عرف عنها اقتحامها الأمكنة المحظورة، تلك التي لا يود المجتمع مقاربتها، هذا إن لم يعتّم عليها. أعمالها تثير الجدل لتمردها على السائد واللائق اجتماعياً فتلاحقها «التهم»... فيلمها «دنيا» حظي بالنصيب الأوفر منها، هل هو نشر للغسيل القذر أم مجرد تعرية لواقع بشع؟ جوسلين صعب، رغبت منذ عمر السادسة عشرة العمل في السينما، لكن رفض أهلها دفعها الى دراسة الاقتصاد، لم ينسها ذلك اهتمامها بالمسرح والسينما. في ما بعد عملت صحافية ومراسلة حربية وجابت بلاد العالم الواقعة تحت وطأة الحروب، وأولها بلدها لبنان، قبل أن تتحول إلى مخرجة، فكان «لبنان في الدوامة» عام 1975، فيلمها الوثائقي الطويل الاول. تتابعت أعمالها، اكثر من عشرين كان اشهرها «بيروت مدينتي» عام 1982. ثلاث سنوات بعدها، قررت الانتقال من الوثائقي إلى الروائي فجاء «حياة معلقة» الذي عرض في اسبوع المخرجين في مهرجان «كان». حلمها كان مصر «أم الدنيا»، أقامت فيها لسنوات وصورت «دنيا» (مع حنان الترك ومحمد منير) الذي تعرضت فيه من بين قضايا اخرى لختان الفتيات مثيرة جدلاً لم يتوقف. في 2009 حققت «شو عم بيصير» في بيروت، وهي الآن تحضّر عملاً جديداً عنوانه «ان تكوني إمراة في حوض المتوسط»... التقينا جوسلين صعب في مهرجان السينما الآسيوية في فزول بمناسبة عرض فيلمها التسجيلي «مسيرة المدينة الفاضلة» عن الثورة الإيرانية في سنتها الأولى وذلك ضمن تظاهرة «ندبات» التاريخ ، فيلم نادر يكشف تخبطات وآمال وتحولات مجتمع وسلطة جديدة. حين يذكر اسمك تنعكس صورة لمشاكسة، مثيرة للجدل، فاضحة للواقع... ما قولك؟ - من أربعين سنة تلاحقني هذه الصورة، هذا الصيت... للمرة الأولى سأقول أنا موافقة! سأمنح نفسي لقباً جديداً إن سمحت لي: «قرصانة»، نعم أنا قرصانة الحرية. سأشقلب معنى الكلمة! دافعت عن الحرية طوال مسيرتي، أيستوجب الدفاع عن الحرية نظرة كهذه؟ كل شيء تشقلب إذاً! ياريت يرى المجتمع نفسه قبل أن يحكم عليّ! هل ندع الجدران عوائق أمامنا أم نزيلها؟ حياتي ليست سهلة، أمسك الكاميرا... أحارب بها... صفة المشاغبة التي تلاحقني سببها معالجتي لمواضيع صعبة لا يحب الآخرين تناولها. أنا مثل هؤلاء الذين يهبون حياتهم لهدف واحد، اعشق الصورة والدفاع عن بعض الأفكار من خلالها. واليوم تجري الأحداث عبر الصورة، يشقلبونها مع أو ضد، الإعلام بات سلاحاً والدول هي التي تستعمله. في ما مضى، كانت ثمة صورة رسمية للدولة وكنا نحن المستقلين نعطي ما يعاكسها. اليوم تقوم الحروب بين الصور الرسمية فيما نقف نحن في عالم ثان. محطات أثمة تواريخ في حياتك تعتبرينها المحطات الأهم؟ كان التاريخ الأهم في مهنتي حين أدركت يوماً عام 1976، والقصف قائم والهدم مستشرٍ، أن بيروت لن تعود أبداً. وفي يوم عند هدنة صباحية من السادسة إلى العاشرة حين كان المحاربون يرتاحون، اصطحبت آلة التصوير ونزلت أجول في شوارع بيروت. رأيت مدينتي بنظرة طفلة كنتها يوماً، وأعدت تركيب مسيرة طفولتي وشوارعها في التوليف وكتبت لي الشاعرة إيتيل عدنان النص. لقد عرضوا 30 دقيقة من فيلمي هذا في نشرة أخبار «فرانس 2»... كانت أول مرة يفعلون فيها ذلك. اعتبروا أنني أحكي عن بلدي بأسلوب جديد وأن الفيلم يقدم معلومات وحقائق بصيغة غير معتادة. جاء فيلمي نتيجة طلب من تلفزيون ياباني، كانوا يرسلون جملة وحيدة من نوع «الحرب من وجهة نظر الأطفال»، فأنجزت فيلماً عن مدينتي التي راحت وطفولتي التي راحت معها، لقد امتزج المهني والشخصي هنا. أيضاً هناك حصار بيروت عام 1982، حين احترق بيتي وكنت قررت عدم المغادرة فلا أحد لديه الحق بأخذ أرض بلادي، ورافقتني الكاميرا في بقائي فصنعت «بيروت مدينتي». كان ثمة تاريخ مهم أيضاً في حياتي المهنية وذلك حين تحولت من الفيلم التسجيلي إلى الروائي. بات الفيلم الروائي ضرورة لي بل فرض نفسه علي، كنت قد بدأت بكتابة «حياة معلقة» قبل الحصار وصوّرته في 84 فعرض في مهرجان «كان» 85. حينها اتخذت قراراً نهائياً بالعيش من مهنتي السينمائية. أحسست بأنني أريد التعبير عن نفسي عبر الصورة وأنني سأتابع مهما يحصل. لم يكن أحد خلفي ليموّلني، فكرت بماري كويني وآسيا داغر، فهما من السينمائيات الأوائل اللواتي كن قدوة لي. أما مصر فكانت حلمي وفي دمي منذ طفولتي، فالسينما خلقت هناك، لم أحلم بفرنسا على رغم أن تمويل فيلمي الأول جاء منها. لكنني توجهت إلى مصر في مرحلة صعبة، صديقي الناقد سمير فريد قال «انت تحلمين! الوضع ليس كالأربعينات». أقمت هناك وأنجزت «دنيا» الذي خرج عام 2005. توازن ما الذي تمثله لك كل مدينة من مدنك الثلاث: بيروت، باريس، القاهرة؟ - بيروت مدينتي، إنها تتمتع بحرية أكثر مقارنة بغيرها من المدن العربية، هي جزء من جسدي، ارتباطي بها فيزيائي: روائح، أضواء... هي جسد بمعنى ما... فيما تكوَّن باريس جزءاً من حياتي الشخصية لا يتوافر في بيروت. يحتاج المبدع في بعض الأوقات إلى عزلة، إلى عدم تدخل الآخرين، إلى مكان يجول فيه ولا يعرف فيه أحد أصله وفصله. في باريس أشعر بمساواة تامة مع الآخرين. أما القاهرة فهي الحلم، هي الحجم والوسعة. حين نحقق فيها فيلماً فسيراه الملايين، هي الناس والتاريخ والألوان والخيال، كل زاوية فيها تشكل في حد ذاتها لقطة، مواد «الشغل» متوافرة في كل مكان. ثمة شيء قوي جداً في القاهرة. هي عاصمة بكل معنى الكلمة، أم الدنيا. حين نترك البلد في البداية نتعذب، وبالتأكيد نخسر شيئاً ما، لكن سرعان ما نمسي على مسافة تسمح برؤية افضل. المشكلة تكمن في عدم قدرتي على البقاء وقتاً طويلاً في المكان نفسه. ربما هو عنصر الوراثة، فأنا كالبدو وثمة مكانان لا أستطيع تركهما هما الصحراء والبحر. أستطيع القول إن علاقتي مختلفة مع كل مكان، عشقي لبيروت جسدي ولباريس عقلاني وللقاهرة صوفي. قلت يوماً «أبحث عن توازن بين العمل الفني ومتطلبات الناس»، ما قصدت؟ - استغرق مني «دنيا» سبع سنوات، أردته فيلماً يتوجه مباشرة إلى أحاسيس الناس. لكنهم تهجموا عليّ بكلام بشع: «فيلم جنسي»، «ضد الإسلام»، «ضد مصر»... كان كل ما أردته الحديث من دون أفكار مسبقة عن المرأة، عن فتاة تتكوّن وتختار طريقها. ضايق هذا الناس، لكن ثمة البعض من البسطاء شكرني وأيدني وبعضهم من الصعيد والهند. إذا فكرنا بالجمهور لا نعمل شيئاً. مواضيعي صعبة غير تجارية، وحين حاولت عرض «دنيا» في السينما في مصر حوربت بشدة وقالوا «تجرّأت كثيراً»، قمت بالثورة قبل الثورة. ثم طلب مني فيلم عن بيروت حين كانت عاصمة الكتاب، كانوا ينتظرون فيلماً عن «دار نشر الشرق»... وكلاماً من هذا القبيل... لكنني اعتبر أن هذا ليس من شأني، إنه عمل التجار! لذلك قررت تحقيق فيلم يعنى بالخلق الفني في السينما، تجريبي، شاعري، صورت فيه بيروت التي أحبها الحرية والإبداع والخيال والرقابة الذاتية... كان «في شي عم بيصير» نزهة في بيروت غير مرتبط بزمن ما. الآن أنا في مرحلة أشعر فيها أن الوقت قصير. أريد العمل والعمل، إعطاء كل ما في حوزتي. لدي مشاريع عدة عن دول المتوسط مطلوبة من التلفزيون الفرنسي والمرأة وكتاب سيرة ذاتية وتحضير معارض عدة... قد يجابهك ربما اتهام آخر في فيلمك المقبل عن المرأة والمتوسط! بأنك مثلا تعملين وفق الطلب الغربي! - وزعت أول أفلامي من دون تمويل من تلفزيونات أوروبية. نحن «نشحذ» الفلوس من تلفزيونات أوروبا ومن الهيئات السينمائية. لا تتوافر سياسة لدعم السينما في بلادنا. في لبنان مثلاً لا تتجاوز موازنة السينما الثمانين ألف دولار، ما يشكل ثمن فيلم تسجيلي قصير في التلفزيون الفرنسي. من سيهاجمني أشخاص يعانون الكبت والحرمان. ليس عليّ البرهان على دوافعي، اخترت طريقاً صعباً وأريد ما أريده. أحاول أن أوصل للجمهور الغربي ما لا يشاهده في بلادنا، أعطي الصورة الحقيقية وليست تلك التي يفرضونها أو يحبون رؤيتها. لا تهمني مناقشاتي مع المنتجة الفرنسية بل السوق العربية، وإن كان أحد قد رفض إملاءات ما فهو أنا. حين صورت الحروب أوصلت احساساً داخلياً لواحدة من هذه الأرض وفي «دنيا» أردت الكلام عن قصة حب... نحن نعيش في شرق أوسط يحترق، فكيف يمكن تجنب ذلك؟ بالطبع أحلم بموضوع خفيف لكن ما نعيشه لا يسمح لنا بالخفة! من الغريب أنني أصادف دوماً قصصاً صعبة! ربما تجذبك إلى جهتها! - لا (تقول ضاحكة) هي تقع فوق رأسي!