هل كان ينبغي ان تندلع الأزمة اللبنانية من جديد حتى نكتشف حال الضعف الديبلوماسي والإعلامي السوري؟ ظهر للعيان ارتباك الأداء السوري منذ بدء التحضيرات لإصدار قرار مجلس الأمن 1559 في ايلول سبتمبر الماضي. إلا انه تجلى على نحو صارخ إزاء جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، وما ترتب عليها من تداعيات. غاب الإعلام والديبلوماسية السورية طوال الفترة الماضية، وحين حضرا على مسرح الأحداث، فإنما على نحو باهت وجامد. حضور افتقد للحجة والقدرة على الإقناع. ولم يرتق الخطاب الى مستوى خطورة الأحداث التي تسارعت، بل تجلى التضارب والتشابه في الوقت نفسه، مما وشى بعدم وجود سياسة رسمية واحدة تجاه قضايا حساسة ومصيرية لا تقتصر فقط على سورية، إنما تتعلق بالمنطقة ككل. لم يكن التعتيم الإعلامي والديبلوماسي على تطورات مهمة دليل رصانة او حكمة، قدر ما كشف عن فقر في الرؤية. فعلى سبيل المثال، كان يتوجب على السلطات السورية ان تقدم روايتها للأسباب التي قادت الى التحول في الموقف الفرنسي تجاهها، من الصداقة الى الجفاء المفاجئ. فالرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي وقف امام المجلس النيابي اللبناني قبل عامين يدافع عن الوجود العسكري السوري في لبنان بقوله:"ان موضوع انسحاب القوات السورية من لبنان ينتظر تحقيق السلام بين سورية وإسرائيل". هو نفسه الذي هندس القرار 1559. ألا يفترض ان تقدم دمشق تفسيرها للتغير الفرنسي وأسبابه ودوافعه وما يترتب عليه؟ ان توجيه الاتهام الى باريس بمحاباة واشنطن، لا يكفي لإعفاء دمشق من المسؤولية، علماً انه لو كان اتيح للطرف السوري محاباة الولاياتالمتحدة على حساب علاقاته الطيبة مع فرنسا, لما توانى عن ذلك. ولعل قرار سورية منح عقد الغاز والنفط الى شركة اميركية، وحرمان الشركة الفرنسية منه، يشكل علامة صارخة في هذا السياق، لا سيما ان الخطوة السورية جاءت إثر صدور قانون"محاسبة سورية"الأميركي، الذي كان يحتم من الناحية الموضوعية دفع دمشق الى توثيق علاقاتها مع فرنسا, بدلاً من قياس المسألة بمقاييس"البزنس"لخطب ود واشنطن. يحتاج هذا الأمر الى شرح من طرف المسؤولين السوريين, الذين يدركون من دون شك ان التفسير المؤامراتي للأحداث لا يصح في هذه الحال. فالمجتمع الدولي الذي يتوحد ضدهم اليوم، هو نفسه الذي انقسم حيال الحرب على العراق. وفرنسا التي تصر على معاقبة دمشق، هي التي تزعمت الجبهة التي عارضت حرب العراق. لذا لا مكان للمؤامرة هذه المرة! ان الهشاشة الإعلامية والديبلوماسية غير نابعة بالضرورة من حجم الضغوطات التي تتعرض لها الدول، قدر ما تكون مرتبطة بالقضية التي يتم الدفاع عنها, ومدى حساسية وكفاية محامي الدفاع. وإلا كيف يمكن تفسير النجاح الإيراني في ما يتعلق بالدفاع عن الملف النووي؟ تبدو المشكلة السورية بنيوية، وقد برز ذلك على نحو جلي في الأزمات والمراحل الانتقالية، على شكل خطوات جزئية ومترددة، وفي صورة ردود افعال مرتبكة وتبسيطية. ومن المشكلات التي يواجهها الإعلام والديبلوماسية، كما هي الحال السورية الراهنة، ان الالتزامات التي تتعهد بها الدولة قد تضعف او تصبح فارغة، بفعل قوة الحجة المضادة، وكثرة المطالب التي يصعب تحقيقها دفعة واحدة، او ايجاد تسوية بخصوصها من خلال الاتفاقات المطروحة، إلا ان مهمة الديبلوماسية والإعلام في هذه الوضعية هي تحسين الشروط وتخفيف حجم الخسائر على الأقل. ومما يدعو الى الأسف، فقد ظهر خلال مجريات الأزمة ان هناك حال ضعف مستشرية، باتت شاملة وبنيوية. فلم يظهر ان الإعلام والديبلوماسية يعيشان بعقلية المرحلة، بل بأفكار وسلوكيات زمن آخر. وعلى ما يبدو ان القائمين على الأمور لم يدركوا بعد ان الهامش ضاق كثيراً امام سورية وقلّت قدرتها على المناورة. والملحوظ هنا هو ان النخب المحيطة بالنظام غير قادرة على التعاطي مع التطورات، وهي كشفت عن ضحالة ثقافتها السياسية المؤهلة لمخاطبة الرأي العام الداخلي والخارجي. وتلخص التهافت في عدم القدرة على الكسب في صفوف الخصوم، وإجادة فن تحويل الأصدقاء إلى اعداء. بقيت سورية صامتة، ولم يصدر عنها أي رد فعلي رسمي حتى صدر البيان الذي نسب الى"مصدر مسؤول"، وتلاه نائب وزير الخارجية وليد المعلم. وحاولت ان تزج بأنصارها في لبنان الى الخط الأول، لكن هؤلاء تعثروا في الدفاع. يعكس البيان المذكور على نحو مثالي دواخل العقلية التي تدير الموقف، ويؤشر الى عدم القدرة على رؤية ملامح الطريق. فالبيان الذي جاء بعد صمت طويل لكي يوضح للرأي العام حقيقة موقف دمشق، وقع في مطبات اضطرت اصحابه للاعتذار عنها في بيان لاحق, جاء لكي يهدئ من التوتر ويمتص جزءاً من حال الغضب ضد سورية، لكنه لجأ الى لغة التحذير والتهديد. وأراد من خلال التشكيك بقدرات الجيش اللبناني وقوى الأمن ان ينتزع لسورية حق البقاء الدائم في هذا البلد، من دون ان يخطر على البال ان نحو ثلاثة عقود امضتها الأجهزة السورية في لبنان كانت كافية لتأهيل اللبنانيين لإدارة شؤونهم بأنفسهم! وعلى العموم ثبت تهافت هذه الفرضية من خلال قدرة الأجهزة اللبنانية، من جيش وأمن على ضبط الموقف منذ جريمة اغتيال الحريري حتى سقوط حكومة كرامي، من دون حصول حادث يذكر. ان جانباً من حال الضعف والتخبط يعود الى ابعاد النخب السورية المؤهلة عن دائرة القرار. فالتغير الذي طرأ على المجتمع والأجيال خلال العقود الثلاثة الأخيرة، نتج عنه ان النظام ابتلع الدولة، وصار موظفو النظام يسعون فقط من اجل مواقع لهم في السلطة والإفادة منها، وأصبحت مصلحة النظام والمستفيدين قبل مصلحة البلد. كاتب وصحافي سوري مقيم في فرنسا.