أدّى انتشار التعليم، واتساع وقت الفراغ، وارتفاع مستوى المعيشة في القرن العشرين، الى نموّ الاستعداد لدى أفراد الطبقات الدُّنيا لتعريض أنفسهم للفن، ونمو حاجتهم إلى ما يسمى بالفن الشعبي. وبنمو الحاجة أو الطلب كما هو معروف يؤدي دائماً إلى زيادة العرض. و هو ما يتمثل، في هذا الصدد، في تضخم عدد "الفنانين" السطحيين من متوسطي الموهبة والكفاءة، يتزاحمون من أجل إشباع تلك الحاجة عند الجماهير العريضة، وكذا تضخم ما يعرضونه من فنون "شعبية". وأعني بالشعبية هنا أنها تُنتج للشعب، لا أن الشعب هو منتجها. مثال ذلك ما يقدّمه التلفزيون من مسلسلات تمثيلية هابطة وما تقدمه المسارح والصناعة السينمائية من عروض ضحلة، وما يُطبع ويروج من روايات وقصص فجة، وما يذاع من موسيقى وأغانٍ يقشعر لسماعها بدن كل ذي حاسة فنية مرهفة. ذلك أن عدد الفنانين من ذوي الكفاءات والمواهب الحقيقية الرفيعة كان دائماً، وسيظل دائماً، صغيراً محدوداً، ولم يعد في زمننا هذا كافياً لسدّ تلك الحاجة شبه المفاجئة لدى الجماهير الغفيرة الى الفن. وهي حقيقة أفسحت الطريق وفتحت الباب على مصراعيه أمام طائفة عريضة من أدعياء الفن. وكان لهذا الوضع الجديد أثره العميق والمدّمر في الوقت نفسه في فن أصحاب المواهب الحقيقية. فقد انتباهم الفزع إزاء ما يجري، وإزاء الطابع السوقيّ الجديد للفنون "الشعبية". وإذ أن الغالب على هذه الفنون هو الاتجاه الواقعي، فقد انصرف معظم الفنانين الموهوبين عند انتهاج مذهب الواقعية في انتاجهم، لا الواقعية الظاهرية فحسب، بل والباطنية أيضاً، وابتعدوا أو كادوا عن كل ما يشكّل الحقائق الجوهرية المميزة للطبيعة البشرية، حتى يبدو فنهم على غير شاكلة الفن "الشعبي". فإذا بمعظم ما بات هؤلاء يخرجون به من فنون - نتيجة لفزعهم من ذيوع وغلبة فن غيرهم - لا يكاد يتصل من قريب أو بعيد بحقائق الوجود البشري الثابتة. ولكن يبرر الفنانون هذا المنحنى الجديد في فنهم، زعموا لنا - وهو زعم ليس باطلاً فحسب، بل ومضحك، ان الطبيعة البشرية شهدت منذ نشوب الحرب العالمية الأولى في 4 آب اغسطس 1914 تغيراً جذرياً، وأن أناس زماننا يختلفون اختلافاً عظيماً عن أناس العصور السابقة لتلك الحرب، فهم بالتالي في حاجة إلى فنون من نوع جديد، تسد حاجات مغايرة، وتتجاوب مع تطلعات لم تُعرف من قبل، وتعبر عن نفسها بلغة غير مألوفة. كل هذا كان - كما قلت - نتيجة حال من الجزغ الشديد إزاء سوقية الفنون الشعبية الرائجة. فإن كانت تلك الفنون تتناول مواضيع تمس الطبيعة البشرية والعلاقات الإنسانية المعروفة كالحب والكراهية، والزواج والأبوة، والصداقة والغيرة، الى آخره، فإن الفنانين الموهوبين، بدلاً من أن يعودوا الى تناول تلك المواضيع ذاتها تناولاً أعمق دلالة، وأرقى فنياً من تناول الأدعياء لها، رأوا إغفال كل هذا وكأنما هو غير قائم أصلاً، وأن يطرقوا أغراضاً أخرى كالطاقة والسرعة والحركة الميكانيكية الى آخره. فكان أن غلب على فنهم التجريدي العُقم والعدمية والتحلل.، وكان أن زاد انصراف الجمهور عن فنهم الى الفن الهابط. دار في ذهني هذا الخاطر، وأنا أتأمل اثناء زيارتي لقرية "مراقيا" على الساحل الشمالي الغربي من مصر، وضعاً شبيهاً أو قريب الصلة بهذا الوضع، ولكن في مجال آخر. كنت أراقب سلوك أفراد الطبقة التي تتردد على تلك القرية عادة للاصطياف، فهنا عائلات من البورجوازيين الذين كونوا ثرواتهم من عملهم خارج مصر، يملأون شوارع القرية، وما من عائلة منها إلا حمل أحد أفرادها على كتفه جهاز راديو أداره صاخباً مدوياً. هي طبقة جديدة لم يعرف تاريخ مصر مثيلاً لها من قبل، يطلق سائر المصريين عليها اسم "النو÷و ريش" أفرادها ينتمون الى أسر، لا هي بالعريقة ولا هي بالغنية. وبالنظر إلى أنهم لم تتح لهم الفرصة أبداً للاتصال بالطبقة العليا أو الاندماج فيها، ولا للتحرك في الأوساط الراقية، كان من الطبيعي أن يتسم سلوكهم بقدر من الغلظة والفجاجة وقدر أكبر من الخيلاء المألوفة من حديثي النعمة. ذلك أنهم بعد أن أفلحوا في تكوين ثروات لم يكن لهم، ولا لآبائهم وأجدادهم، بها عهد، وحققوا أملهم في الحياة، وصار بوسعهم للمرة الأولى في حياتهم أن ينظروا الى المستقبل نظرة آمنة مطمئنة، وأن يأكلوا ويلبسوا ويُطعموا أولادهم ويلبسوهم ما كانوا محرومين منه في مستهل حياتهم، وما كان لُعابهم يسيل له إن رأوه في أيدي غيرهم وعلى أبدانهم، قد عادوا من الخارج مصممين على قطع صلتهم نهائياً بماضيهم التعس، وعلى ألا يعودوا في بلادهم الى مركزهم الاجتماعي التافه القديم، وألا يقبلوا أن تنظر إليهم الطبقات الأعلى نظرة استعلاء أو استخفاف، لقد غدا المال ينساب إنسياباً من أيديهم. غير أن افتقارهم الى أصالة المحتد، والى ما يؤهلهم لمخالطة أفراد الطبقة العليا، جعلهم يميلون الى أن يُظهروا للملأ، وبأسلوب سافر فج، الميزة الوحيدة التي يتمتعون بها، وهي المال، وهم حيثما يهذبون، سرعان ما تشب بينهم وبين أبناء البيوت، نار عداوة شبيهة بتلك التي كانت في الماضي تستعر بين العائلات الارستقراطية المصرية وأغنياء الحرب. هذه الكراهية للطبقة العليا، بل وللانتيليجنتزيا والفنانين، هي أبرز ما يميز هؤلاء النوفو ريش. وستظل هذه الكراهية قائمة ما دام أفرادها يستشعرون الحقد، اذ لا يتمتعون في الحياة الاجتماعية المصرية بمكانة تتناسب مع قدر ثرواتهم. وفي الجهة المقابلة، نجد أفراد الطبقة العليا والانتيليجنسيا والفنانين لا يمقتون أحداً، ولا يستشعرون النفور والاشمئزاز من أحد، قدر مقتهم لأفراد تلك الطبقة من العائدين من الخارج بثروة ضخمة، وقدر نفورهم واشمئزازهم منهم ومن عاداتهم وسلوكهم وقيمهم، خصوصاً إذ يرون أعدادهم تتزايد مع كل عام، وتأثيرهم في أذواق السلع والملابس وبرامج التلفزيون وأفلام السينما والمسرحيات ينمو يوماً بعد يوم، بحيث لا يكاد الأولون يجدون مكاناً لهم يعصمهم من هذا المد، وبحيث يجدون المساحة التي بوسعهم أن يعيشوا فيها بمنأى عن هؤلاء في تقلص سريع مستمر. أظهر أفراد هذه الطبقة همة عظيمة في عملهم بالخارج، وتحملوا في جَلَد وصبر مشاق الغربة، وأسهموا إسهاماً عظيماً في تقليص مشكلات مصر الاقتصادية، وجلبوا إليها كنزاً من العملات الصعبة، غير أنهم في مصر لم تتح لهم الفرصة بعد عودتهم لإظهار الجوانب الايجابية فيهم، لقد طفوا الآن الى سطح مجتمعهم بعد خمول ذكر، وشرعوا يتبجحون بالانفاق الوقح من الثروات العريضة التي كونوها لأنفسهم، متسببين بإنفاقهم هذا في رفع أسعار كل شيء، من البيض الى الفاكهة واللحوم الى أسعار الأثاث والشقق السكنية والسيارات، مما خلق المتاعب والضيق لغيرهم. كانت المسرحيات والأفلام المصرية في الماضي تسخر من مثل هذه الشخصيات، غني الحرب مثلاً، أما اليوم فإن هذه الشخصيات هي التي ترتاد المسارح ودور السينما وتتفرج على التلفزيون، فلم يعد ثمة من يجرؤ على عرض ما يسيء الى مشاعرهم. * كاتب مصري.