يقابل الطرح التقليدي للعلمانية بين قطبين هما الدولة والدين، مؤسستين مجردتين وحسيتين في آن واحد، يسعيان طبيعيا إلى الهيمنة على كل مجالات الشأن العام. لكن العلمانية التقليدية لا تأخذ في الاعتبار مفهوما جديدا أصبح الأكثر وزنا في الحديث عن المجتمع وهو مفهوم المجتمع المدني، أي مجموع القوى الاجتماعية التي تستخدم حقها في المواطنة للقيام بأدوار اجتماعية معينة دون أن تنخرط في سلك محترفي الشأن السياسي ولا الشأن الديني. أين يكون موقع هؤلاء بين القطبين؟ هل الطرح العلماني التقليدي يسمح للمجتمع المدني أن يكون مستقلا بنفسه؟ إن الطرح التقليدي يؤدي ضمنيا إلى منح أحد القطبين حق الهيمنة وترك وضع النقاش في مستوى اختيار أي أشكال الهيمنة هي الأكثر مقبولية، في حين يتعين طرح الهيمنة ذاتها موضوعا للتفكير. كما يؤدي هذا الطرح ضمنيا إلى إلغاء دور المجتمع المدني أو تقليصه. ومن المثير للانتباه أن عبارة"مجتمع مدني"عندما تستعمل في الغرب حاليا تعني في الغالب المجتمع الذي يسعى نحو التخلص من الحضور المهيمن للفضاء السياسي الذي يضم الأجهزة الرسمية ومنها الأحزاب بمختلف توجهاتها وما يحيط بها من مجموعات مناضلة، سواء أكانت في الحكم أو في المعارضة. فالمجتمع المدني يعبر عن الرغبة في التخلص من هيمنة المؤسسة السياسية برمتها، أما التخلص من هيمنة المؤسسة الدينية فهو تحصيل حاصل بسبب علمنة الفضاء السياسي منذ عهد بعيد. وفي بلد مثل إيطاليا، حيث علمنة هذا الفضاء حديثة العهد نسبيا بالمقارنة بالديموقراطيات الأخرى، أصبح النقاش دائرا حول وضع الكنيسة الإيطالية هل تعدّ جزءا من المجتمع المدني وهل تعدّ الجمعيات والمنظمات المحيطة بها جزءا من هذا المجتمع؟ أما استعمال عبارة"مجتمع مدني"في العالم العربي فيشير إلى إرادة التخلص من هيمنة الشأن السياسي واحتكار المؤسسة السياسية للمبادرة الاجتماعية كما يعني أيضا إرادة التخلص من سيطرة الخطاب المتوسل للمقولات الدينية، سواء مثلته المؤسسة الدينية الرسمية التي هي استمرار للمؤسسة السياسية أو المعارضات السياسية الدينية المنافسة التي تعني المعارضة الجذرية لافتكاك السلطة، فيما المجتمع المدني لا ينافس على السلطة بل يعمل على ترك مجال للمبادرات الاجتماعية خارجها، وشتان بين هذا وذاك. وبما أن"مجتمع مدني"مفهوم جديد في الخطاب العربي، فمن اليسير أن تلحقه تهمة الابتداع والولاء للخارج ما يجعله في كثير من الأحيان موضع ريبة من الخطابين المتنافسين، خطاب الدولة الذي تسنده المؤسسة الدينية الرسمية وخطاب المعارضة الجذرية الذي يستند أيضا إلى المقولات الدينية. وبما أم المعارضة السياسية هي أيضا ضحية الهيمنة والخلط بين الدولة والحزب فهي تقحم نفسها في المجتمع المدني، مع أن الأصل أن المعارضة هي جزء من اللعبة السياسية واقتحامها المجتمع المدني نفي لمعناه الحقيقي ويؤدي هذا الوضع إلى خنق المجتمع المدني إذا تحوّل إلى مسلك للعمل السياسي المباشر. ففلسفة المجتمع المدني فسح المجال للمساهمة في الشأن العام دون ضرورة الانخراط المباشر في اللعبة السياسية، فلا يلزم من مشاركة أفراد أو مجموعات في أعمال ذات مضمون اجتماعي عام أن يكونوا منخرطين في لعبة سياسية تمر حتما عبر الولاءات الحزبية والقناعات الأيديولوجية. الدفاع عن حقوق الإنسان مثلا لا يعني فقط الدفاع عن ضحايا القضايا السياسية قد يعني أيضا الدفاع عن الناس العاديين الذين تنتهك حقوقهم لأسباب ليست ذات علاقة مباشرة بالسياسة، مثل الانتماء إلى أقليات منبوذة في المجتمع أو الوقوع ضحية التجاوز الإداري أو الحرمان من فرص العمل بسبب إعاقات جسدية أو اجتماعية، إلى غير ذلك من الحالات العدية المهيأة أن تصنف إخلالا بحقوق الإنسان. لماذا يضطر المواطن المدافع عن مثل هذه القضايا أن يبدأ بتحديد لون سياسي لنفسه أو الاختيار بين الأيديولوجيات السياسية المتصارعة والتي تقوم في الغالب على مقدمات فلسفية وأحيانا ميتافيزيقية تذهب به بعيدا عن الانخراط الطوعي والمباشر والتلقائي في الشأن العام؟ إن التداخل بين الدين والسياسة، بين الحزب والسلطة، بين السياسة والمجتمع المدني خاصة من خاصيات المجتمعات حديثة العهد بالتنظيم الحديث الذي يفترض التمييز بين الفضاءات، وليس التمييز فصلا اعتباطيا بين ما لا يمكن أن يفصل عن بعضه البعض في المجتمع الواحد، ولكن التمييز هو شرط وضرورة لتمكين الفرد من أن يوجد مستقلا برأيه وبمبادراته ولا يكون مجرد خاضع لمنطق الانتماء الجمعي. يمكن للعلمانية أن تصبح في ذاتها وسيلة للتعمية ويمكن للأنوار أن تتحول أيديولوجيا لمخادعة الجماهير إذا لم نأخذ بالاعتبار أن الوضع الحالي في القرن الواحد والعشرين هو غير وضع القرن الثامن عشر، وأن الموقف الليبرالي لا يستقيم بمجرد طرح أسماء الآباء الشيوعيين والاحتفاظ بالمنطق الستاليني للتفكير. لكن الليبرالية العربية الحالية قد نشأت في رحم الماركسية، وهذه من المفارقات العجيبة أن تتحقق عندنا نبوءة ماركس ولكن بالشكل العكسي. هل يمضي الوعي الحداثي إلى أبعد من حلول القرن الثامن عشر أم يظل يطرح قضايا اليوم بذلك المنطق، فيكون مصدرا حديثا للاستلاب يضاف إلى المصادر القديمة؟ هل يراجع طرق النظر في القضايا الكبرى ومنها العلمانية ودور المجتمع المدني أم يعيد تكرار نفس المصادرات؟