بصرف النظر عن تقدير نقد ومعاندة الأكثرية في البرلمان اللبناني وموقفها المؤكد على مرجعية الدولة في مسار العبور إليها، إلا أن منطق القوة هو الذي يقرر وجهة السياسات في لبنان بعيداً من الدستور، وتجاوزاً لاتفاق «الطائف» بعد تعطيله طيلة الوصاية السورية على البلد التي منعت أي دور للجيش اللبناني بدعم من المقاومة، تسليحاً عدة وعديداً وإعداداً وانتشاراً على الحدود مع العدو الإسرائيلي، مستفيداً من انسياق الجنرال عون وتياره وتنفيذ كل ما يطلبه منه الحزب. استفاد العديد من القوى التي شاركت، وهي مسؤولة، في الحرب الأهلية، وبعضها في التعامل مع إسرائيل، من كل التجربة الماضية، فقد عانى لبنان من كل التدخلات العربية والأجنبية. وانتهت باتفاق «الطائف» برعاية سورية وبرضا أميركي، الذي لم ينفذ منه إلا وقف الحرب بعد تعب كل الأفرقاء، وخصوصاً مع التحاق أكثر الجيوش العربية بالجيش الأميركي ضد الجيش العراقي الذي احتل الكويت، لأنه أضحى أقل من متطلباتها. ولهذا حاولت إنشاء نظام أمني لبناني تابع لها، وقامت بضبط كل الانتخابات والسياسات الخارجية والداخلية وحتى الوظيفية، وهي اليوم في مقلب آخر كطرف لا ينفي دوره في إعادة تدوير السياسة اللبنانية ودوام ظله عبر القوى الملتحقة به وكذلك بعد انكشاف الاحتلال الإسرائيلي، ووعي القوى التي راهنت عليه بانتهائه كخيار، عبر مقتل بشير الجميل وانتخاب شقيقه أمين بموافقة عربية وعلى إثر إسقاط اتفاق 17 أيار (مايو) الذي لم يوقعه الرئيس أمين الجميل، وأيضاً بعد انسحاب إسرائيل سنة 2000 من الشريط الحدودي. وترك جماعة أنطوان لحد إلى مصيرها. كل ذلك أسقط الخيار الإسرائيلي نهائياً. وعند خروج جعجع من السجن تحت ضغط تسارع الأحداث تبعاً للقرار 1559، وكان قد دخله نتيجة معارضته السياسة السورية، برزت عقلانيته من خلال التمسك بمشروع الدولة ومؤسساتها بالإصرار على دعم الجيش كقوة عسكرية وحيدة تحمي الوطن على رغم ضعفه كمثيل لكل الجيوش العربية التي هزمت في حروبها، وهي اليوم تحفظ بلادها بالقانون الدولي على رغم وجود أراضي بعضها محتلة، أي أنه رفض مبدأ العودة إلى السلاح ولا يشتهي امتلاكه على سهولة حيازته، مما يعني أن العلاقة الوطنية مأزومة ومشدودة إلى مشروعين متناقضين، الأول يريد الدولة والمؤسسات وحصر قرار السلم والحرب بيدها، ولا وجود لسلاح خارج الجيش الوطني (أي انضمام المقاومة واستيعابها، إلى وفي الجيش) والدولة هي الأساس لحل المشاكل وأهمها الأزمة الوطنية، والثاني يريد إبقاء لبنان مفتوحاً ومباحاً على كونه ساحة لحل مشكلات تكتيكية إقليمية ودعم حوار كل من إيران مع أميركا والمجتمع الدولي وسورية مع أميركا وإسرائيل وهي قد ناشدت تركيا لحل مشكلاتها مع إسرائيل من أجل العودة إلى المفاوضات غير المباشرة معها، وإبقاء السلاح طالما «الخطر» قائم بوجود العدو (إسرائيل وأميركا) ورفعه عن طاولة الحوار لأنه ليس للنقاش. وعلى رغم تأكيد الكاتبين في صحيفة «الحياة» (حازم صاغية وحسام عيتاني) على أن التسويتين باهتتان، بل عاجزتان عن منع بقاء لبنان الساحة ووقف استعمالها من قبل المقاومة إقليمياً، مما يسقط «الوسطية» وحتى الأهلية التي لم تستطع الصمود على رغم استمرار الوجود بحكم الطبيعة المتعددة والظروف المحيطة. ولم يؤد انسحاب الجيش السوري من لبنان إلى فقدان سورية التحكم به. فقرار حزب الله خارجي، واهتماماته الداخلية تخدم هذه الوجهة. فقد استطاعت سورية أن تزرع الجغرافية اللبنانية بأتباعها أمنياً وسياسياً وهي التي قامت بشق حزب الكتائب وحتى القوات اللبنانية وحاصرت الحريري وقيدت دوره وحدّت منه إلى المستويات الدنيا ووضعت يدها على الطائفة الشيعية بعد اختفاء الصدر واستقالة الحسيني، وشاركت في خلق حزب الله كمقاومة منضبطة وسرية لا تستطيع حركة أمل القيام بدورها بسبب من شعبوية وفوضوية قواعدها وبحكم تأسيسها على نهائية الكيان اللبناني، حتى الطائفة الدرزية كأقلية لا تستطيع أن تغير في المعادلات ولو أنها تسرّع أو تعوق قيامها. إن الوضع اللبناني مكشوف بالكامل على السياسة السورية وحزب الله تجاوب معها بعد «موافقة» إيران على المخارج التي لا تغير أسس سياسته الملتحقة بولاية الفقيه (الديني لا ينفصل عن السياسي والإسلام دين ودولة) خصوصاً بتأكيده أن السلاح حقيقة إقليمية لا يمكن تغييرها داخلياً!. هل يستطيع حزب الله إذا ما حصل على المثالثة وعلى حق التوقيع إلى جانب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء على القرارات المفصلية (مراسيم تشكيل الحكومة وقبول استقالتها وإقرار الموازنات والمراسيم المتعلقة بالدعوة إلى الانتخابات وتشكيلة المجلس النيابي) أن يتخلى عن السلاح من دون انتظار تبلور الملفات الإقليمية؟ التي يسير الحوار فيها بشكل بطيء ومتردد، ولن نقدر على تحريره من المزاعم الإيديولوجية ولا من التبعية الإقليمية خصوصاً إذا كان الخارج المؤثر والمقرر يعاني من مشكلات داخلية بنيوية تجعله يتمسك أكثر بأوراقه «الرابحة» واستعمالها حين تدعو الحاجة. فحجة أن الشيعة في خطر، لم تظهر حتى في حنايا الوضع السابق الذي قادته المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ضد أحزاب المارونية السياسية وضد إسرائيل بصرف النظر عن الغبن اللاحق بالشيعة لأسباب متعددة لا مجال لذكرها هنا(؟) فقد سقط الخوف المسيحي مع الجنرال عون الذي ضحى بهم وحولهم إلى ملحقات رديفة شكلت غطاء للسلاح وذهب الغبن الشيعي مع الشهابية، ودمرت بيروت والجنوب ومناطق أخرى من لبنان تبعاً لحروبه المتلاحقة، ولا يوجد مشروع يهدد الشيعة وقد شاركوا كقوى في كل الأحداث التي حصر قرارها بيد الصراعات العربية والحروب الإسرائيلية والعلاقات الخارجية، ولا تزال السياسة تخضع لإحداثيات «الدولة»، وفي غيابها - ضعفها لقوة حزب الله وتيار الممانعة. إن «حزب الله» لا يبحث عن الضمانات خارج الدولة لأنه فريق ينتمي إيديولوجياً إلى إيران، والدولة في ثقافته حالة طارئة لا بد من تجاوزها أو قسرها على فعل ما يريد وارتباطه الديني مذهبي وينتمي إلى ولاية الفقيه التي ما زال التنازع حول مرجعيتها للشيعة قائماً في الداخل. فالمطلوب طغيان لبنانيته على إقليميته وتحديداً الإيرانية والحوار معه حول دور طهران إن كان لجهة السلاح النووي أو الثقل النوعي الإقليمي الذي لم تستطع إسرائيل القيام به، والخوف من التحالف الموضوعي من أجل تناتش هذه المنطقة الغنية الأمر الذي يفيد الكيان الإسرائيلي ويسمح له بابتلاع فلسطين وتحويل ما تبقى من شعبها إلى مجموعات تقطن مستوطنات خاضعة له على أرض فلسطين التاريخية. أدعى أن نبدأ بتشحيل كل التقولات الديماغوجية بنوع من «المانوية» القسرية للدخول في اكتشاف وبناء مساحات مشتركة بين كل الأطياف عمادها الإقرار بأن قوة الدولة لا تتظهر إلا باستثمار المقاومة في بنيتها لتشكل قيمة مضافة لكلا الطرفين الجيش والمقاومة كي تصبح بكل تجربتها إحدى ألويته المتقدمة باعتمادها على الدستور وتجاوز القراءات الاستنسابية إلى التمسك بالديموقراطية كقاعدة للمواطنة ومدخل للمساواة والعدالة والتنمية المتوازنة البشرية نحو الاقتصادية والتوقف عن أخذ لبنان مرغماً إلى الحروب وتحميله أكبر من طاقته للبدء بحل مشكلاته لتأتي التسوية بين اللبنانيين تحصيل حاصل تتجاوز المثالثة إلى انتخاب رئيس ليحكم البلد بموجب الدستور لخدمة الجميع (رئيس الهند كان من الأقلية) وتصبح الكفاءة عنوان الوصول إلى المسؤولية خصوصاً في المناصب الأولى. وبهذا لا نحتاج إلى المثالثة والتداولية على أرضية الطوائف بوجود الديموقراطية الحافظة لحقوق جميع المواطنين في البلد السيد المستقل وحرياته التامة. ولن يتحقق ما نقول على رغم أمنياتنا في حصول المأمول إلا إذا تبلورت الملفات الإقليمية للصراع العربي الصهيوني وحل قضية فلسطين بموجب المبادرة العربية، والحوار مع إيران والتعايش مع حقها في الحصول على التخصيب النووي للأغراض السلمية واستكمال الحوار مع سورية على ضوء اتفاق الطائف والتعامل الندي. * كاتب لبناني.