يعتبر المخرج داود عبدالسيد واحداً من ابرز المخرجين السينمائيين العاملين حالياً في السينما المصرية، فهو قدم عبر مشواره عدداً من الافلام التي ما زالت تثير الجدل بين المثقفين والسينمائيين. وفي فيلمه الاخير "مواطن ومخبر وحرامي" يواصل إثارة الجدل. "الحياة" التقته وهنا نص الحوار: فيلمك الاخير "مواطن ومخبر وحرامي" يحمل في اعتقاد البعض - على رغم جدته وطرافته - ابعاداً اخرى ورؤية اعمق تصنف المجتمع الى مواطن ومخبر ولص بما في ذلك من سخرية وادانة ومع مراعاة تبادل الادوار؟ - هذا صحيح إلى حد بعيد، فالمخبر أو الحرامي هو في الاساس مواطن، اختار ان يكون هذا أو ذاك، ولو لم يكن هناك مخبرون أو لصوص لبقي المواطنون، لكن مجتمعنا وللاسف افرز الى جانب مواطنيه، مخبرين ولصوصاً وهذا تقسيم أو تصنيف مقصود. أسماء ابطال افلامك يبدو أن لها دلالات خصوصاً في المرحلة الاخيرة التي ظهرت مع فيلم "أرض الخوف" ثم "مواطن ومخبر وحرامي"؟ - دلالات الاسماء مقصودة لكنها ليست أكثر من مجرد سخرية من نموذج المواطن الذي سحق وكسر ومع ذلك فإن اسمه "سليم"، والمخبر الذي تتفتح امامه كل الطاقات وتذلل الصعاب وبإمكانه فعل كل شيء واسمه "فتحي" وأخيراً اللص ويدعى "شريف". وماذا عن اسم "حياة" هند صبري، هل قصدت بها الحياة بمفهومها الواسع وأنها الحياة التي اقتسمها اللص والمواطن وقسا عليها المخبر. - هذا صحيح الى حد بعيد، فحياة كانت الحياة بكل جمالها ووضوحها وإنكسارها. شخصية حياة في الفيلم كانت مفتاح الحياة بالنسبة للجميع. ولذلك حينما سخرتُ من الجميع وأدنتهم... لم ادنها أو لم ادنها بالقدر نفسه. غابت عناصر الجذب الجماهيري عن هذا الفيلم بغياب نجوم الصف الاول. الى جانب طبيعة الموضوع، فهل كان وجود شعبان عبدالرحيم بهدف تحقيق الموازنة المرجوة بين الجودة والجماهيرية؟ - الفيلم خالٍ من النجوم هذا صحيح... شعبان عبدالرحيم لا يمكن حسبانه على نجوم الصف الاول، أو الاعتماد عليه كعنصر جذب جماهيري للفيلم بشكل مطلق، خصوصاً وأن التعاقد معه تم قبل عام كامل أي قبل طرح شريطه الاخير في السوق، وهو الشريط الذي احدث "فرقعة" اكسبت شعبان جماهيرية لم تكن موجودة من قبل .... لا بد ان اشير هنا الى ان اختيار ابطال هذا الفيلم كان اصعب ما مررت به في حياتي... وذلك في ظل وجود ازمة نجوم وارتفاع كلفة الإنتاج ما ادى الى عدم وجود نجوم يعرفهم الجمهور بشكل كافٍ أو كبير، الى جانب موضوع الفيلم الذي يتطلب نماذج وشخصيات غير نمطية تؤدي الادوار المنوطة بها والتي تختلف عن بعضها بعضاً في شكل جذري. فالمخبر صلاح عبدالله أو الحرامي شعبان عبدالرحيم، نموذجان مغايران تماماً لنموذج المواطن خالد ابو النجا، مع العلم بضرورة وجود قدر ما او شيء من التناسيق بين هذه النماذج الثلاثة في الفيلم وتحدي الاختيار في هذا الفيلم لم يكن قاصراً على إنتقاء العنصر الرجالي بل إن اختيار العنصر النسائي في الفيلم مر بالصعوبات نفسها، ومع هذا فإن اداء شعبان عبدالرحيم جاء مفاجئاً للجميع: كيف ومتى تعلم التمثيل واستيعاب الحوار؟ تدرب شعبان عبدالرحيم على التمثيل في استديو الممثل عند محمد عبدالهادي، ولأن ذكاءه فوق المتوسط بكثير، كانت استجابته وإلتزامه ايضاً فوق المتوسط وتعامل مع التمثيل ومع الفيلم بجدية إنعكست في النهاية على ادائه دور الحرامي باتقان. ارتباط هل هناك قصد من التعامل مع فريق عمل ثابت لا تغيره وفيه راجح داوود في الموسيقى وناجي فوزي في السيناريو وآخرون. هل هذا نوع من الانغلاق على ذوات بعينها أم مجرد إرتباط إنساني وجداني بفريق العمل الواحد؟ - اعتقد أنه شيء طبيعي أن يطمئن المخرج الى فريق عمل محدد ويرتبط معه بعلاقات عمل وفهم متبادل وصداقة تنعدم في ظلها فكرة التغيير. وعلى مستوى الكتابة أنا لا اطمئن إلا لداود عبدالسيد واعتبر نفسي صانع افلام لا مخرجاً فقط أو كاتباً فقط. أما راجح داود فبيننا فهم مشترك وللعلم هو ابن عمي، وقد ولدنا في يوم واحد. هل هذا الارتباط، أو التواصل، يتجاوز الاشخاص الى اماكن التصوير ايضاً إذ لوحظ ان لحي مصر الجديدة وتحديداً منطقة "الكوربة" التي تسكن فيها نصيب الاسد في افلامك؟ - أماكن التصوير مرتبطة بموضوع كل فيلم، وإن كان حي مصر الجديدة تحديداً يسهل التصوير فيه، لهدوء شوارعه، وإتساعها وخلوها في الغالب من الازمات المرورية التي تخنق شوارع العاصمة. هل يمكن تقسيم افلامك منذ "الصعاليك" وحتى "مواطن ومخبر وحرامي" الى مراحل فنية وفكرية محددة؟ - بالتأكيد يمكن تقسيمها الى مراحل، لكن الفنان في المجمل لا يكون واعياً حقيقة ما يفعله أو المراحل التي يعبّر عنها، وهذه مسألة متروكة للنقاد ومؤرخي الفن. لكننا لاحظنا أن الطرح الميتافيزيقي، الذي ظهر في "أرض الخوف" تحول الى طرح أكثر واقعية في فيلمك الاخير واعتمد على الاسقاط غير المباشر على نواحٍ سياسية واقتصادية واجتماعية نعيشها حالياً؟ - الفيلم يحمل دلالات اوسع بكثير من قصته ويحوي أبعاداً مختلفة. وهذا في اعتقادي هو الفن الجميل الذي يسمح أو يتيح اكتشاف ابعاد أكثر وأعمق تماماً كالبئر العميقة ومياهها التي لا تنضب. وهل لهذه المضامين المستترة قصد فني أم أنها نوع من التحايل على الجمهور أولاً وشركة الانتاج ثانياً والرقابة قبل الجميع؟ - الرقابة لم تتدخل على الاطلاق في مضمون الفليم، والسيناريو تمت الموافقة عليه من دون ملاحظات. أما تدخلات الشركة المنتجة فلم تكن في حسباني. والحق يقال إن الشركة وافقت على السيناريو واشادت بالفيلم. عموماً هدفي كان الوصول الى الجمهور لكن بفيلم عميق ومهم، من دون التفكير او اللجوء لمنطق التحايل على أحد. ويسعدني كثيراً أن يصل فيلمي الى المشاهد العادي البسيط قبل المثقف. يكفيني أن يشاهد الناس فيلمي ولو كان ذلك بشكل سطحي وبمعناه المباشر، فأنا راضٍ بذلك في هذه المرحلة، خصوصاً ان عملية التلقي الاولية تعتمد على الحدس والوجدان، ونحن في حاجة ماسة لترقية وجدان المتلقي وحفزه على التطور. هل وجود الراوي في الفيلمين الاخيرين "ارض الخوف" و"مواطن ومخبر وحرامي" يمكن اعتباره توجهاً جديداً يعكس قناعة خاصة لديك بأسلوب جديد في الطرح العام، في هذه المرحلة الفنية، على رغم عدم استجابته أحياناً ذوق الجمهور؟ - وجود الرواي في الفيلمين صدفة غير مقصودة تختلف دلالتها في كل منهما، فالراوي ليس واحداً في الفيلمين، وقد يكون فيلمي المقبل بلا راوٍ. أما تأثير الراوي على جماهيرية الفيلم فهو مسألة نسبية من الصعب حسمها أو الجزم بها، فالفيلم في المطلق ذو طبيعة خلافية وكل عنصر فيه يعد مصدراً للخلاف والاختلاف، بدءاً بشعبان عبدالرحيم وانتهاء بمضمون الفيلم نفسه والذي يراه البعض سيئاً فاشلاً في حين يجده آخرون عظيماً عبقرياً. فيلمي هذا اقرب ما يكون من عصا موسى التي شقت البحر لتحدث تناقضاً واختلافاً في كل جزئية من ذراته. هل توظيفك لأغاني شعبان عبدالرحيم في الفيلم له دلالة أكبر من كونه توابل لازمة ضرورية للوصفة الجماهيرية؟ - الاغاني في الفيلم لها بعد فكري وثقافي عميق يعبر عن الثقافة السائدة أو ثقافة الشارع في إشارة مقصودة - فنياً ودرامياً - للتحول والطوفان الثقافي الذي غزا حياتنا وأدى بدوره إلى انحدار فني كبير. المشهد الذي جمع بين ضابط الشرطة والمواطن يعتبر من أهم واقسى مشاهد الفيلم إذ عبر عن مضمونه بالكامل وكان ملخصاً له ما رأيك؟ - السلطة في الفيلم كانت ممثلة بشكل عام في المخبر، اما الضابط فإنه يشكل بدوره السلطة الاعلى "التي تقرر وتعطي الامر بالتنفيذ" وهذا المشهد يشرح مشكلة السلطة في مصر، وأنها لا تترك للصراع الاجتماعي الطبيعي مساحة من الحرية أو الوجود لكي يسفر عن نتائج. ذلك لأنها دوماً في حال خوف وترقب مستمر وتشعر أن الامور على شفا الانهيار، ومن ثم تتدخل لقمع اي حركة أو فكر وليد. العجيب أن السلطة في بلادنا لا تتدخل في ما يجب أن تتدخل فيه وتتدخل في ما لا يجب أن تتدخل فيه. فهي مثلاً في حال الخلاف بين اثنين من المواطنين كثيراً ما تطلب من المتضرر أن يسامح ويتصالح مع الجاني ومن ثم لا تنصف المظلوم وتعاقب الظالم على رغم أن عدم حسم ذلك الصراع سيشيع الفوضى والفساد ويدفع الى التواطؤ. في حين تقمع وتتدخل لحسم اي خلاف فكري كما حدث مع رواية "وليمة لأعشاب البحر" إذ صادرت السلطات الرواية وقمعت التظاهرات ومن ثم صادرت الصراع الحقيقي الذي كان من الممكن أن يؤدي الى توافق اجتماعي وهذا ما لا يجب أن تتدخل فيه لكنها تتدخل. في المشهد موضوع الحديث - يتمنى الضابط ان تكون سلطته مطلقة وهو يعلم جيداً ان ذلك مستحيل، لذلك يرى الحل في المصالحة وأن يتنازل المواطن عن حقه لان السلطة لن تستطيع فعل شيء. خوف السلطة وهل يمكن اعتبار ذلك الضابط السلطة مواطناً سحق على يد السلطة ذاتها وصار عصا في يديها؟ - الى حد ما. فالضابط متوتر حزين لا يستطيع التعايش مع من حوله، يشعر بالعجز وبأن سلطاته محدودة ومقيدة لذلك فهو متعب وربما اكثر من المواطن ذاته. فالسلطة كما سبق وأوضحت خائفة وهذا الخوف يجعلها متوترة عصبية قلقة تخشى من أي انحراف عن الطريق المرسوم أو أي خطأ قد يقع، فتخطئ أكثر، خصوصاً أن أحداث 18 و19 كانون الثاني يناير 1980 كانت درساً قاسياً للسلطة جعلها في حال رعب دائم ودفعها لتمرير الاشياء لا مواجهتها وقمعها لا التصدي لحلها. شعرنا في هذا المشهد بحال من الخصومة الابدية بين عالمي المواطن والضابط، يستحيل في ظلها الالتقاء على شيء واحد حتى وإن كان الاثنان صديقين أو زميلين في مرحلة الصبا؟ - بالطبع يستحيل أن يلتقيا أو يستمرا في صداقتهما لانه في ظل إنعدام الديموقراطية لن يتحول الضابط او السلطة الى مواطن عادي، ولن يتحول المواطن الى سلطة. السلطة في بلادنا مؤممة ومقصورة على رجالها وقوانينها واحكامها، لا يمكن النفاذ لها أو منها. تحدثت حتى الآن عن مستويين من السلطة، المخبر والضابط في حين ان هنالك سلطة اكبر واقوى سلطة - لها طبيعة خاصة - مارسها الحرامي على الموطن، فهل هذا صحيح؟ - هذا صحيح ولكن سلطة الحرامي قبل ان يمارسها على المواطن مارسها على المخبر على رغم كون الاخير سلطة، وسلطة الحرامي عليه كانت سلطة قناعة وهي أعلى من سلطات المخبر التنفيذية التي فسدت وصارت اكثر تحيزاً للفساد. كما أن له عليه سلطة ثقافية وفكرية لها شرعية اجتماعية ومرجعية دينية على رغم كونه جاهلاً مدعياً لا علاقة له بالدين لا من قريب ولا من بعيد، والجهل باسم الدين يمثل في بلادنا سلطة اشد وطأة وذلك لغياب الوعي الذي يتولد من الصراع الاجتماعي وتصارع الآراء وتضاربها والاختلافات التي تسفر في النهاية عن نتائج من شأنها تصحيح مفاهيم الرأي العام. اعتياد على القهر الصداقة التي نمت بين المواطن والمخبر والحرامي في نهاية الفيلم توحي بإعتياد المواطن على حال القهر التي مورست عليه من المخبر والحرامي، وأنه بمرور الوقت صار يحبها ويبحث عنها بنفسه ويسعى إليها... - المواطن فقد دوره الحقيقي منذ أن كسر، وكسر بعد أن حرقت روايته ولازمته مرارة فقدها والاحساس بأنه ليس في الامكان ابدع مما كان. فبعد حرق الرواية غضب المواطن وثار ودفعته الثورة الى العنف ففقأ عين الحرامي، ودخل السجن وذاق مرارته، ثم دفع رشوة ليخرج منه مقرراً العيش في سلام استسلام. بعبارة ادق لجأ الى الحل الاسهل والأسلم خوفاً من الرجوع الى عذاب المقاومة وتبعاتها. والمواطن استمرأ عدم الصراع، وانخرط في حياة الفساد والتواطؤ وكتب روايات ساذجة حصد بها جوائز من الدولة كأغلب المتواطئين من أنصاف المبدعين، وعوّضه ذلك عن احساسه بمرارة ضياع ابداعه الاول واغمض عينيه الاثنتين عن حياة القهر والاستسلام التي يعيشها. يرى البعض أن اغنية النهاية لخصت مضمون الفيلم وحال شخوصه ما رأيك؟ - هذه الاغنية كانت بمثابة مراجعة للفيلم: بعد أن تلقينا الدرس فلنراجع معاً كل ما حدث لنوجز ونجمل مضمون ما قدم. والحقيقة ان كاتب الكلمات ذكي ومبدع الى حد بعيد وهو نفسه كاتب كلمات اغاني شعبان عبدالرحيم واسمه إسلام خليل. جلسنا معاً وتباحثنا طويلاً وبعد 4 محاولات للكتابة خرجنا بهذه المعاني. هذه المعاني بالطبع تسقط بها على حال الجيل الجديد الاقرب للمسوخ المشوهة المستنسخة بكلمات مثل "زواج القط من الفار" يولد فئران مقطقطة. - لا اقصد الجيل الجديد وإنما أقصد طبقة معينة وأبناء هذه الطبقة، طبقة الفساد التي استغلت الدين غطاء لكل الخطايا ولتبرير أي سقوط أو جهل او إنحدار ثم استغلت السلطة والنفوذ والمال وقلة الضمير، والأمم والاخلاق وعلى رغم ذلك حصدت جوائز وكونت ثروات وكان نتاجها "أبناءها وورثتها" هذه المسوخ المشوهة "الفئران المقطقطة". اشعر انك عبرت عن هذه المعاني بالصورة ايضاً وليس فقط بالكلمات، فالحرامي كان في نهاية الفيلم هو القائد والكل وراءه يرقص على انغامه بل وينتهي الفيلم والحرامي وحده في الكادر والجميع في الخلفية وقد ظهروا غائمين في صورة غير مرئية؟ - هذا صحيح ومقصود وله دلالة درامية. إن اردنا تصنيف هذا الفيلم هل نقول أنه سياسي أم اجتماعي أم فلسفي؟ - الفيلم خلفيته سياسية من دون شك، لكنه اجتماعي أو بشكل عام يمكن القول انه فيلم كوميديا سوداء اجتماعية ذات مرجعية سياسية. تحدثت في نهاية الفيلم عن "مصالحة الشمال مع الجنوب" وذكرت عبارة "سياسة العهود" فهل في ذلك إسقاط على العولمة أو أي طرح سياسي مشابه؟ - لا بل إمعاناً مني في تأكيد معاني العشوائية وبعثرة الاحوال وعدم التجانس واستحالة التصالح والذوبان.