فاجأت كوريا الشمالية اعضاء اللجنة المشتركة للمحادثات السداسية الرابعة عندما عرضت التخلي عن اسلحتها النووية على مراحل والتفكيك التدريجي لمنشآتها النووية, في مقابل الحصول على مساعدات في مجالي الاقتصاد والطاقة, وتحويل شبه الجزيرة الكورية وشمال شرق آسيا منطقة خالية من الاسلحة النووية, وذلك من خلال"خريطة طريق"تقدمت بها بيونغيانغ تتضمن وقف التجارب النووية ووقف نقل المواد النووية وحظر اي انتاج نووي جديد والعودة الي معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية والتعاون مع المنظمة الدولية للطاقة الذرية. الانسحاب من اتفاقية الإطار ومعروف أن كوريا الشمالية انضمّت إلى معاهدة منع انتشار الاسلحة النووية عام 1985, لكنها لم توقع على الشق الخاص بإخضاع منشآتها لتفتيش وكالة الطاقة الذرية إلا عام 1992، وبحلول كانون الأول يناير 1993، أعلنت بيونغيانغ انسحابها من المعاهدة ومن الاتفاق مع الوكالة. وبررت انسحابها بما سمته"ازدواجية المعايير من جانب الوكالة, اذ أنها لم تلتزم بالتفتيش على المنشآت النووية في اسرائيل وجنوب أفريقيا, اضافة إلى انصياعها للسياسة الاميركية من خلال فرض تفتيش خاص على المنشآت الكورية الشمالية، فيما لم تخضع القدرات النووية الأميركية والأسلحة المنشورة في أرض كوريا الجنوبية للتفتيش مع ما يعنيه ذلك من تهديد لأمنها وسيادتها. وتلت ذلك تحركات وضغوط واتصالات من جانب مجلس الأمن والدول الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، انتهت بتوقيع اتفاقية جنيف في تشرين الأول أكتوبر 1994. ويعتقد المحللون الاستراتيجيون بأن كوريا الشمالية أصبحت, بشكل واضح, دولة نووية. فقد شكّل انهيار اتفاقية الإطار عام 2002 حداً فاصلاً ومهماً, اذ كانت هذه الاتفاقية تؤمن احتواء السياسة النووية لبيونغيانغ منذ عام 1994، كما شكّلت اتفاقية الإجراءات الوقائية مع الوكالة الدولية إطاراً لمراقبة مخزون البلوتونيوم الموجود بعد إغلاق مفاعل الأبحاث النووية الكوري. ويؤكد خبراء الشؤون العسكرية في مركز دراسات السياسة الخارجية الأميركية ان كوريا الشمالية أنهت قبيل بدء المحادتات السداسية خطوات عدة كما يأتي: 1- أوقفت مفاعل الابحات النووية عن عمله ما قاد المراقبين إلى الاعتقاد بأنها بدأت عملية وضع المزيد من البلوتونيوم وتخصيبه للاستخدام النووي العسكري. 2- أنهت ما كانت قد بادرت إليه من ذاتها من وقف تجارب إطلاق الصواريخ وتطويرها, وقامت بتجربة لإطلاق صاروخ ذي مدى قصير في اتجاه بحر اليابان. وبينت دراسة أجراها الأدميرال لويل جاكوبي من البحرية الأميركية ومدير وكالة الاستخبارات العسكرية أن بيونغيانغ قادرة على إطلاق رأس نووي من خلال هذا الصاروخ إذا ما كانت تمتلك رؤوساً نووية. وفي السياق عينه أكدت مجلة"جينز"البريطانية المتخصصة في الشؤون العسكرية ان بيونغيانغ تستعد لنشر صاروخين باليستيين جديدين قادرين على بلوغ الأراضي الأميركية للمرة الأولى. وأكدت ان كوريا الشمالية"تعمل لتطوير ونشر"هذه الأسلحة التي قد تعطي نظام بيونغيانغ ما يبحث عنه منذ زمن طويل: القدرة على بلوغ الأراضي الأميركية, لان الأسلحة الجديدة"تغير جذريا طبيعة التهديد الذي تشكله كوريا الشمالية في مجال الصواريخ". ويطلق الصاروخ الاول من قاعدة ثابتة على الأرض ويقدر مداه بما بين 2500 و4000 كيلومتر، أما الثاني فيمكن اطلاقه من غواصة أو سفينة ويصل مداه إلى 2500 كيلومتر. وسبقت ذلك تجربة صاروخ ارض - بحر قصير المدى مضاد للسفن شبيه بصاروخ"سينسانغ -ي", وقد سقط في بحر اليابان على مسافة 110 كيلومترات من الساحل مما وضع القوات الكورية الجنوبية في حال تأهب تام. وتبذل الآن جهود متنوعة من أجل التزام كوريا الشمالية التخلي عن اسلحة الدمار الشامل والبرامج النووية والعودة الى معاهدة الحظر والى وكالة الطاقة الدولية, مع التاكيد على حق كوريا الشمالية في الاستعمال السلمي للطاقة النووية في مقابل تزويدها مفاعلاً يعمل بالماء الخفيف, ومطالبة واشنطن بتأكيد عدم امتلاكها اسلحة نووية في شبه الجزيرة الكورية, وتعهدها عدم الاعتداء او اجتياح جمهورية كوريا الديمقراطية ومعاملتها كندٍ نووي وعدم العمل على تغيير النظام فيها. وتحاول واشنطن من جانبها تأليب العالم ضد كوريا الشمالية، وتحرض اليابانوكوريا الجنوبية على زيادة الضغوط عليها, حتى بلغ الأمر بالإدارة الأميركية مستوى تحريض اليابان على امتلاك أسلحة نووية لردع كوريا الشمالية عن الاستمرار في برنامجها النووي العسكري مستقبلاً. القدرة على التحدي وكانت بيونغيانغ اعلنت عن اجراء تجربة نووية جديده لإظهار قدرتها على التحدي امام الولاياتالمتحدة التي نبهت الى ان خطوة كوريا الشمالية هذه توجه"ضربة خطيرة"للآمال في ايجاد تسوية تفاوضية. لكنها لم تذهب إلى حد التأكيد ان الولاياتالمتحدة ستنسحب من المفاوضات السداسية. ومع استيائها من الموقف الكوري"العدواني", فان المثير للحيرة اعلان واشنطن صراحة انها لا تنوي"خنق"بيونغيانغ وتشديدها على تسوية تفاوضية للأزمة, مع علمها بأن صواريخ بيونغيانغ قادرة على الوصول إلى لوس أنجليس وسان فرانسيسكو وسياتل. والمعضلة التي تواجه ادارة الرئيس جورج بوش تتلخص في أنها، علنا على الأقل، ترفض"مكافأة"التعنت الكوري بالتوصل إلى"صفقة ما"مع نظام كيم جونغ ايل, وتسعى الى ممارسة سياسة القبضة الحديد وفرض عقوبات دولية عليه. لكنها في الوقت نفسه تدرك ان هذا المسلك يزيد بيونغيانغ عنادا, وقد يدفع بالصين - الوحيدة القادرة على أي تأثير في الجارة الشمالية ? الى رفع يدها عن الأمر برمته. وهذا ما حدا بمجلة"تايم"الى القول صراحة ان"تدخلا عسكريا اميركيا هو الحل الوحيد في ما يبدو"! ولكن، مع تورط القوات الأميركية في مأزقي افغانستان والعراق، لا يبدو ان هذا اقتراح عملي. أما بيونغيانغ فتلقي بمسؤولية الفشل في انهيار المحادثات السداسية السابقة على"العداء الأميركي". اذ تصر واشنطن على تخلي كوريا الشمالية عن سعيها للحصول على اسلحة نووية قبل ان تفكر في تقديم التنازلات لها ومن بينها فوائد اقتصادية وامنية. فيما تشترط كوريا الشمالية ان تقدم واشنطن ضمانات لأمنها من خلال معاهدة عدم اعتداء ملزمة قانونياً قبل البحث في المسألة النووية. وهكذا فان عملية شد الحبال القائم بين واشنطن وبيونغيانغ تنذر ليس فقط بانهيار المحادثات السداسية, بل بتعقيد الموقف خصوصاً اذا لم تلتزم واشنطن تعهد احترام سيادة كوريا واتخاذ الخطوات الهادفة الى تطبيع العلاقات, واذا نفذت كوريا تهديدها في اجراء تجارب نووية جديدة مما يدفع واشنطن إلى مطالبة الأممالمتحدة بفرض عقوبات دولية على بيونغ يانغ التي أعلنت انها ستتعامل مع مثل هذا الفرض على انه"إعلان حرب". ويستنتج المراقبون ان تطورات المفاوضات بين واشنطنوكوريا الشمالية, السرية منها والعلنية, وبين الكوريتين تدل على أن القيادة الكورية الشمالية تعمل على تثبيت نفسها كقوة اقليمية, ولا تقبل أي مساومات على المستوى العسكري, والنووي تحديدا, او على المستوى السياسي لجهة موقعها ودورها المستقبلي في آسيا وشبه الجزيرة الكورية. باحث لبناني في القضايا العسكرية والاستراتيجية.