في مقدمة كتاب"الخطط"، ذكر المقريزي أن الجزء السابع منه سيناقش أسباب خراب إقليم مصر. غير أن هذا الجزء لا وجود له ألبتة في الكتاب بين أيدينا، ما يوحي بأن المقريزي لم يكتبه أصلاً. وسأحاول في مقالي هذا أن أمسّ مسّا خفيفا بعض ما أحسبه من هذه الأسباب، ذكرنا بعضها في الحلقة الأولى ونكملها في ما يلي: أكثر من ثلث قرن من الانفتاح الداعر على الغرب، والتهديد للقيم الإسلامية والتقاليد العربية، وكل خيط ولو رفيع في نسيج الأمة، وانفتاح اقتصادي كان معظم من أفاد منه ممن لا أخلاق له ولا مبدأ. وتضخم رهيب ضاعت معه طبقة الموظفين والبورجوازية الصغيرة، وسلع في متناول القلة، ودون تملك غيرها لها أهوال وفساد في الخلق وبيع أعراض. وشهادات دراسية صرنا نرى الآباء ينصحون أبناءهم بالغش من أجل الحصول عليها. وشرفاء يعيرهم الناس، بل وابناءهم وأزواجهم، إذ كان شرفهم عائقاً دون تكوينهم الثروات. وعمارات سكنية تُبنى من تراب. ومواد غذائية تستورد فاسدة. ومهنيون بسطاء يكتسبون أضعاف أضعاف ما يأتي المثقفين من دخل، حتى داخل أصحاب العلم وذوي الثقافة الرفيعة الشك في قيمة ما حصلوه. وتجار مخدرات لهم الهيمنة والنفوذ والسلطة، تقف سياراتهم ومستخدموهم قرب النوادي الرياضية والمدارس لبيع سمومهم للشباب والطلبة. فقد شبابنا الثقة، ثقته بنا وبأنظمتنا وقيمنا وأخلاقياتنا. وراح وملؤه المرارة والغضب، والشك والسخرية، يشق لنفسه طرقاً أخرى: الهجرة لفتح المطاعم لبيع البيتزا والهمبورجر، الحصول على توكيل لاستيراد سلعة، الخدمة في فنادق الشيراتون والهيلتون، الاتجار في العملات الصعبة، بيع العرض، أو البحث عن السلوى في المخدرات.. شباب خيَّرهم مجتمعهم صراحة بين الانحراف والاندثار. أثناء زيارة جورج برنارد شو في العشرينات إلى مصر سأله أحد صحافييها: متى تتوقع أن تصبح دولتنا دولة متمدنة؟ أجابه شو بقوله: حين تتعلمون البصق في مناديلكم. في مجتمع كمجتمعنا لا يعرف الأفراد الحوار، وإنما يعرفون التصريح والتشدق بالمعتقدات، وهم لا يعرفون الإنصات، أو الشك أو التروي، أو تبادل الأفكار، فعقائد زماننا تخلق لدى معتنقيها ثقة في النفس غير معهودة. في حين كان الناس في الماضي ينشدون المعرفة قبل تكوين الرأي، وغالبا ما يشجع الجو السائد من التحمس الزائد الأغبياء على تأكيد ذواتهم في ثقة. فإذا النقاش حل مكانه العناد والإصرار، وإذا التساؤل حل مكانه الجزم، وإذا المسائل التي ظلت خيرة العقول في تاريخ البشرية حائرة في أمرها كالغرض من الوجود، وطبيعة المعرفة، والسلوك الأمثل في الحياة، يجيب عنها كل من هب ودب، في ثقة دوغماطيقية، ونفاد صبر واستعلاء، وكلها صفات لصيقة بالجاهلين في التاريخ، ومن سمات غير الملمين بمناهج الفكر. طبقة من العائلات البورجوازية التي كونت ثرواتها من عملها في دول النفط، رجال كثيرون يرتدون الجلابيب البيضاء، والغالبية العظمى من النساء ترتدي الحجاب أو النقاب، وينزلن البحر في المصايف بكامل ملابسهن، بل بالنظارات الشمسية والقفافيز أحياناً، أو لا ينزلنه على الإطلاق. أما نساء الماضي من لا يرين بأسا في نزول البحر بملابسه، فتلاحقهن نظرات الاستنكار، ويسمعن من التعليقات أو من السباب ما يكرهن. وبالنظر إلى أن هؤلاء لم تتح لهم الفرصة أبداً للاتصال بالطبقة العليا أو الاندماج معها، ولا للتحرك في الأوساط الراقية، كان من الطبيعي أن يتسم سلوكهم بقدر من الغلظة والفجاجة، وقدر أكبر من الخيلاء المألوفة من حديثي النعمة، هذا إلى أنهم بعد أن أفلحوا في تكوين ثروات لم يكن لهم ولا لآبائهم وأجدادهم بها عهد، وحققوا أملهم في الحياة، وصار في وسعهم للمرة الأولى في حياتهم أن ينظروا إلى المستقبل نظرة آمنة مطمئنة، وأن يأكلوا ويلبسوا ويطعموا أولادهم ويلبسوهم ما كانوا محرومين منه في مستهل حياتهم، وما كان لعابهم يسيل له إن رأوه في أيدي غيرهم وعلى أبدانهم. عادوا مصممين على قطع صلتهم نهائياً بماضيهم التعس، وعلى ألا يعودوا في بلادهم إلى مركزهم الاجتماعي التافه القديم، وألا يقبلوا أن تنظر إليهم الطبقات الأعلى نظرة استعلاء واستخفاف. غدا المال ينساب انسيابا من أيديهم، غير أن افتقارهم إلى أصالة المحتد، وإلى ما يؤهلهم لمخالطة أفراد الطبقة العليا جعلهم يميلون إلى أن يظهروا للملأ، وبأسلوب سافر فج الميزة الوحيدة التي يتمتعون بها، وهي المال. غير أن كراهيتهم للطبقة العليا ستظل قائمة ما داموا لا يتمتعون في الحياة الاجتماعية بمكانة تتناسب مع قدر ثرواتهم. وفي الجهة المقابلة، نجد أفراد الطبقة العليا والأنتيلجنسيا والفنانين لا يمقتون أحدا قدر ما يمقتون أفراد تلك الطبقة، خصوصا وهم يرون أعدادهم تتزايد، وتأثيرهم في أذواق السلع والملابس وبرامج التلفزيون وأفلام السينما والمسرحيات ينمو يوما بعد يوم، بحيث لا يكاد الأولون يجدون مكاناً لهم يعصمهم من هذا المد، ويجدون المساحة التي بوسعهم أن يعيشوا فيها بمنأى عن هؤلاء القوم، بعاداتهم وقيمهم وسلوكهم، في تقلص سريع مستمر. أما الآخرون فمع كل ما باتوا يملكونه من المساكن بما فيها من تحف خزفية، وسجاجيد عجمية أو صينية، وأجهزة إلكترونية، ونجفات من الكريستال، ظلوا مفتقرين إلى كل مسحة من الذوق الرفيع، وإلى آداب الحديث والمعاملة، لا يعجبهم من الغناء إلا السوقي ومن الموسيقى إلا الحوشي، ومن الأفلام غير المضحك في إسفاف، ومن الصور الزيتية والتماثيل غير الذي لا يطيق ذو الذوق الرفيع أن يقع عليه بصره ولو لثانية واحدة. ثم زادت الأحقاد حين رأت الأرستقراطية بناتها يتزوجن من أولادهم، واصطدمت أعين المثقفين والفنانين بالألوان البنفسجية والبمبية الفاقعة للعمارات التي يبنونها من مدخراتهم، وحرمتهم قزقزتهم للب من الدخول إلى دور السينما والمسارح. ورأى الفنانون أعمالهم تستبعد استبعاداً لأنها لا توافق ذوق الطبقة القادرة على الدفع والشراء. واضطر مدرسو البيانو إلى إعطاء الدروس في العزف عليه لأبناء من لا أدنى صلة له بالموسيقى أو بأي فن آخر. كانت المسرحيات والأفلام عندنا في الماضي تسخر من مثل هذه الشخصيات، أما اليوم فإن هذه الشخصيات هي التي ترتاد المسارح ودور السينما وتتفرج على التلفزيون، فلم يعد ثمة من يجرؤ على عرض ما يسيء إلى مشاعرهم فيها. كتب الطبيب الأديب أبو الصلت أُمية بن عبد العزيز الأندلسي 1077-1134م في إحدى رسائله يقول:"لم ألبث أن تبينتُ بعد إقامة في مصر أني فيها مبخوس البضاعة، مخصوص بالإهانة والإضاعة. وان عيشها الرغد، مقصور على الوغد. أما سكانها، فالغالب على أخلاقهم اتباع الشهوات، والانهماك في الملذات، والاشتغال بالترهات، والتصديق بالمحلات، وضعف العزمات. اندثر عندهم في زماننا هذا كل علم، وانمحي رسمه، وجهل اسمه، ولم يبق إلا رعاع وغثاء، وجهلة دهماء، وعامة عمياء، وجلهم أهل رعونة، ولهم خبرة بالكيد والمكر، لما في أخلاقهم من الملق والسياسة التي أربوا فيها على كل من تقدم وتأخر، حتى صار أمرهم في ذلك مشهوراً، والمثل بهم مضروباً، كانوا وإياي كما قال الشاعر: قوم إذا جالستهم صدئت بقربهم العقول لا يُفهموني قوله ويدق عنهم ما أقول عمل الروائي الإنكليزي الشهير أنطوني ترولوب منذ شبابه الأول، وحتى بلغ سن التقاعد، موظفاً في هيئة البريد البريطانية. وفي العام 1858، وبناء على طلب من والي مصر سعيد باشا، كلفته حكومته التوجه إلى مصر لتنظيم أحوال البريد فيها. وبعدما وضع خطة مُحكمة في هذا الصدد، وقابل نوبار بك المسؤول في ذلك الحين عن المواصلات والبريد، كي يقدم له تقريراً مفصلاً عما أنجزه. قال له: - أتوقع الآن، ووفق هذه التنظيمات الجديدة، أن يصل أي بريد يُرسل من أسوان مثلا إلى الإسكندرية في ظرف أربع وعشرين ساعة على أكثر تقدير. أجاب نوبار: لنقل ثمان وأربعون ساعة. - بل أربع وعشرون ساعة. - رجاء أن تراعي أن سرعة القطارات المصرية أبطأ من سرعة القطارات عندكم. - سرعتها هنا كسرعتها عندنا، ونحن الذين أدخلنا السكك الحديد إلى بلادكم. وافق نوبار في النهاية، ثم مر على هذا اللقاء مدة تقرب من قرن ونصف القرن، تتحرر الإرادة المصرية خلالها من النفوذ الأجنبي المقيت، وتستعيد مصر ولله الحمد حريتها الكاملة في العودة إلى تقاليدها وقيمها فإذا بالرسائل الآن ترسل من حي في الإسكندرية مثلا إلى حي آخر في المدينة نفسها، فيستغرق وصولها أكثر من عشرين يوماً، إن حدث ووصلت. هذا المفهوم المصري الأصيل عن مهمة مصلحة البريد المنافي للمفهوم الأجنبي المستورد، عبرت لي عنه أخيراً إحدى الموظفات المحجبات في مكتب للبريد في حي مصر الجديدة القاهري. توجهت إلى المكتب لأبعث برسالة مسجلة، ولاحظت تأففي من انتظارها عند الشباك ريثما تنتهي من التهام الساندويتش في يدها، ومن دردشتها مع زميلتها، فصاحت بي:"مالك متعفرت كده؟ الله! هي الدنيا حاتطير؟! ولا يعني الدنيا حاتطير". فكرة طرأت في أذهان أصحاب الشركات لبيع السيارات، وهي بيع أجهزة إنذار تحويها سياراتهم، تنطلق صارخة مولولة لمدة طويلة متى حاول امرؤ سرقتها، فتنبه أصحابها في مساكنهم أو مكاتبهم، إلى ضرورة اللحاق باللص قبل أن ينال غرضه، أو تخيف اللص فيهرع هاربا من المكان. غير أن الأمر تمخض عن غير ما كانوا يتوقعون. كان المفترض ألا ينطلق الجهاز بالعويل إلا إذا حاول اللص فتح الباب عنوة، أو بمفتاح غير مفتاحه الأصلي، فإذا هو يولول كلما استند إلى السيارة إنسان، أو لمستها يد صبي مر بها، أو قفزت إلى سطحها قطة، أو تسلل تحتها كلب، وكلما سقطت عليها ثمرة من ثمار المانجو أو الجوافة أو حتى لمجرد سير المارة بجوارها من دون ملامسة. والأمر قبيح لأكثر من سبب غير التلوث السمعي، والتوتر العصبي، والضعف التدريجي في حاسة السمع عند سكان المدن، فالغريب حقا أن أصحاب تلك السيارات المجهزة بأجهزة الإنذار باتوا ملمين جيدا بالأسباب العديدة لانطلاقها، فلم يعودوا يأبهون لعويلها أو ينزلون إلى الطريق لإيقافها، أو حتى ينظرون من النافذة لاستطلاع الخبر. فكأنما الشأن إذن شأن نباح كلب في الطريق. وهم مع ذلك يحتفظون بالجهاز، ربما لمجرد التفاخر باقتنائه، أو لأنهم دفعوا مالاً فيه. غير أن القبيح حقا هو أن هذا الصراخ المستمر من عشرات السيارات في الطريق نفسها، يوحي بأننا أمة من اللصوص، وأن كل دقيقة من نهارنا ومن ليلنا تشهد محاولة لسرقة سيارة، ففي كل شارع من شوارع المدينة أجهزة تصرخ من دون انقطاع: حاسب حرامي! حاسب حرامي! حاسب حرامي!. في مثل هذا الجو العام لا يمكن إلا أن يزداد إحساسنا بعداء الوسط الذي نعيش فيه لنا، بأن ما من أحد حولنا يضمر لنا الخير، بأن قانون الغابة هو الذي بات يحكم حياتنا. ظاهرة كهذه، أو ظاهرة إلقاء صاحب السيارة لقشر برتقالة أكلها من نافذة سيارته، أو ظاهرة استخدام أبواق السيارات في أي ساعة من الليل أو النهار حتى يُطل القاطن في الدور العاشر من عمارة على قائد السيارة، من دون أدني مراعاة لمشاعر خلق الله من نائم أو مريض أو طالب يذاكر أو قارئ يقرأ، دليل على موقعنا في السلم الحضاري. دخل رجل على زياد بن أبيه فقال:"مات أبانا، وجاء أخينا فنهب أموال أبونا". فقال زياد:"يا هذا، إن مصيبتك في لغتك أعظم من مصيبتك في مال أبيك". وباستطاعتنا نحن أيضًا أن نرد على من يحدثنا عما نعانيه بصدد هذه القضية أو تلك مما يُسمى بقضايا مصر الحيوية، فنقول:"يا هذا! إن مُصيبتنا في الافتقار إلى الإحساس بمشاعر الغير أعظم من أي بلية قد تتحدث عنها، هي البليّة التي حولت بلدنا إلى أرض خراب". كاتب مصري.