غدت العلمانية أحد المحاور التي انقسم حولها المثقفون العرب: مدلولاتها، مرجعياتها، سياقها التاريخي، وظائفها، والمساحة الممكن ان تأخذها في جسم الاجتماع السياسي. هناك من بسط المسألة، فنظر الى المجتمع الحديث على انه جسم صلب بثلاثة وجوه متناظرة، وجه سياسي تحكمه الديموقراطية، ووجه اجتماعي يقوم على قاعدة المجتمع المدني، ووجه ذهني تحكمه العلمانية، وآخر نظر الى العلمانية كعقيدة شاملة تحكم السلوك الاجتماعي بمستوياته المختلفة، باعتبار هذه العلمانية المشتقة من "العلم"، بمثابة نظرية علمية ستصبح حاكمة للوعي الاجتماعي، على حساب البعد الرمزي للخيال الاجتماعي، وعلى حساب المقدس! وهناك من أنكر تلك النظرية جملة وتفصيلاً لأنه نظر إليها كعقيدة معادية للدين، وآخرون انتقدوها لأن اصحابها يستنسخون التجربة الأوروبية، من دون ان يدركوا تميّز الاجتماع السياسي العربي - الإسلامي. فإذا كانت المجتمعات الأوروبية قد عانت سيطرة الديني على السياسي، اي سيطرة او هيمنة المؤسسة الدينية "الكنيسة" على المؤسسة السياسية، فأتت العلمانية كدعوة لإزاحة هذه الهيمنة، فإن التجربة العربية الإسلامية، رأت العكس تماماً، اي واجهت سيطرة المستوى السياسي، على الهيئة الدينية، في حال وجودها، وقد تكرّست هذه العلاقة في زمن العثمانيين، عندما سمح السلاطين العثمانيين لأنفسهم، بتعيين "شيخ الإسلام" وبالتالي حاولوا عبر سيطرتهم على هيئات العلماء المرتبطة بالقضاء والإفتاء اخضاع الديني للسياسي، بقدر ما كانوا يخضعون المجتمع نفسه للدولة، هذا الوضع فرض ان يكون المدخل المناسب للحداثة هو تحرير المجتمع والدين نفسه من سيطرة الدولة، عبر الديموقراطية. البعض الثالث وجد ان الإشكالية برمتها مفتعلة من المثقفين مأخوذين بالتجربة الأوروبية، من دون موقف نقدي تاريخي، فالإسلام يفتقر اساساً الى وجود مؤسسة دينية تتوسط العلاقة بين الفرد المسلم وربه، أو بينه وبين الدولة، وبالتالي لا ضرورة لطرح المسألة الأوروبية. ويكفي العرب ان يطرحوا على انفسهم ضرورة إمساك الناس بمصيرهم، وأن تعود لهم المرجعية في تقرير الشأن السياسي، فضلاً عن الشأن الخاص، لكي يقرروا عبر آلية العمل الديموقراطي القانون المناسب لهم، عبر تطور اجتماعهم السياسي، من دون الحاجة الى عقائد مسبوكة مسبقاً. وهذا الطريق نفسه يتضمن في ما يتضمن إزاحة اية وصاية نخبوية على المجتمع، إن كانت تستقي من الدين مصادرها، أو من العقيدة العلمانية مرجعاً. كما ان السلطة العربية الراهنة هي، في شكل عام، سلطات دنيوية دهرية، تستخدم الدين احياناً للتقرب من الجمهور، من دون ان تراعي حرمة اي دين عندما يتعلق الأمر بمصالحها، محافظة على التقليد العثماني، بالإمساك والإشراف وتعيين مؤسسة الإفتاء والأوقاف، بينما هي تقتبس القوانين المدنية والدستورية، التي تنطلق من عدم التمييز بين مواطنيها على اساس اللون او الدين او الجنس، وما ينقص هذه الدولة ليس المزيد من العلمانية بل جرعة من الديموقراطية تحفظ للناس كرامتهم، وتجعلهم المرجع الأول والأخير للسياسة. اما في شأن الميول الدنيوية العلمانية للأفراد والمجتمعات، فهي ميول واقعية تاريخية، اكدت نفسها حتى في ظل المجتمعات التي هيمن عليها الوعي الأسطوري، ناهيك عن الديانة التوحيدية. ولم يتنكر الإسلام لهذه الميول الدنيوية، بل اعطاها وزنها، بعد ان وضع حدوداً للحلال والحرام، والمباح. وعلى رغم إحاطة الأمر الإلهي، في الأديان التوحيدية، لموجودات العالم، وللسلوك الإنساني، فإن دائرة الدنيوي ظلت تؤكد نفسها، بل وتتسع باستمرار على حساب دائرة المحرم. فالقول الديني يحدد ما هو عام، اما التفاصيل فيتركها للمبادرة الإنسانية. فقبالة القول الديني، الذي يعبر عن المعنى الرفيع للحياة الاجتماعية، هناك اقوال عدة: عملية وتقنية بمنأى عنه فالملاكون، والحرفيون، وأصحاب السياسة، والعسكر لا يجدون في هذا القول جواباً للمسائل التي تطرحها ممارستهم العملية. فضلاً عن المعارف والعلوم التي تشكلت خارج منظومة الفكر الديني. ولسوف تزدهر ظواهر سياسية بشرية، مرتبطة بالدولة والسلطان والسياسة وبالآداب والفنون والعلوم ايضاً. تلك النوازع العلمانية الدنيوية، المتجهة الى الأرض، والمستهدفة سعادة الإنسان في هذا العالم، وأزاحت القداسة عن الدولة ورجالها، ستقود في حصيلتها النهائية الى إرجاع السياسة الى الجماعة، والى تأكيد الثقة بالعقل والعلم من دون ان تنال من قيمة العوالم الرمزية للإنسان، او تبطل شرعية الإيمان كما ان الإيمان نفسه لا يتعارض معها. وهي قد اكتسبت شرعيتها بفعل سير الواقع قبل ان تتحول الى عقيدة في العصر الحديث، ويتم التنظير لها، والتفكير فيها، بطرق وتفسيرات مختلفة، بعد ان اتسع مجالها وحدودها. لكن هذه النزعة العلمانية الواقعية عندما تتعدى عن تواضعها، وتفسيرها المقبول، وتنقلب الى مذهب عقيدي دوغمائي، وتتحول الى "دين بديل" عصبوي، شبه وثني، له إكليروسه ورموزه وطقوسه، مستخدمة لغة العلم في غير مكانها، ستواجه المصاعب، في الوقت الذي تخلق المشكلات للاجتماع السياسي، وتفقد بالتالي دورها التحرري مثلما جرى عليه الأمر في الدولة السوفياتية، والدولة الفاشية. وإذا كانت العلمانية، في العصر الحديث، قد تميّزت بكونها نزعة تعي مقاصدها، وتعرف متطلباتها التاريخية، وشروط نجاحها، وأيضاً شططها وتطرفها، إلا انها كانت مصاحبة ضمنياً للسلوك الإنساني، ونشاطه على مر التاريخ. واتسعت مساحة فاعليتها طرداً مع التطور التاريخي، في المقابل فإنها عندما تتحول الى عقيدة عصبوية علمانوية تتحول الى عقبة امام النشاط التلقائي للبشر، وأمام الروح النقدية، والتواصلية للعقل، وتدفع باتجاه التحارب الاجتماعي، وتدعم التوجه المعادي للديموقراطية، كما جرى في التجربة السوفياتية، والفاشية، والتجربة الكالية، او البورقيبية في تونس. فكما قال غارودي بحق، في كتاب الأصوليات المعاصرة: إن العلموية حيث استندت الى التصور الماضوي الميت للعلم، إنما صارت شكلاً من الشعوذة، او بالأحرى شكلاً من اصولية توتاليتارية، قائمة على المصادرة القائلة: "ان العلم يمكنه حل المسائل كلها، وإن ما لا يمكن للعلم ان يقيسه او يختبره، هو شيء غير موجود. والحال ان هذه الوضعية استبعدت ارفع ابعاد الحياة: الحب، الإبداع الفني، الإيمان". * كاتب سوري.