الأهميّة التي منحتها الأسرة الدوليّة ووسائل الاعلام العالميّة للانسحاب الاسرائيلي من غزّة استثنائيّة. فمن خلال متابعة هذا الحدث بدهشة من رام الله خلال الأسبوع الماضي، أُعجبت بالدعاية التي أحدثتها هذه الخطوة الاسرائيليّة. وبالطبع جاء القرار الاسرائيلي"الأحادي"لإخلاء مستوطنات غزّة والذي تمّ اتخاذه من دون استشارة القيادة والشعب الفلسطينيَين كما لو كانوا يعيشون في الصين، نتيجة نقاش اسرائيلي داخليّ حول المصالح الاسرائيليّة. ومنذ 14 آب أغسطس الجاري، نزل الى شوارع غزّة أكثر من 900 صحافيّ توجه معظمهم الى المستوطنات فقامت محطات التلفزة العالميّة والاذاعات والصحف بتغطية كلّ كلمة أو تحرّك أو تفسير يدلي به الجانب الاسرائيلي. وتصدّر الانسحاب من غزّة الأخبار على مختلف محطات التلفزة والصفحات الأولى في كلّ الصحف. واللافت أنّ وسائل الاعلام الغربيّة نقلت خبر إخلاء المستوطنات بتحيّز للجانب الاسرائيلي. وكان تصوير شبكة"سي أن أن"لصراع مأسوي بين قوّات اسرائيليّة محطّمة القلوب ومستوطنين يذرفون الدمع لافتاً للنظر بشكل كبير. كما استخدمت الشبكة الاخباريّة ذاتها جملة"انتزعوا بالقوّة"للتعبير عن مشاهد رحيل المستوطنين أكثر من ستّ مرات في عشر دقائق. لقد شاهدنا هذا المشهد"الانساني"مع تقارير عن نقاشات حادّة في الكنيست الاسرائيلي وتظاهرات مناهضة للحكومة. ورأينا شارون متجهّم الوجه يوجّه خطاباً الى شعبه. لقد نُقل الحدث كما لو كان دراما شكسبيرية أو تراجيديا يونانيّة بإدارة جيّدة وتخطيط متأنٍّ جرت أحداثها على المسرح الاسرائيلي. أمّا الهدف من هذه الدراما فيعكس رغبة شارون بجمع أكبر حصّة ممكنة من الرصيد السياسي من دون"تسليمه بفكرة السلام"، وهو عرضٌ صُمّم خصّيصاً لاقناع الولاياتالمتحدة والرأي العام العالميّ بصدقه في البحث عن تسوية في مقابل شروط مستحيلة. ويبقى سبب الحماسة الفلسطينيّة التي رافقت هذه المبادرة الاسرائيليّة الصرف غير واضح. لقد بذلت السلطة الفلسطينيّة جهداً اعلاميّاً ضخماً قبل هذا الحدث وأثناءه. وتمّ توظيف كلّ صحافيّ وخبير اعلاميّ وكلّ متحدّث بصفة رسميّة ووزير للمساعدة في الجهد الاعلامي. وذهب معظم هؤلاء الى غزّة كما فعلت أكثريّة اعضاء الحكومة الفلسطينيّة التي انتقلت الى هناك في بداية شهر آب الجاري. وتمّ إنشاء مركز اعلامي في غزّة يقوم ببثّ يومي ملخّص ومؤتمرات صحافيّة واتصالات مع صحافيين متوافرين لاجراء مقابلات بالعربيّة والانكليزيّة. واعترافاً بأهميّة هذا الجهد، افتتح الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس المركز الاعلامي الجديد في غزّة في 14 أغسطس الجاري. وخلال فترة عملي هنا، لم أرَ حملة اعلاميّة مماثلة تناولت أيّ موضوع آخر. وفي الوقت نفسه نُظّمت المسيرات والاحتفالات في غزّة وامتدّت أياماً عدة احتفالاً بالانسحاب الاسرائيلي. وصُنعت أعلام خاصة وملصقات كبيرة كُتب عليها"غزّة اليوم والضفّة الغربيّة والقدس غداً"ووُزّعت في كل المناطق. كما استُعملت الأموال الدولية لتمويل هذه الجهود الدعائيّة. هل تعتبر الخطوة الفلسطينيّة حكيمة ؟ وهل كان على الجانب الفلسطيني أن يظهر في موقف داعم للصورة التي حاولت اسرائيل ترويجها عن نفسها كدولة تتلوّى من الألم وتقدّم التضحيات في المسائل الأخلاقيّة والانسانيّة؟ ألا يساهم الفلسطينيّون من خلال وجودهم الكثيف وخططهم الاعلاميّة في تضخيم معنى التحرّك الاسرائيليّ؟ ألا يعكس ردّ الفعل الفلسطيني لما يحدث في غزّة ما يجب أن يحصل لدى انتهاء الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي وليس التوقّف عند هذه الخطوة غير الكاملة التي اتّخذت من جانب واحد؟ فبعد كلّ شيء، لطالما حذّرت القيادة الفلسطينيّة باستمرار وعلى نحو صائب من تحميل الانسحاب من غزّة أكثر من حجمه، وشدّدت على أنّه في مصلحة اسرائيل غير المعلنة والخطرة أن تقوم هذه العملية بتشكيل غطاء لخطط اسرائيل المتلازمة بتوسيع مستوطنات الضفّة الغربيّة والاستمرار ببناء الجدار الفاصل. في الواقع، أعلن وزير الخارجيّة الاسرائيلي شاؤول موفاز في 15 آب أنّ اسرائيل قد تزيد مستوطنات الضفّة الغربيّة. واذا زرتم الضفّة الغربيّة، تستطيعون مشاهدة توسّع هذه المستوطنات. ولطالما ردد شارون أنّ الانسحاب من غزّة سيساعد اسرائيل على توسيع حدودها الشرقيّة لجهة الضفّة الغربيّة. ورؤية متابعة بناء الجدار تعادل في قساوتها رؤية العمّال الفلسطينيين أنفسهم يقومون ببنائه بدافع من الفقر والعوز. إضافة الى هذا، لم تقدّم اسرائيل أي التزام برفع يدها عن حدود غزّة. وفي المقابل، قد يمتدّ هذا الوضع شهراً أو ربما أكثر. والأسوأ أنّ هناك فلسطينيين محاصرين داخل المستوطنات يواجهون خطر نفاد الطعام والمياه. وترفض اسرائيل أن ترخي قبضتها عن معبر رفح - مصر وتقترح تدابير تطيل إحكام سيطرتها، وكانت آخر التدابير إعادة تنظيم العبور الى الطرف الجنوبي-الشرقي حيث تلتقي غزّة واسرائيل ومصر. وفي حال رفض الفلسطينيّون ذلك، سيقوم الجانب الاسرائيلي بالتصعيد من خلال إبطال التسوية حول ضريبة الاستيراد المتّفق عليها عام 1995 وهذا ما قد يؤدّي الى نتائج اقتصاديّة خطرة على غزّة. فهل كانت الاحتفالات على هذه الوتيرة مناسبة؟ خلال زيارتي الأخيرة للقطاع، استطعت أن أفهم الراحة التي شعر بها سكّان غزّة وتحرّرهم من نقاط التفتيش. فتقسيم القطاع المحدود المساحة أصلاً 364 كلم جعله يشبه المزيد من الأجزاء المتناثرة التي تنتشر فيها نقاط التفتيش. وعلى مدى خمسة اعوام، عجز سكان غزّة عن زيارة أصدقائهم وأقربائهم خارج القطاع وحوصروا وحدهم في الداخل. أمّا أكثر نقاط التفتيش سوءاً حاجز"أبو حولي"الذي يُغلق خان يونس ورفح. أقفلته القوّات الاسرائيلية فجأة بينما كنت أحاول العبور وهذا ما يحدث غالباً من دون سابق إنذار. فانتظرنا ساعات في زحمة السير وتحت أشعّة الشمس الحارقة وكانت تجربة لا تُنسى، ومُنع الجميع من عبور هذا الحاجز فكان علينا الانتظار في السيارات ونحن نتصبّب عرقاً. قد يلقى أيّ تحرّر من كابوس يوميّ كهذا الترحيب في غزّة، ولكن ماذا سيحصل بعد ذلك؟ يعتقد الفلسطينيّون بأنّ أيّ انسحاب اسرائيلي أو إخلاء للمستوطنات هو خطوة جيّدة مهما كانت محدودة أو مشروطة. وفي مسألة غزّة، يشكّل الثبات الفلسطيني ومقاومة الأعمال الاسرائيليّة عاملاً إضافيّاً. ولهذا كان لا بدّ من الاحتفال كمكافأة لهذا الانجاز وتقديراً للجهود. وكان الظهور بمظهر المستجيب للرغبات الأميركيّة أمراً إلزاميّاً آخر. فمنذ وافق الرئيس الأميركي جورج بوش على خطّة الانسحاب الاسرائيليّة في نيسان أبريل 2004 وجد ان غياب الحماسة الفلسطينية فيه بعض الفظاظة. وفي موضع ضعف الدولة الفلسطينية واعتمادها على الحكم الأميركي، لا يستطيع الفلسطينيّون المخاطرة بخسارة المساعدات التي قد يحصلون عليها من خلال إذعانهم للبرنامج الأميركي. وتتلخّص الأسباب الأخرى بكون اسرائيل تتفاوض حاليّاً مع الجانب الفلسطيني فقط حول غزّة بعد خمسة أعوام من القطيعة، ولكن قد تشكّل هذه الخطوة تمريناً لمفاوضات أخرى في المستقبل. ويلقى هذا التحرّك دعماً قويّاً من أوروبا والولاياتالمتحدة ويتوجّب على الفلسطينيين أن يقتنصوا الفرصة. قد يعتقد المرء بأنّ كلّ هذه الاسباب محقّة ومعقولة، لكن الأمور في فلسطين ليست كما تبدو. فهناك دائماً حقائق يجب أخذها في الاعتبار. لقد تعهّد المانحون الدوليّون بتقديم مساعدات لكافة الاحتياجات الفلسطينيّة قبل الانسحاب الاسرائيلي وبعده. ويُمنح التمويل بشكل منفصل للعلاقات العامة ولتكلفة توسيع خدمات الحماية وايجاد فرص عمل وللتنمية. فوحدها وكالة التنمية الأميركيّة US AID وعدت بمنح 51 مليون دولار للمشاريع الزراعيّة. ويعكس هذا التمويل أولويّات المانحين ويجب أن يتمّ صرف الاموال بالطرق الصحيحة. ومتى تمّ فهم هذه المسألة يجب أن يضاعف الإعلام الفلسطيني سرعته نحو هدفه، أي جمع المال وإيجاد فرص عمل. للأسف ستحظى حماسة الفلسطينيين بالانسحاب من غزّة برد فعل مماثل من الرأي العام العالمي بغضّ النظر عن السبب. وسيستنتج الغرب أنّ اسرائيل قامت بمجهود ضخم في سبيل عمليّة السلام على رغم المعارضة المحلّية العنيفة وبأنّ الفلسطينيين يوافقون على قراءة الأحداث على هذا النحو، وتشكّل الأولويّة التي أعطوها لغزّة أكبر دليل على ذلك. ممّا لا شكّ فيه أنّ الاعتراف بالخطوة الاسرائيليّة كان أمراً لا بدّ منه ولكن لم يكن يفترض أن يتوسع بهذا القدر ويأخذ هذا المنحى الكبير. ولو أنّ القيادة الفلسطينيّة العليا بقيت في مقرّها المعهود وتركت الفريق التقني يتولّىاخلاء المستوطنات الاسرائيليّة من غزّة، لأُجبر الصحافيون على قضاء نصف أوقاتهم في رام الله. ولكان هذا الأمر ساعد في تعزيز الرسالة حول التهديد الذي تشكّله الخطط الاسرائيليّة للضفّة الغربيّة والقدس، ولكان ضرب الاستراتيجيّة الاسرائيليّة لاستعمال غزّة بهدف تحويل الانتباه العالمي عن هذه المسائل المهمّة. إنّ مغزى المسألة واضح ولكن من المستحيل اعتماده: الفلسطينيّون واقعون في فخّ التبعيّة والاتكال على الغير وهذا ما يجبرهم على الانصياع للأحكام والتصرّف أحياناً بما يتعارض مع مصالحهم. ويشير هذا الأمر في حد ذاته الى الفشل العميق والاخفاق العربي في مساندة قضيّتهم. مستشارة اعلاميّة مركزها رام الله.