احتلت قضية الديموقراطية مكاناً مركزياً في خطاب الولاياتالمتحدة تجاه العالم العربي منذ تسعينات القرن الماضي، واعتبرت ان مساعدة الشعوب العربية على تحقيقها واحدة من مهمات تدخلها الرئيسي في المنطقة. ولا يخلو خطاب مسؤول اميركي من الدعوة الى"استيراد"الديموقراطية من جانب هذه الدولة او تلك. يثير الخطاب الاميركي، في النظرية والتطبيق، حملة أسئلة منها: هل يمكن فرض الديموقراطية من الخارج؟ وهل يشكل التدخل العسكري وسيلة مفيدة لتحققها؟ وأي هواجس يثيرها الطرح الاميركي؟ وهل مارست الولاياتالمتحدة فعلاً سياسة ديموقراطية في أماكن وجودها في المنطقة العربية؟ تجتاح المنطقة العربية بالتأكيد الى الديموقراطية، وتتوق الى انظمة تحقق لها الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وترغب في سيادة الوسائل السلمية في تسوية الصراعات والخلافات الداخلية، وتطمح الى تكوّن احزاب سياسية تتمتع بحرية العمل والقول، والى سيادة حرية الرأي والعقيدة، وتود لو ان الثروات العربية موظفة في تحسين الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الأمية. هذه حاجات قليلة من كثير مطلوب، فأين تقع الدعوة الاميركية من هذه القضايا؟ تركز الدعوة الاميركية على الانتخابات بصفتها عنواناً اساسياً للدخول الى الديموقراطية، ولا تولي اهمية في هذا المجال للقانون الذي ينظم هذه الانتخابات ومدى عدالته وتمثيله، او الى الاوضاع الداخلية للبلد وطبيعة القوى الموجودة فيه والنتائج المحتملة لهذه العملية. وعلى رغم ان اجراء انتخابات برلمانية وتجديد القوى السياسية يشكل احد البنود الاساسية في المسار الديموقراطي، والا انه يظل شكلياً في غياب عوامل تحتاج الديموقراطية الى توافرها لكي تعمل في شكل صحيح. وتدعو الادارة الاميركية الانظمة العربية لالتزام الديموقراطية، وهي تخاطب بذلك انظمة جعلت من الغاء الحياة السياسية والحريات والاحزاب وممارسة القمع، احدى مهماتها الاساسية. والسؤال: هل يمكن تحقيق الديموقراطية من دون وجود قوى ديموقراطية، وهل يعقل ان تتحول انظمة استبدادية انظمة ديموقراطية؟ يثير الخطاب الاميركي الكثير من الاسئلة النظرية تبدو الاجابة عنها معقدة. اذ تقترض الديموقراطية توافر قوى وأحزاب تحمل هم التغيير الديموقراطي بالوسائل السلمية. كما تفترض تكوّن ثقافة سياسية عقلانية تعترف بالآخر وبحرية الرأي، وبدرجة من التطور الاقتصادي والاجتماعي، وحداً من التجانس الاجتماعي في اطار مجتمعات مدنية متكوّنة. وتتجاهل الدعوة الاميركية المعضلات البنيوية العربية وطبيعة تكوّن مجتمعاتها الداخلية وهشاشة الوحدات المحققة في كل قطر من الاقطار، وغياب المقومات الاولية التي تسمح لبنية الديموقراطية ان تنمو في هذا العالم العربي المتعدد المتنوع. ويعتمد الخطاب الاميركي مقولة ترى انه اذا كان من الصعب تحقيق الديموقراطية في العالم العربي عبر العوامل الداخلية المستندة الى الحراك السياسي والاجتماعي في كل بلد، فإن البديل يكون عبر فرضها من الخارج، حتى لو احتاج الامر الى التدخل العسكري المباشر كما هو جارٍ في العراق. لكن هذه المقولة تتجاهل استمالة ان تشكل الهيمنة وسيلة استنهاض ديموقراطي، وانها تؤدي الى المزيد من الانقسامات والى تغليب فئة من الشعب على اخرى، والى استخدام العنف ضد القوى المعارضة او الرافضة للاحتلال. كما يتناقض الاحتلال الخارجي في الاصل مع الديموقراطية المشددة بطبيعتها على الاستقلال والسيادة وحق تقرير المصير وحرية الشعوب في خياراتها السياسية والفكرية. وفي الانتقال الى رؤية مفاعيل الخطاب الاميركي"الديموقراطي"تجاه العالم العربي بايجابياته وسلبياته، يمكن تسجيل ملاحظات عدة: شكل هذا الخطاب في مرحلة من مراحل تصاعده اغراء لقوى سياسية واسعة في العالم العربي رأت في المشروع الاميركي وسيلة خلاص من انظمة الاستبداد السياسي وأفقاً مفتوحاً لأنظمة ديموقراطية. ولم تميز هذه القوى كثيراً بين الاهداف السياسية والعسكرية والاقتصادية للسياسة الاميركية تجاه المنطقة، وبين الشعارات الديموقراطية وحقوق الانسان بصفتها غطاء نظرياً لهذه الاهداف. وكانت هذه القوى، تحت وطأة اليأس والانهاك، قد وصلت الى قناعة باستحالة تغيير هذه الانظمة عبر قوى المجتمع الداخلي نفسه، لذلك كان الاستنجاد بالخارج وسيلة لا بد منها لكسر بنية الانظمة. لكن المشهد الراهن للسياسة الاميركية تجاه المنطقة العربية يعطي لوحة سوداء لا تصب في مصلحة الديموقراطية لا حاضراً ولا مستقبلاً. فالمجتمعات العربية تحمل موروثات واسعة عن الغرب وثقافته وأهدافه تقسم غالبيتها بالسلبية. فهذا الغرب، وفق هذه الموروثات، يريد احتلال المنطقة ونهب مواردها وفرض ثقافته وحضارته وطمس الحضارة العربية والاسلامية، ويستخدم ثقافته وعلومه اداة استعمارية للسيطرة على العقول العربية وحرفها عن دينها، فيما تشكل الديموقراطية نبتة غربية استعمارية يهدف الغرب الى تشريع السيطرة الاستعمارية واعطائها مظهراً حضارياً. ولا يمكن احداً ان ينكر اليوم انبعاث هذه الموروثات مجدداً واتخاذها وجهة اشد توتراً عنه في سنوات سابقة، مما يعني ان الديموقراطية الآتية في ركاب الدبابات الاميركية تثير من الارتياب والشك ما يجعل النظر اليها اكثر تعقيداً. وفي المقابل، لا يستطيع أي مراقب لمجريات الاحداث في الساحة العربية ان يعزل اعمال العنف والارهاب المتصاعدة عن نتائج هذه الهجمة الاميركية على المنطقة. اذ لا يقتصر الارهاب اليوم على الاعمال العنفية المسلحة والعبثية في كثير من الاحيان، لكنه يتغذى من مقولات فكرية ودينية وسياسية يشكل العداء للديموقراطية محوراً من طروحاتها. اثرت السياسة الاميركية في مفهوم الديموقراطية سلباً، ما ادى الى خلط قوى كثيرة بين الديموقراطية وحقوق الانسان وبين هذه السياسة، بحيث تحول الاعتراض على الاميركيين رفضاً لهاتين المقولتين. والثقافة العربية تحتاج الى جلاء هذا الخلط. كاتب لبناني.