تقي الدين أحمد بن علي بن عبدالقادر المقريزي 1364 - 1442 صوت متفرد ومتميز في التاريخ القروسطي لمصر وبلاد الشام، بل وفي التاريخ الإسلامي برمته. وليس ذلك فقط بسبب مؤلفاته التاريخية العديدة التي طاولت مختلف المواضيع من سير وتراجم وخطط ورسائل مقتضبة في مباحث شتى، وإنما وبالدرجة الأولى بسبب النفس النقدي المدقق الذي يظهر واضحاً في الكثير منها، حتى أنه يشكل العصب المنظم لأشهرها ألا وهو تاريخه لمدينته القاهرة "كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، الذي يمكن اعتباره بحق واحداً من أعمق الدراسات التاريخية العمرانية في التراث العربي المكتوب حتى اليوم. ولا تقتصر أهمية هذا الكتاب الهائل الحجم على حفظه للمعلومات المعمارية والأخبارية والتاريخية عن عمران القاهرة التي لولاه لكنا فقدناها بفقداننا لمصادره التي استقى منها، أو على تربيته لتلك المعلومات ووصلها وملء الشواغر فيها والزيادة عليها بل تتجاوز هاتين الصفتين لتشمل معالم أساسية في توجهه وهدفه ونبرته وشموليته الموضوعية والتحليلية وخلفية كاتبه الاجتماعية والشخصية. فهذا الكتاب بدءاً يحوي بين دفتيه صورة شبه كاملة لما كانت عليه مدينة القاهرة في بداية القرن الخامس عشر، وللأدوار التي لعبها الساسة والأعيان في الحياة المدنية والعمرانية والاقتصادية والسياسية والمراسيمية والاحتفالية في المدينة المملوكية. وهو كذلك يقدم لنا جرداً سردياً متكاملاً لتاريخ مصر قبل الإسلام كما تصوره المسلمون من خلال مصادرهم الدينية والشبه - تاريخية وتأريخاً مدققاً لتطور الفسطاط وبعدها القاهرة منذ نشأتها عقب الفتح الإسلامي ومروراً بعظمتها الخلافية إبان العهد الفاطمي وتفوقها العسكري الجهادي في العهدين الأيوبي والمملوكي المبكر الى ظهور بوادر الانحطاط والتدهور فيها مع تحول السلطة الى العنصر الجركسي في العصر المملوكي، أي عندما كان المقريزي يجمع مواد كتابه ويصنفها. وهذا الكتاب أيضاً يصب في خانة الدراسات النقدية الإصلاحية ذات النفس الحي والمتألم والفرداني التي قل ما نجد مثيلها في التراث القروسطي برمته، وإن كان يبدو لي متشائماً أكثر من اللازم. ولهذا أسباب. فهذا العالم والمؤرخ الملتزم والحساس كان، كما يخبرنا تلميذه المؤرخ ابن تغري برد "مبعوداً في الدولة، لا يدنيه السلطان مع حسن محاضرته وحلو منادمته". وبما أن السلاطين بعد الظاهر برقوق "أبعدونا من غير إحسان" على حد رأي ابن تغري بردي أيضاً فقد أخذ هو "في ضبط مساوئهم"، على أنه كان "ثقة في نفسه، ديناً، خيراً. وقد قيل لبعض الشعراء الى متى تمدح وتهجو، فقال: ما دام المحسن يحسن والمسيء يسيء". وذا هو في الحقيقة لسان حال المقريزي الذي تمكن، بحكم إبعاده عن الدولة، من الجهر في كتاباته بما لم يقله غيره علانية حفاظاً على المنصب والصلة، ومن تتبع أخطاء ومثالب وفساد الحكام في زمانه. وحاول من ضمن معطيات علمه وعقيدته تحليل مظاهر الفساد وتبيان نتائجها في تدهور الاقتصاد المملوكي وزيف العملة وتفسخ المجتمع وفي الخراب الذي حاق بعمران مصر والقاهرة بشكل خاص. وهو قد اتخذ منهجاً جديداً للولوج الى مبتغاه النقدي، أي المدخل العمراني، وتطرق الى نقد الدولة والمجتمع والاقتصاد والسياسة والثقافة وبعض العادات والتقاليد من خلال تتبع آثارها العمرانية المعمارية. وهذا أيضاً سبق منهجي آخر في الثقافة العربية. أما المقريزي، فبعد أن ابتدأ حياته المهنية على نفس المنحى المعتاد عند معظم علماء عصره من السعي لنيل الحظوة عند الأمراء وأصحاب الشأن، وبعد أن قضى شطراً طويلاً من فتوته وهو يجالد في كواليسهم للوصول الى منصب برضاه نجده فجأة ومن دون سبب واضح يقرر الكف عن التزلم للأكابر وينعزل في بيته العائلي في حارة برجوان في قلب قاهرة المعز وهو في عز الشباب وفورة النشاط. ولا ندري سبباً مباشراً لهذا القرار وإن كان يبدو حصيلة سنين من المعاناة من الصراعات المذهبية أي بين أتباع المذاهب السنية الأربعة والسياسية والمنفعية والتكالب على المناصب والفساد والرشاوى التي عايشها المقريزي عن قرب من خلال اتصاله بالسلطان برقوق وابنه فرج وبكبار رجال دولتيهما، ومن خلال المناصب التي شغلها في عهديهما وعلى رأسها وظيفة حسبة القاهرة التي أتاحت له الفرصة لكي يشاهد بعينيه السوس الذي كان ينخر في بنية السلطة المملوكية. وظهرت أول أعراض القرف على هذا العالم الشديد الإيمان ونقيه، وإن كان ضعيف الشخصية نوعاً ما، عندما كان يصحبه السلطان فرج بن برقوق وحاشيته في دمشق وعرض السلطان عليه قضاءها مراراً وهو يرفض. وبعد مقتل فرج وانتقال السلطة الى السلطان المؤيد شيخ عام 1408، عاد المقريزي الى القاهرة من دمشق وأعرض عن الوظائف وانقطع في داره عاكفاً على الخلوة والعبادة والتأليف، وتوقف عن التردد لأحد إلا فيما ندر. ولعل القشة التي قصمت ظهر البعير وجعلت المقريزي ينتقل من التفكير بالاعتزال الى التنفيذ كانت مقتل صديقه وحاميه كاتب السر فتح الدين فتح الله بن مستعصم بن نفيس الإسرائيلي الداوودي التبريزي الحنفي على يد السلطان المؤيد شيخ مع أنه كان المسهل الرئيسي لوصول المؤيد الى السلطنة عبر سلسلة من المراوغات المحكمة التي مكنته من تحييد أو ازالة كل منافسيه. وهكذا قضى المقريزي النصف الثاني من حياته من 1408 الى 1442 في عزلة نسبية بعيداً عن مواقع السلطة ومسييريها من أمراء وسلاطين وكتّاب ووزراء. وكتب وصنّف مجموعة من الأخبار عن السلالات التي حكمت مصر الإسلامية وعن أهم رجالاتها وتاريخ خططها. وقد شغله هذا الكتاب الأخير "كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، أكثر من أي من مؤلفاته الأخرى ومات من دون أن يكمله كما أراد واشتهى. فهو على ما يبدو من خلال التواريخ التي تظهر ضمن الكتاب ما فتىء يزيد وينقح فيه منذ بداية تأليفه نحو العام 1415 وحتى سنتين قبل وفته 1440. ومع ذلك فالمبيضة التي وصلتنا ونشرت في بولاق عام 1853 أقرب ما يكون الى الاكتمال بحيث أننا يمكننا أن نعتمدها معياراً لفكر المقريزي النقدي وأسلوبه في قراءة التاريخ العمراني لمدينته وبلده من خلال نظرية معلمه ابن خلدون الشهيرة في تتابع أطوار العمران والخراب بسبب حتمية الصعود والهبوط في التاريخ. لا يخفى على قارىء اليوم ملاحظة تعلق المقريزي ببلده، لا من خلال تخصيصه كتاب الخطط للبحث في تاريخها العمراني فحسب، وإنما أيضاً من خلال النبرة التي يعتمدها للكلام عن مصر أو عن القاهرة أو عن أماكن ذكرياته المفضلة في المدينة وخصوصاً حارته، حارة برجوان، خلال الكتاب كله. ويظهر حبه لمصر أوضح ما يظهر في المقدمة التي تنفح بالمشاعر الجياشة تجاهها كونها مسقط رأسه وملعب أترابه ومجمع ناسه ومغنى عشيرته وموطن خاصته وعامته وجؤجؤه الذي ربى جناحه في وكره. وهو بهذه المشاعر - التي نقلتها منه بشكل شبه حرفي - يظهر أكثر ما يظهر وطنياً غيوراً قبل ظهور فكرة الوطنية وإن كان في سرده المسجع قد اختزل كل ما حاولت الوطنية الحديثة بعده بأربعة قرون إذكاءه في نفس المواطن من مفاهيم تهدف لتثبيت انتمائه لبلده وقومه وتجذيره. وفي المقدمة أيضاً، يفصح المقريزي عن الهدف الأساسي الذي حداه الى وضع هذا الكتاب الموسوعي: الخوف على ذكرى الخطط والمصانع والأوابد المهمة في القاهرة والفسطاط من الزوال بسبب التدهور الحاصل في عمرانهما في الفترة العصيبة والقلقة التي عايشها المقريزي، والتي تعددت فيها أسباب الانحطاط والتدهور. فهناك الصراعات والفتن الداخلية في بداية العهد الجركسي من الدولة المملوكية التي شهدت انقلاباً في نظام الحكم تطلب وقتاً وجهداً لتثبيته والقبول به من مختلف قطاعات الجيش المملوكي. وهناك الآثار الرهيبة لطاعون "الموت الأسود" الخاطف والهائل الذي ضرب حوض البحر الأبيض المتوسط بين عامي 1348 - 1349 وغيّر معادلات السكان والاقتصاد في كافة دوله وإن لم تستطع الدولة المملوكية - على خلاف الدول الأوروبية - النهوض من كبوتها بعده. وهناك الغزو التيمورلنكي المدمر للإقتصاد السوري الرديف لاقتصاد مصر. وفوق ذلك كله، هناك السبب الأول للتدهور - برأي المقريزي - ألا وهو فساد المماليك وابتعادهم عن الطريق الشرعي القويم وتكالبهم على جمع الثروات بكل الطرق بغض النظر عن الخراب الناتج عن أساليبهم الشرهة وقصيرة النظر في الإثراء على حساب دوام الاستقرار الزراعي والتجاري ورضا الرعية. هذه الأفكار تجد طريقها للظهور في الكتاب أكثر من مرة. ويبدو لي أننا يمكننا اعتبارها المبادىء الناظمة للكتاب بحق. فهي التي تدفع المقريزي في سباق محموم مع الزمن لأن يسجل بوله زائد كل تفصيلة عمرانية ومعمارية وتاريخية مهمة من وجهة نظره ومن ضمن مفاهيمه عن كل مبنى في القاهرة وبدرجة أقل في الفسطاط والمدن المصرية الأخرى خوف اندثاره وبالتالي نسيانها ونسيان العز والبحبوحة التي أنتجتها. ومن هنا تأتي جدة الكتاب وتباينه عن غيره من كتب الخطط التي عنيت بتسجيل الملامح العمرانية للقاهرة والفسطاط قبل وبعد المقريزي. فهذا القاهري غريب الأطوار والمسكون بهموم مدينته يكتب بعاطفة جياشة ومفعمة تنل الى كلماته وجملة أفكاره فتضفي عليها بعداً ايديولوجياً وأنطولوجياً كينونيا واضحاً. فهو من خلال كتابه يتمسك بذكريات قاهرته التي ولت مع التدهور الحاصل في العهد الجركسي المبكر ويحاول اعادة سكبها وصفاً مفصلاً ومعبراً ومكتملاً لكل دقيقة من دقائق تاريخها. فهو بذلك يحاول أن يخلق في خططه "موئلاً للذاكرة" ilieu de mژmoire كما عرّفها المنظر الفرنسي بيير نورا بعد أن فقدت المدينة - مدينة طفولته ومدينة الذكريات التي تشربها من أهله عن عظمتها أيام عنفوانها - قدرتها على أن تكون "محيطاً للذاكرة" milieu de mژmoire أي على أن تكون بما هي عليه الأرضية الواقعية التي تنداح عليها صورة المدينة كما يتمثلها أناسها ويعيشونها ويتذكرونها، والأهم من ذلك كله، يحبونها. وهكذا نجد المقريزي يستعمل قيمة الخراب والخوف من النسيان والرغبة بحفظ ذكرى الماضي السعيد كلازمة ناظمة للعديد من فصول كتابه. فالأوقاف انتهكت من قبل الأمراء الشرهين ودمر دورها الاقتصادي والعمراني بفعل الاستيلاء والاستبدال والبيع التعسفي وهي كلها بدع أدخلها الجراكسة على حد زعم المقريزي. والكثير من خطط القاهرة الجديدة التي انتعشت في العهد المملوكي المبكر وخصوصاً خلال فترة الناصر محمد اضمحلت وتراجعت. وبعضها، كالمقس ومنشأة المهراني والدكة والخندق والرصد ويلبيس تحول الى خرابات. ومستوى المعيشة تدهور واتضعت أحوال الناس فتحول الأغنياء الى لبس الجوخ بدل الحرير، والى إزالة التكفيت الفني الرائع من أوانيهم النحاسية لبيع الذهب والفضة صرفين. وزالت الأعياد الزاهية وذهبت بهجتها، فالفوانيس في ليالي المواسم لم تعد تشمل كما في الماضي، والزوارق التي تحمل اللاهين لم تعد تصعد وتهبط في النيل وفي البرك، وأسواق الرفاه اختفت. والحكام ازدادت شراهتهم لوضع يدهم على كل ما يطالونه من أموال الرعية حلالاً أو حراماً، والقضاة والأعيان صارت تعين بالرشوة. ولكن المقريزي لا يكتفي بنقد السلطة من خلال التركيز على الخراب العمراني الحاصل بنتيجة فسادها وتجبرها وسوء إدارتها و - أيضاً، وبقدر مهم - ابتعادها عن تعاليم الدين كما حددها حماته من العلماء والفقهاء، بل انه يعمد للنقد نقداً صريحاً من خلال اعتماده نماذج واضحة من بين السلاطين أو الأمراء الذين تسببوا بشكل مباشر في الخراب العمراني أو التدهور الاقتصادي أو في فساد الذمم وطغيان الأهواء. ثم يثبت خلاصة رأيه في تدهور السلطة المملوكية في فقرة هي من أروع وأدق التحليلات السياسية التاريخية التي أعرفها والتي استخدم فيها المقريزي ببراعة فائقة نظرية معلمه ابن خلدون بعد أن حورها وكيّفها لتتلائم مع النظام المملوكي الخاص بعصبيته الاصطناعية وبطبقته الحاكمة المكونة من جيل واحد لا يمرر السلطة الى أبنائه وإنما يستورد مجموعة جديدة من المماليك لتحفظ عصبيته وتحل محله على قمة هرم الدولة. فالنظام المملوكي الصارم والدقيق الذي وضع قواعده الآباء المؤسسون مثل الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون مكنهم من أن يصبحوا "سادة يدبرون الممالك وقادة يجاهدون في سبيل الله وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل ويردعون من جار أو تعدى، "كما يرى المقريزي ماضي دولتهم الزاهي من موقعه. هذا النظام الذي سمح لهم بإقامة هرم سلطوي راسخ وعتيد اقتفى آثاره خلفاؤهم من بعدهم حتى عهد برقوق تضعضعت أسسه خلال حياة المقريزي الذي كان شاهد عيان لما يحلله. وهذا النظام الذي أفرز تراتبية محكمة لا يمكن فيه للفرد المملوك من الصعود الى رتبة الإمارة فيه إلا بعد مروره بمراحل تدريبية عسكرية ودينية وأدبية متعددة وصارمة بحيث تكون "أخلاقه قد تهذبت وكثرت آدابه وامتزج تعظيم الإسلام وأهله بقلبه، واشتد ساعده في رماية النشاب وحسن لعبه بالرمح ومرن على ركوب الخيل "قد زال وولى على حد رأي المقريزي - ومنذ حكم برقوق" بذلت الأرض غير الأرض وصارت المماليك السلطانية أرذل الناس وأدناهم وأخسهم قدراً وأشحهم نفساً وأجهلهم بأمر الدنيا وأكثرهم إعراضاً عن الدين. ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد وألص من فأرة وأفسد من ذئب... فلا جرم أن خربت أرض مصر والشام من حيث يصب النيل الى مجرى الفرات بسوء إيالة الحكام وشدة عبث الولاة وسوء تصرف أولي الأمر". هذا هو بيت القصيد من نقد المقريزي اللاذع والمباشر: خروج السلطة المملوكية عن قواعد الحكم والعدل والشريعة أدى الى خراب البلاد. ولا أظن أن أي وصف تقريري لسوء الحكم كان يمكنه أن يبلغ من التأثير ما يبلغه وصف المقريزي للآثار العمرانية التي سببها هذا السوء. وعلى هذا الأساس تبرز للسطح الخاصية السياسية النقدية لكتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار. فالموعظة والعبرة هنا ليست تجريدية أخلاقية محضة، بل هي تقريرية وفاعلة: عمران الخطط لا يتم إلا بصلاح السلطة. ولا يجدر بنا أن ننتظر من المقريزي أن يذهب أبعد مما ذهب اليه، كأن يدعو لتغيير الحكام مثلاً. فلا تربيته ولا خلفيته الإسلامية ولا محيطه العلمي تسمح بهذا النوع من التفكير. ولكنه بنظرة المؤرخ المحلل والمنظر الثاقبة تمكن من استيعاب العلاقة بين ازدهار المدينة وعدالة السلطة، ووضع يده بجرأة يعز نظيرها حتى في يومنا هذا على الجرح الذي عاينه ينزف وحلل مسبباته وبيّن نتائجه. فهل بلّغ يا ترى؟ * أستاذ مشارك لتاريخ العمارة، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T