جوسلين صعب مشاكسة دائمة. من يتأمل حجمها الصغير ولطفها في الحديث ولكنتها الضائعة، لا يمكنه أن يتخيل مدى مشاكستها. لكنها ما إن تبدأ الكلام حول السينما أو حول قصة ما حتى تنفجر. منذ صفعة بيار الجميل الشهيرة التي يروى ان شيخ الكتائب صفعها إياها مطلع الحرب اللبنانية حين قصدته وراحت تتهمه بالطائفية وتستجوبه كصحافية. حتى"الصفعة"الغريبة التي وجهها إليها بعض الجمهور المصري إثر عرض فيلمها الاخير"دنيا"في القاهرة، تعرف جوسلين أن هذا قدرها. ولا تتوقف عن خوض القضايا الشائكة. جوسلين صعب، الصحافية قبل ان تكون سينمائية، لها رأي في ما يحدث في لبنان وفي العالم العربي. وهي بعد أن عبرت عن آرائها طويلاً في ميدان الصحافة المكتوبة، امتشقت الكاميرا وأكملت طريقها، في لبنان... وفي مناطق عربية عدة وصولاً الى ... سايغون، حيث كانت ولا تزال المخرجة العربية الوحيدة التي حققت فيلماً هناك. حب وطائفية ولكن، حتى في السينما، ظلت جوسلين محافظة على مسألة"الرأي من طريق الإبداع". وحتى في فيلمها الروائي الطويل الأول"غزل البنات"الذي يبدو للوهلة الاولى بعيداً من هذا المنحى، عرفت كيف توظف جزءاً من سيرتها كصبية مسيحية عاشت طفولتها في بيئة إسلامية، لتقول ولو على خلفية حكاية حب، رأيها في المسألة الطائفية. والآن... ها هي في فيلمها الأخير تغوص في الرمال المتحركة لمسألة شديدة الخطورة في بعض انحاء العالم الإسلامي: مسألة ختان الإناث. والحقيقة ان العواصف كانت هبت في وجه جوسلين، سنوات قبل، حتى البدء في تصوير الفيلم. عورض في مصر، منذ برزت فكرته... وحورب قبل ان يعرف أحد شيئاً عنه. ولولا دعم المصرية الاولى السيدة سوزان مبارك ما كان في وسع الفيلم أن يرى النور. اليوم أبصر الفيلم النور وعرض في مهرجان القاهرة حيث لم يجد يداً واحدة تصفق له في مقابل جمهور ساخط لم يتوان عن شتم الفيلم وصاحبته واتهامها بصفات لا تخطر على بال أي متفرج موضوعي. اتهامها، أولاً، بالإساءة الى سمعة مصر من خلال"تشويه"صورة هذا البلد، بالإكثار من مشاهد الشوارع القذرة،"في الوقت الذي تغاضت فيه المخرجة عن تصوير الأماكن الأثرية والأحياء الفخمة والشوارع النظيفة". وكأن السينما، بالنسبة الى هؤلاء، كل همها هو السياحة والترويج للبلد. واتهامها، ثانياً، بالتعدي على خصوصية مصرية الختان،"لا تشكل أي مشكلة بالنسبة الينا"، في الوقت الذي تكثر جهود الدولة للحدّ من هذه الظاهرة. كل هذه التناقضات وسوء الفهم رافقت الفيلم منذ عرضه الاول في القاهرة وحتى قبل العرض وصولاً الى عرضه الثاني في دبي ضمن فعاليات مهرجان دبي السينمائي الدولي. لكن في دبي، لم تواجه جوسلين صعب ما واجهته في القاهرة. هناك رحّب كثيرون بالفيلم وبجرأة موضوعه الذي يتطرق الى مشكلة"لا يجوز السكوت عنها بعد الآن"كما تقول... من دون ان تسلم من بعض الانتقادات، خصوصاً تلك التي جاءت على لسان بعض المصريين من الذين اشتعل في داخلهم عنفوانهم الوطني ضد"غريبة"أرادت أن تدخل في امور لا تعنيها. والمؤسف في الامر كله أن هؤلاء - وكانوا قلة في دبي على أية حال - لم يتحملوا إدعاء تلك"الغريبة"أنها ارادت أن تساهم في الحدّ من مظاهر الجهل في عالمنا العربي من خلال فيلم سينمائي عانت الأمرين لإنجازه وخمس سنوات من التعب والشقاء، إضافة الى تكلفة وصلت الى مليون و300 ألف يورو. فماذا عن هذا العمل؟ "دنيا"، في الحقيقة، فيلم عن الحب والحرية اكثر مما هو عن ختان المرأة في مصر"تقول جوسلين صعب عن هذا العمل الذي يلاحق خطوات دنيا التي يحمل الفيلم اسمها حنان ترك، فيدخلنا في عالمها: المتاهة التي تعيشها، القلق، غياب الثقة بالنفس... باختصار ضياع هذه الفتاة في بحر من الشكوك. الشك بالذات. الشك بالآخر. الشك بالمكان. الحب والحرية هي شخصية مضطربة لا تعرف ماذا تريد. تتقدم الى مسابقة للشعر من دون أن تمتلك أدنى الأحاسيس. تتجه للرقص لأن والدتها كانت"رقاصة". تتزوج من دون أن تعرف معنى الحب... رحلة دنيا في اكتشاف الذات لن تكون سهلة. بداية تبدأ مشوار التحرر مع أستاذ الشعر محمد منير الذي تكنّ له مشاعر لا تدري ماهيتها، ثم أستاذ الرقص، الذي يضعها على الطريق الصحيح وصولاً الى المصالحة الكبرى مع الذات حين تهجر الزوج وتتحد مع الاستاذ. حب يصالح الروح والجسد. الروح المقهورة. والجسد المكبوت. الأمر الذي نكتشفه شيئاً فشيئاً في سياق الفيلم، فنفهم مشكلة الفتاة والختان التي عقّدت حياتها وحياة كثيرات من امثالها: سائقة التاكسي المتمردة على تقاليد مجتمع سلخها حق تملك جسدها، حين مورس الختان عليها. ابنتها الصغيرة التي وقعت أيضاً ضحية"ختان العقول". والاستاذة الجامعية التي لا تخشى عواقب التحرر. وطبعاً لم يكن صدفة على الإطلاق، أن تظهر جميع نساء الفيلم على هذا النحو أي جميعهن"مختونات"ويعانين من هذا الامر، لا بل على العكس تعمدت جوسلين هذا، في فيلمها، لتعكس النسبة الكبيرة من النساء"اللواتي يسلبن منذ الطفولة هذا الحق"، وهي نسبة وصلت، بحسب الإحصاء الذي ظهر في الفيلم، الى 97 في المئة من النساء. ما اثار حفيظة بعضهم من الذين اعتبروا أن في الامر تجنياً، لكن سرعان ما هدأوا واستكانوا حين طمأنتهم المخرجة أنها لن تضع هذا الرقم في المرات المقبلة حين يعرض الفيلم! حسناً.. يقدر ناقد او متفرج نبيه محب للسينما ألا يعجبه الفيلم كثيراً. يمكنه ان يراه بطيئاً، مملاً، وقد غاب عنه الخط الدرامي، لكن المرء لا يمكنه إلا ان يقف الى جانب الفيلم في موضوعه وجرأة طرحه. فماذا تقول جوسلين في هذا كله؟ "أردت في هذا العمل ان أقدم جديداً. أردت ان اكسر الروتين، وأخالف الخط الدرامي الذي فرضته السينما الاميركية. لكن للأسف اعتاد الجمهور على الاستسهال تماماً كما في التلفزيون حيث لا إبداع. وهنا عندي سؤال: لم لا يمكن صنع أفلام خارجة عن المعتاد؟"تقول جوسلين هذا وتضيف:"على صعيد آخر، مخطئ من يظن ان الخط الدرامي غائب عن الفيلم. فالحبكة الدرامية تتصاعد شيئاً فشيئاً كلما اقتربنا من النهاية. بداية اردت ان تكون الفتاة راقصة. ثانياً يجب ان نضيع في المدينة مع سائقة التاكسي. وثالثاً نكتشف مشكلة الختان. إذاً ثلاثة خطوط تتشابك في ما بينها. أما الجامع فالحسية". وبالفعل الحسية التي تتكلم عنها جوسلين هنا، موجودة في كل تفصيل في هذا العمل. نجدها في طريقة التصوير، في آداء الممثلين، في الديكور، في الملابس... فهل كان سهلاً عليها الدخول في هذه المغامرة في مجتمع شرقي يخشى التعبير عن نفسه؟ موت صغير "ابن عربي يقول: اللذة موت صغير. وأنا اتابع: ماذا هناك أكثر حميمية من اللذة؟ ماذا هناك أكثر حميمية من الموت؟ ماذا هناك اكثر حميمية من الحياة؟"، تقول جوسلين وتتابع:"إذاً نحن نتكلم عن حقوق الإنسان. وفي هذا العمل أطرح مشكلة غياب الحرية، قلة الحوار، والختان... والغريب أن المثقفين باتوا يخشون التطرق الى هذه الامور". جوسلين صعب التي جوبهت في مصر تفاخر اليوم باختيار فيلمها بين 19 فيلماً آخر من اصل ألف فيلم تقدمت للمشاركة في مهرجان روبرت ريدفورد"ساندنس". "نشوة كبيرة زعزعت كياني حين عرفت بالخبر. بداية لم اخبر أحداً بالنبأ. أردت ان احتفظ به لنفسي. لكن هذا لا يعني أن الفيلم استقبل جيداً في الخارج. ففي اوروبا مثلاً، كثيرون خافوا من موضوع الفيلم، حتى ان بعضهم قال لنا صراحة: أنتم تعطون صورة مغلوطة عن الواقع في العالم العربي". واللافت في الامر كله، أن جوسلين انطلقت من الواقع، حتى انها إذ تؤكد ان عملها روائي بطريقة التعبير، وصولاً الى واقعية"الاختراعات التي نراها في الفيلم مثل فستان الزفاف المصنوع من ورق"، تقول إن عملها اقترب من الوثائقي، فشخصيات الفيلم ليست بعيدة من شخصيات من لحم ودم، كانت نقطة الإلهام الاولى للمخرجة. "المثير للسخرية هو إنني أردت أن ابتعد من المواضيع الصعبة. أن أبتعد من الحرب اللبنانية والطائفية والسياسة. من هنا اخترت الحديث عن الحب. الحب الذي لم اتنبه إليه عندما كان عمري 20 سنة، إذ كانت الحرب مشتعلة. في البداية أجريت تحقيقاً حول العلاقات الجنسية بين الشباب، الى أن وقعت على مشكلة كانت نقطة انطلاقتي في هذا المشروع. أما النتيجة فكانت مخيفة". إذاً، جوسلين صعب التي أرادت تجنب المشكلات، يبدو انها لم تفلح في ذلك، بل طاردتها المشكلات ولا تزال، فهل تفلح في المرة المقبلة؟