القائد الذي ألهمنا وأعاد لنا الثقة بأنفسنا    النفط يقفز 3%    البرلمان الألماني يبحث الأربعاء تفشي الحمى القلاعية في البلاد    قوة نمو الوظائف الأمريكية تزيد الشكوك إزاء خفض الفائدة مجددا    أمريكا وبريطانيا توسعان عقوبات كاسحة على صناعة النفط الروسية    البيت الأبيض: بايدن سيوجّه خطابا وداعيا إلى الأمة الأربعاء    الإعاقة.. في عيون الوطن    ابعد عن الشر وغني له    أمين الطائف هدفنا بالأمانة الانتقال بالمشاركة المجتمعية للاحترافية    فريق جامعة الملك عبدالعزيز يتوّج بلقب بطولة كرة السلة للجامعات    "لوريل ريفر"، "سييرا ليون"، و"رومانتيك واريور" مرشحون لشرف الفوز بلقب السباق الأغلى في العالم    العروبة يتعاقد مع العراقي عدنان حمد لقيادة الفريق فنيّاً    هاو لم يفقد الأمل في بقاء دوبرافكا مع نيوكاسل    مهاجم الأهلي: قدمنا مباراة كبيرة واستحقينا الفوز على الشباب    رئيس مصر: بلادنا تعاني من حالة فقر مائي    ما بين الجمال والأذية.. العدار تزهر بألوانها الوردية    ضبط يمني في مكة لترويجه (11,968) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي    «الغذاء والدواء» تحذّر من منتج لحم بقري لتلوثه ببكتيريا اللستيريا    «سلمان للإغاثة» يوزّع 2.910 من السلال الغذائية والحقائب الصحية في حلب    لاعب الشباب يغيب عن مواجهة الأهلي لأسباب عائلية    بالشرقية .. جمعية الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم"    مجموعة stc تمكّن المكفوفين من عيش أجواء كرة القدم خلال بطولة كأس السوبر الإسباني    ملتقى الشعر السادس بجازان يختتم فعالياته ب 3 أمسيات شعرية    «حرس الحدود» بعسير ينقذ طفلاً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    الشيخ طلال خواجي يحتفل بزواج ابن أخيه النقيب عز    عبرت عن صدمتها.. حرائق كاليفورنيا تحطم قلب باريس هيلتون    أنشيلوتي يبدي إعجابه بالجماهير.. ومدرب مايوركا يعترف: واجهنا فريقًا كبيرًا    جوزيف عون يرسم خارطة سياسية جديدة للبنان    مزايا جديدة للمستوردين والمصدرين في "المشغل الاقتصادي السعودي المعتمد"    خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الأحاديث الموضوعة والبدع المتعلقة بشهر رجب    "الزكاة والضريبة والجمارك" تُحبط محاولتي تهريب أكثر من 6 كيلوجرام من "الشبو"    لإنهاء حرب أوكرانيا.. ترمب يكشف عن لقاء قريب مع بوتين    فن الكسل محاربة التقاليع وتذوق سائر الفنون    «عباقرة التوحد»..    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    «سلام» يُخرّج الدفعة السابعة لتأهيل القيادات الشابة للتواصل العالمي    الصداع مؤشر لحالات مرضية متعددة    5 طرق سهلة لحرق دهون البطن في الشتاء    ماذا بعد دورة الخليج؟    الحمار في السياسة والرياضة؟!    وزارة الثقافة تُطلق مسابقة «عدسة وحرفة»    كُن مرشدَ نفسك    سوريا بعد الحرب: سبع خطوات نحو السلام والاستقرار    أسرار الجهاز الهضمي    المقدس البشري    الرياض تستضيف الاجتماع الوزاري الدولي الرابع للوزراء المعنيين بشؤون التعدين    جانب مظلم للعمل الرقمي يربط الموظف بعمله باستمرار    الألعاب الشعبية.. تراث بنكهة الألفة والترفيه    أفضل الوجبات الصحية في 2025    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية ال8 لمساعدة الشعب السوري    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    ولي العهد عنوان المجد    أمير المدينة يرعى المسابقة القرآنية    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل مستمر حول العلمانية في تونس ... وبقاء الدولة خارج صراع التيارات
نشر في الحياة يوم 21 - 11 - 2000

إذا كان النزاع حول العلاقة بين الدين والدولة في مشرق الوطن العربي يعود الى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فإن الظروف المختلفة لبلاد المغرب أجلت طرح هذه القضية. كما ان سلطة الدولة الوطنية المستقلة تجنبت في معظم الحالات الخوض في موضوع العلمانية اللائكية لاعتبارات تتعلق بالحفاظ على وحدة الصف الوطني أو اعتماد الدين مصدراً اساسياً للمشروعية السياسية وفي تقديرنا انه يمكن التمييز بين ثلاث لحظات في تاريخ الجدل الذي عرفته تونس حول العلمانية: لحظة أولى تزامنت مع الحصول على الاستقلال واعداد الدستور، ولحظة ثانية توافقت مع صعود الحركة الاسلامية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات ودخولها في مواجهات مع السلطة ومع أقصى اليسار، ولحظة ثالثة بدأت مع التحول في السابع من تشرين الثاني نوفمبر 1987 على رأس الدولة وسعي السلطة وشريحة من النخبة المثقفة لايجاد صيغة جديدة للتعامل بين الدين والدولة.
جرى النزاع دوماً حول العلمانية وحول علاقة الدين وبالدولة والدين بالسياسة وحول تطبيق الشريعة ولم تكن هذه سوى مفردات وعناوين لجدل لا يكشف فعلاً عن رهاناته الحقيقية التي تتمحور حول تنظيم المجتمع والدولة، رهانات تعلقت أولاً بمشروع التحديث وطبيعة المجالات التي ينبغي أو لا ينبغي أن يطالها. مجالات كالعائلة والعلاقات بين الجنسين والتعليم والقضاء والدين ذاته. وهي رهانات تعلقت ثانياً بطبيعة العلاقة بين الدولة والنخب والمجتمع: أو من يحق له ان يحدد أو يوجه الخيارات المجتمعية والقيم والقواعد التي تنظم التعايش.
وبوسعنا ان نتطرق الى الجدل الذي شهدته تونس عبر ثلاث مراحل تضعه أولاها في السياق الاجتماعي والتاريخي، وتقدم المرحلة الثانية قضاياه ومفرداته في اطار تصنيف الاتجاهات المختلفة التي عبرت عن موقفها، وتبرز الثالثة ما كشف عنه هذا الجدل كما تشير الى بعض أسباب تهافت الطروحات العلمانية في ظل الواقع الملموس لعلاقة الدين بالدولة.
على غرار بقية أقطار المغرب عرفت تونس تأثير تيار الجامعة الاسلامية منذ منعطف القرن العشرين، وبالمقابل لم يتمكن التيار القومي العربي والأطروحات العلمانية التي انتعشت في المشرق من ايجاد موطئ قدم فيها قبل منعطف الستينات.
من جهة ثانية كانت النزعة القطرية تشق طريقها وتعبر عن نفسها من خلال المنافسة بين خريجي الجامعة الزيتونية أصحاب الميول العربية الاسلامية والنخبة العصرية الأشد ميلاً الى تأكيد الانتماء لأمة تونسية.
هذا التطور انعكس غداة الاستقلال في الجدل الذي شهده المجلس القومي التأسيسي اثناء عملية مناقشة مشروع الدستور، وكرّس البند الذي يقدم تونس كدولة "لغتها العربية ودينها الاسلام" عزم القيادة البورقيبية على اختزال العلاقة مع الجماعة العربية الى علاقة لغوية والابتعاد عما لا يمكن ان يوحي به بعض الصيغ من التزام بالشريعة. والمشروع البورقيبي لبناء دولة قومية حديثة ونظام اجتماعي قريب من النموذج الغربي المتقدم كان يفترض في آنٍ واحد التباين مع الدعوة القومية العربية الموسومة بالرومانسية، وتطوير المؤسسات الاسلامية الموروثة والموسومة بالتخلف، واقتراح قراءة للاسلام تتلاءم مع متطلبات العصر وقيم العقلانية.
صدرت أول مطالبة علنية لطرف وطني بتنظيم علاقة الدين بالدولة مباشرة إثر حصول تونس على استقلالها الداخلي في اعلان لفرع الحزب الدستوري التونسي في فرنسا يقترح وضع نظام تونسي خاص علماني. كان لهذا الاعلان الصادر عن الطلبة الموالين للحزب وقع كبير اذ تجند الوسط الزيتوني لمقاومته ممثلاً بالخصوص في شيخ الاسلام المالكي وكبار العلماء وقيادة الحزب الحر الدستوري القديم المناوئة لبورقيبة. ويمكن اجمال اعتراضات علماء الزيتونة كما عبرت عنها كتاباتهم آنذاك في النقاط التالية:
-الحكومة الاسلامية في وضعها الصحيح تشرف على مصالح الدنيا والدين والدين الاسلامي لا ينحصر في الاعتقادات والعبادات، بل يتناول ما يحتاج اليه الفرد والجماعة والدولة من النظم والقوانين.
- اذا حادت الحكومة عن الوصايا التي جاء بها الدين فلا طاعة لها.
- لهذه الحكومة ان تختار بين ما اختلف في شأنه الفقهاء، اما ما ورد من الشارع على وجه لم يختلف فيه العلماء فلا يصح ان تمسه يد التغيير.
وسواء كان موقف الطلبة الدستوريين تعبيراً عن قناعة بعض الشباب المأخوذ بالتجربة العلمانية الفرنسية أم بالون تجربة أُطلق بإيعاز من القيادة البورقيبية، فإن حدة ردود الفعل عليه دفعت بقيادة الدولة الوليدة الى توخي موقف حذر يأخذ في الاعتبار التلقي السلفي لدعوة يُفهم منها ارادة التنصل من الإسلام كمقوم أساسي للهوية الوطنية، الشيء الذي يفسر اختفاء مصطلح العلمانية اللائكية من الخطاب الرسمي الى يومنا هذا.
بيد ان ترك هذا الشعار لم يؤد الى تخلي القيادة البورقيبية عن مشروعها المجتمعي، من هنا جاءت فترة النصف الثاني من الخمسينات وبداية الستينات بجملة من الاصلاحات الجذرية التي تكرس علمنة فعلية، منها إصدار تشريع يمنع تعدد الزوجات والتطليق من جانب الزوج ويبيح التبني، وإلغاء التعليم الزيتوني واعتماد الحساب في تحديد المواسم الاسلامية، ودعوة بورقيبة العمال والطلبة والجنود لإفطار رمضان لغرض انجاح "معركة الخروج من التخلف"، وهي اجراءات ومبادرات أثارت نقمة رجال الدين وخريجي الزيتونة وستكون لاحقاً من أبرز مآخذ الحركة الاسلامية على النظام.
وفي ظل ركون معظم رجال الدين الى الانزواء والصمت الغاضب، وهيمنة خطاب السلطة حول الدين بوصفه أوهاماً ستنجلي مع بزوغ أنوار الفكر المادي، استمرت الحركة الاسلامية متقوقعة على خطابها الغاضب على نظام تعتبر انه تحدى الاسلام واعتدى على مؤسساته ورجاله.
وعلى رغم ان هذا الخطاب الاسلاموي لم يفتأ يدين العلمانية طيلة السبعينات، فإن تسييس الحركة الاسلامية لاحقاً ودخولها في مواجهات مع السلطة ومع اليسار الطلابي أثار جدلاً. وكذلك وفر ظهور عدد من الصحف المستقلة أو المعارضة، منابر للحوار. كما تجدر الملاحظة ان مضامين الخطابات في بداية الثمانينات لم تختلف عن تلك التي انتجت بعد تحول السابع من نوفمبر، وان كانت هذه الأخيرة تضمنت عناصر جديدة سواء على صعيد تطور المواقف أو في ما يتعلق بطبيعة الاطراف المتداخلة التي كانت مقتصرة على المثقفين الماركسيين والاسلاميين.
أعطت نهاية العهد البورقيبي الأمل في تحقيق وفاق وطني حول القضايا الخلافية، وظهر خطاب جديد من داخل السلطة ومن خارجها يدعو الى المصالحة بين الدولة والاسلام واعادة الاعتبار للمؤسسات والرموز الاسلامية، واتخذت قيادة الدولة اجراءات قدمت بوصفها تجسداً لهذه الرغبة على غرار اذاعة الآذان وتحديد المواسم الاسلامية على أساس الرؤية مع الاستئناس بالحساب. وفي حين دعمت أطراف عدة هذا التوجه فإن أطرافاً اخرى من النخبة المثقفة ابدت تخوفها من ان تكون بعض التنازلات للرأي العام المسلم نذير تراجع في "المكاسب التقدمية والعقلانية" للمرحلة السابقة، وكانت دعوة بعض كبار المثقفين المعروفين بانتسابهم للحداثة الى جعل "الاسلام دين الدولة" بمثابة ناقوس الخطر فانبرت اطراف أخرى للرد عليها وللمطالبة بالفصل بين الدين والدولة، مثيرة بدورها ردود فعل مناوئة أو موالية، ومغذية لجيل وجد في مستجدات الحياة السياسية أسباباً للاستمرار حتى أوائل التسعينات.
القراءة السريعة لمفردات الجدل تقود الى الظن بأنه انحصر في ثنائية دولة علمانية/ دولة اسلامية. والواقع ان أغلب الأطراف المساهمة في الصراع الفكري تعاملت معه على هذا الاساس. الا ان قراءة أخرى متأنية تظهر ان الأمر على خلاف ذلك، وان ثمة مواقف تتوسط القطبين المتعارضين، ما يجعل بالامكان التمييز بين ثلاثة تيارات كبرى موزعة على اتجاهات فرعية، وهي: التيار العلماني والتيار الديني والتيار الرافض لكل من الدولة العلمانية والدولة الدينية.
نتبين ضمن التيار العلماني توجهاً علمانياً كفاحياً ومرجعية ماركسية عبرت عن مواقف كوادر حزب العمال الشيوعي وعديد الماركسيين المستقلين. يعتبر هؤلاء انفسهم أنصار التقدم والديموقراطية وحرية المرأة، ويرون في أنصار الدولة الدينية "أعداء للتقدم وحرية التفكير ودعاة العودة الى ممارسات مهينة للذات البشرية كتعدد الزوجات وحجب النساء وممارسة الجلد وقطع الأيدي" ويعتمد أنصار هذا التيار ان الدولة التونسية لم تكن قط علمانية وان اعتمدت التشريع الوضعي وهم يطالبون بفصل الدين عن السياسة، ويرون في العلمانية شعاراً مرحلياً للتخلص من "الأوهام الدينية" وحسب.
وهناك توجهان مختلفان للمطلب العلماني وهما: الدعوة الى الحياد العقائدي للدولة والدعوة الى الحياد السياسي للدين. وهنا يتم الطرح من موقع الايديولوجيا الليبرالية حتى وان كان أبرز هؤلاء الدعاة آتين من صفوف الماركسيين. وتقوم فكرة الحياد العقائدي للدولة على الفصل بين الدولة التي ينبغي ان تكون شيئاً عمومياً والعقيدة التي ينبغي ان تبقى مسألة شخصية، بحيث تستوي عقيدة الالحاد اذا أصبحت رسمية وفتحت الباب لمصادرة الحريات الدينية، مع العقيدة الدينية عندما تتبناها الدولة. الا ان فكرة التحييد السياسي للدين وجدت قبولاً اكثر لدى النخب العلمانية، وجدت تجسيداً لها في بيان اصدره اكثر من 230 جامعياً. وهذا الاتجاه ينبذ تقديم العلمانية المكافحة للمرحلة البورقيبية اذ يشيد ب"المكاسب" المتمثلة في ارساء دولة حديثة و"اختيارات تربوية قائمة في منطلقاتها على مبدأ العقلانية" اضافة الى "مجلة الاحوال الشخصية" التي "تمثل مكسباً للمرأة التونسية والمجتمع بأسره". وهذا التيار لم يطرح فصل الدين عن الدولة وانما عن السياسة. فالمهم في نظره ان لا تقع أدلجة أو يتم تسييس الدين، وان يبقى هذا الأخير رابطة مقدسة تتعالى على الصراعات الدنيوية والسياسات الظرفية بينما يتم الحفاظ على الطابع الوضعي للسياسة ونظام الدولة.
ولكن على رغم اختلاف صيغ التعبير عن المطلب العلماني تبرز جملة من الرهانات المشتركة وفي مقدمها الدفاع عن مكتسبات حرية المعتقد ومجلة الاحوال الشخصية والدعوة الى تعزيزها بإقرار المساواة في الميراث، وكذلك التصدي لمشروع الاسلاميين المتهمين بتكفير من يخالفهم الرأي والعقيدة والرجوع بالمرأة الى وضعية العبيد.
بالنسبة الى موقف علماء الدين ومناضلي الحرية الاسلامية نعثر على قاسم مشترك من خلال بيان صدر عن سبعين شخصية يمثلون جانباً من علماء الدين والقضاة والمحامين يصف بالبطلان "الدعوة الى تخلي الاسلام عن تنظيم الحياة الانسانية بدعوى ان الدين أسمى من الدنيا وان الخلط بنيهما يسيئ الى الدين" فالاسلام جاء للاصلاح الاجتماعي، ولا تناقض بين العمل بالمبادئ الاسلامية وبين اعتناء المسلمين بشؤون الدولة و"لا سبيل الى التفرقة بين نظام الدين ونظام الحياة" فتحقيق رسالة الاسلام يتطلب "الحكم الديني" أو "الحكم الاسلامي".
وحول مسألة تطبيق الحدود ومخالفتها للمبادئ الواردة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان العقوبات الجسدية مثلاً يرد رجل الدين بأن "تطبيق الحدود لا يتنافى مع حقوق الانسان لأن الحد مكافأة المجرم وكل من يرى في إيقاف التعدي منافاة لحق الحرية يريد بشكل أو بآخر نشر الفوضى واستشراء الفساد". وبالنسبة الى مجلة الاحوال الشخصية التونسية يسوق رجال الدين اعتراضات عدة تختلف في مداها ومبرراتها. ويمكن القول اجمالاً ان هناك اعتراضاً على بعض بنودها.
اما عن تعدد الزوجات فيتمسك بعضهم بالقاعدة الفقهية التقليدية "لا اجتهاد مع النص". بينما يقر البعض الآخر بامكانية الاجتهاد والنظر مع الاعتراض على المنع المطلق الذي لا يراعي "حالات الضرورة"، ويعتبر ان "كل ما جاء في المجلة مأخوذ من الاسلام" من دون أن يقود ذلك الى التعامل معها كمكسب مقدس.
ولا يختلف المثقف الاسلامي عن عالم الدين بخصوص شمولية الاسلام ورفض التفريق بين الدين والدولة، إلا انه يتميز عنه بالدعوة لإعادة بناء الدولة الاسلامية.
فخلال السبعينات، وفي ظل الاسر الذي مارسته مقولات المودودي وقطب، كانت مقاومة العلمانية تقتضي رفض كل العقائد والنظم التي هي "من صنع البشر" رفضاً مطلقاً، بما في ذلك مفاهيم "الحرية" و"الديموقراطية". كما اعتبرت قيادات الجماعة الاسلامية ان الشرعية سقطت منذ سقوط الخلافة، وما لم تقم دولة اسلامية فإن المسلمين جميعاً مقهورون. بيد ان منعطف الثمانينات شهد مراجعة لهذا الموقف الأول الذي يقرن الديموقراطية بالضلال.
فالحركة منذ الثمانينات تقترح صيغة تقر بسيادة الأمة مع تقييدها بسيادة الوحي، وهي تعلن قبولها بالتعايش مع العلمانية والتنافس معها، من دون أن يعني ذلك قبولا بالعلمانية.
وبوسعنا ان ندرك اهمية هذا التطور - الذي له ما يضارعه على مستوى الموقف من مجلة الأحوال الشخصية - اذا قسناه بمواقف السلفية المتشددة، ممثلة بحزب التحرير الاسلامي الذي شارك أنصاره في الجدل بمواقف تعتبر العلمانية "جاهلية والحاداً" والديموقراطية "كفراً" لأنها تجعل السيادة للشعب بخلاف الاسلام الذي جعلها للشرع.
الجدل حول العلمانية أبرز كذلك وجود اطراف أخرى تتباين مع كل من العلمانية والسلفية الى جانب نقدها للتجربة البورقيبية، ضمن هذا التيار الثالث نجد اتجاهين رئيسيين. الأول يمثله التجمع الاشتراكي التقدمي. هذا الحزب أسسته عناصر كانت تنتمي لأقصى اليسار ثم انخرطت في نقد جذري للماركسية بسبب موقفها من مسألة الحريات الديموقراطية ومن الدين، ودعت الى الارتباط بالموروث الثقافي العربي الاسلامي. وفي المقابل تتباين كتابات ومواقف قادة التجمع الاشتراكي مع المشروع الاسلامي حول المسألة الديموقراطية وحق الاختلاف. أما بخصوص العلمانية فتتراوح المواقف بين القبول بعلمانية متصالحة مع الاسلام، وبين القول بأن لا مكان لها في مجتمع اسلامي.
اما الاتجاه الثاني الذي ينطق باسمه رموز ما يسمى بالاسلام المستنير او المجدد، فيعتبر ان معالجة علاقة الدين بالدولة علمانياً خيار مصطنع منقول عن الغرب، ذلك انه لم توجد ابداً مؤسسة دينية في الاسلام تنطق باسم الله وتحتكر السياسة والفكر، وفي الوقت ذاته يرفض رموز التيار الاسلامي المستنير الدولة الدينية: "فقد الغى مبدأ ختم النبوة امكان اي حديث باسم الحق المطلق، وختم النبوة يعني انقطاع القدسية عن اي مشروع بشري، وتقرير مدنية السلطة في حياة المسلمين".
وسط هذا الجدل العقائدي نلاحظ اشتراك الطرفين في مقولة عدم فصل الاسلام بين الدين والدولة وفي اعتماد التجربة العلمانية الفرنسية كنموذج حصري للعلمانية. المقولة الاولى لا تأخذ في حسابها التطور التاريخي لعلاقة الدين بالسياسة في الفضاء الاسلامي.
اما بالنسبة إلى النموذج الفرنسي للعلمانية فهو يبقى فريداً من نوعه واستثنائياً حتى في الاطار الاوروبي: وفي اغلب الحالات وعلى رغم تنسيب او اضعاف سلطة المؤسسات الدينية تم الحفاظ على أشكال عدة من الارتباط بين الدين والكنيسة، بل ان الدولة في البلدان الاسكندنافية وبريطانيا تبقى منتمية دينياً، سواء من خلال الاعتراف بكنيسة قومية او بدين رسمي للدولة.
مع ذلك يبقى الطرح السليم للمشكلة مستعصياً طالما اقتصر على المجالات الفكرية المجردة او المقارنات او المفاضلة بين هذه الصيغة او تلك من العلاقة بين الدين والدولة. فالاحتكام يكون الى الواقع اولاً، والواقع ان الأزمة اليوم، في ظل الدولة الحديثة، لا تكمن في سيطرة السلطة الدينية على الدولة وانما في سيطرة الدولة على الدين والهوية الدينية.
في ظل هذه الدولة وجدت سيرورة التحديث ترجمتها في تطور متفاوت الاهمية للعلمنة الفعلية للمؤسسات والتشريع، وهو تطور ظاهر في تونس أكثر منه في الاقطار العربية الاخرى، الا ان السمة الاساسية لتطور علاقة الدولة بالدين هي سعيها لتأميمه او بالاحرى "دولنته" بالاضافة الى مسعاها المستمر لتوظيف الشرعية الدينية وتدجين الهيئة الدينية. من هنا نفهم عدم تدخل ممثلي الطرف الرئيسي اي الدولة في الجدل الدائر حول العلمانية، فمعركة فصل الدين عن الدولة ليست معركتها.
* كاتب تونسي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.