذيب السياسات المفروضة من الخارج. تختلف قمة الجزائر عن غيرها في كونها الأولى التي تطرح فيها اشكاليات الواقع العربي خارج البنود المعتادة للقمم العربية. والأصل في ذلك ليس تراجع القضايا المحورية ذات الارتباط بالصراع العربي الإسرائيلي وأمن النظام العربي وأنواع التهديدات التي جعلت القوات الأميركية تعسكر في عمق الخريطة العربية فحسب، وإنما هيمنة الدعوات الاصلاحية التي تتدثر باسم الديموقراطية لصوغ استراتيجية جديدة مرتبطة بأهداف معادلة الشرق الأوسط الكبير. ما يعني أن التحدي لم يعد متمثلاً في مخاطر الجوار الاقليمي من اسرائيل الى تركيا ضمن ما يخطط ل"عراق المستقبل"، وإنما تجاوز ذلك نحو طرح اشكاليات الداخل في الدول العربية، الموزعة أساساً بين الانجذاب الى الديموقراطية وبروز المزيد من النزاعات العرقية والطائفية في حدود استخدامها سلباً أو ايجاباً. ولعلها المرة الأولى التي سيكون فيها على قمة عربية أن تعير قدراً أكبر من الاهتمام بالداخل، لكن من غير الفصل بين تداخل السياسات المرتبطة بالأبعاد القومية وامتداداتها الأصلية. وفي حال نجاحها في بلورة مشروع التصويت ديموقراطياً داخل الجامعة العربية في سياق اصلاح نظامها الأساسي، فإن ذلك سيكون مشجعاً لجهة ترسيخ أولى القواعد الديموقراطية في العمل العربي. ثمة تجربة متميزة لبلدان الاتحاد الأوروبي يمكن اعتبارها نموذجاً لتفعيل آليات العمل والتنفيذ، كونها تنبني على منح اللجنة التنفيذية للاتحاد صلاحيات أوسع في بلورة الخيار الوحدوي من تحرير المبادلات الى تعزيز المناعة الاقتصادية، مروراً بمعاهدة ماستريخت وصولاً الى توسيع قاعدة الدول الأعضاء. وربما كان الاساس في هذا التطور أن الاتحاد الأوروبي لم يعد منظومة دولية فقط، وإنما فضاء أكبر لاندماج أوسع ستبقى تجربته أقرب الى الفشل، بخاصة في شقها القائم أصلاً على حيازة ثقة الناخبين الأوروبيين عند اي مبادرة، بينما الشارع العربي يبقى الغائب الأكبر.