يقصد بتحرير التجارة ، قيام الدول بإزالة السياسات كافة التي تعمل كقيود على تجارة البلد، كالرسوم الجمركية وإجراءات الدعم، والقيود الكمية على السلع المستوردة وإجازات الاستيراد ومقاطعة السلع الأجنبية. وتعتبر تلك القيود"وسائل تفاوضية"تقوم الحكومات بتوظيفها في عملية المحادثات مع الدول الأخرى من أجل تحقيق وفورات اقتصادية. إن العقيدة التي تعتنقها وتروج لها المؤسسات المنبثقة عن بريتون وودز البنك الدولي، صندوق النقد الدولي ومنها منظمة التجارة العالمية هي إن تحرير الاستيرادات له تأثير إيجابي على البلدان النامية، وأن تكاليف التصحيح باتجاه ذلك تكون وقتية في اكثر الاوقات. وبموجب هذه الأطروحة، فأن سرعة وعمق عملية التحرير تفيد الاقتصادات الوطنية. إن الدعوة الى تلك السياسة تعتبر في إطارها العام صحيحة بالنسبة لكثير من الدول خصوصاً المتقدمة منها. إلا أن دراسات وبحوثاً تطبيقية كثيرة تشير إلى عدم وجود علاقة حتمية بين تحرير التجارة ونمو الصناعة المحلية أو النمو الاقتصادي. وأن تحرير التجارة له تأثير سلبي على عدد كبير من اقتصادات البلدان النامية، نظراً الى غياب الشروط اللازمة لتفعيلها، ما أدى إلى إحداث أضرار بالغة بمصالح الشركات والصناعات الوطنية والعمالة. وقد أشار لذلك تقرير"منظمة الأونكتاد"لعام 1999، معتبراً أن تحرير التجارة بين فترة السبعينات والتسعينات أدى إلى عجز تجاري في الناتج المحلي الإجمالي للبلدان النامية مقداره 3 في المئة. وفي إطار العولمة الداعي إلى ضرورة قيام كل دولة بالتركيز على ما تتمتع به من ميزات نسبية وقيمة مضافة في بعض إنتاجها، وخفض الحواجز التجارية بين البلدان تحقيقا لتنمية اقتصادية مستدامة، أنشئت منظمة التجارة العالمية 1995 لتقود وتنظم العلاقات التجارية بين الدول عبر مفاوضات تؤدي إلى اتفاقات تبرم لهذا الغرض. وبعد ما يقرب من عشرة أعوام على إنشائها، تمر مفاوضات منظمة التجارة العالمية التي عقدت مؤتمرها الأخير في هونغ كونغ 13 - 18 كانون الأول /ديسمبرالجاري بمسار حرج نظراً الى غموض ما جرى ويجرى من مفاوضات في شأن علاقة ذلك بموضوع"التنمية"التي تعتبر الهدف الرئيس لإعلان الدوحة الوزاري 2003. وخلفية ذلك أن"التوازن المرغوب"الذي تتطلبه عملية المفاوضات بين البلدان المتقدمة والنامية لم يتحقق. وأن كثيراً من الاتفاقات الحالية المبرمة تحت مظلة منظمة التجارة العالمية هو في غير صالح البلدان النامية، وعلى سبيل المثال، إعطاء الاتفاقات الزراعية حماية عالية لدول الشمال ومطالبة الجنوب بتحرير إستيراداته الغذائية. ولغاية اجتماع بيروت الاستشاري الأخير المشار إليه أدناه فان نتائج الأمور تشير إلى غياب الإرادة السياسية للبلدان المتقدمة في تقديم الحلول المناسبة وتقديم التنازلات المتوازنة. وعند مقابلة ما هو معروض من قبل البلدان المتقدمة والنامية في المفاوضات الزراعية، نجد أن البلدان النامية ستحصل على صفقة سيئة نظراً الى أن البلدان المتقدمة ترفض خفض مبالغ الدعم وإن خفضت فبشكل نسبي قليل. معنى ذلك أن البلدان المتقدمة ستستمر في إغراق أسواق البلدان النامية بمنتجات مدعمة، بينما لا تملك الأخيرة المبالغ الكافية لموازنة ذلك. وقد تعقدت المفاوضات الزراعية بأكثر من ذلك نظراً الى مطالبة المجموعة الأوربية بأن عروضها في الجانب الزراعي يجب ربطها بشرط التزام البلدان النامية التام بتحرير الخدمات وسوق المنتجات غير الزراعيةالصناعية. ويعتبر ذلك شرطاً تعجيزياً عند النظر إلى طبيعة هيكل تلك النشاطات في البلدان النامية. ولإنجاح المفاوضات الزراعية يكون من الضرورة إعطاء البلدان النامية المرونة الكافية في استخدام وسائل علاجية مختلفة من أجل ضمان حماية المنتجات الزراعية للمزارعين الصغار، في وجه منتجات مستوردة رخيصة مدعمة بشكل اعتباطي. لذا وجب على البلدان المتقدمة قبول قيام البلدان النامية بإجراء خفض اسمي لمنتجاتها الزراعية. أما المفاوضات المتعلقة بسوق المنتجات غير الزراعية، فهي بدورها تجرى بعيداً عن التأثير الفاعل في جوهر التنمية الاقتصادية للبلدان النامية. إن ما جرى، وما هو مطلوب من البلدان النامية، مغاير للمبدأ الذي اعتمد في إعلان الدوحة الداعي إلى معاملة البلدان النامية معاملة خاصة ومرنة لا تتطلب بالضرورة تطبيق مبدأ التماثل. إن الإصرار على قيام البلدان النامية بإجراء تخفيضات حادة في رسومها الجمركية على السلع غير الزراعية سيؤدي إلى تسارع تفكك العملية الصناعية القائمة حالياً في كثير من البلدان النامية والحد من تنميتها الصناعية. وللوصول إلى وضع متوازن نسبياً، يرى البعض ضرورة الأخذ بالاعتبار جملة من العوامل عند القيام بتحديد الرسوم الجمركية أهمها درجة الانفتاح التجاري، ومدى الاعتماد على الرسوم الجمركية في تحقيق عائد ضريبي للحكومة، ومدى تأثر الصناعات المحلية وإمكان تطوير صناعات جديدة. تعتبر الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات أكثر مرونة من الاتفاقات السابقة، نظراً الى كونها تعطي البلدان النامية قرار تحديد القطاع الذي يراد إدراجه في المفاوضات ودرجة تحريره ومدى التزامها. ومعنى ذلك أن المفاوضات مبنية على العرض والطلب الثنائي وتحديد كل منهما. وينصح البعض البلدان النامية أن تأخذ بالانفتاح التدريجي عند مشاركتها في مشاريع الخدمات الأجنبية التمويل، الاتصالات نظراً الى ان الانفتاح المتسارع يجعل أجزاء كبيرة من اقتصادات البلدان النامية تحت رحمة الشركات العابرة للقارات. وقبل فترة وجيزة عقد الاجتماع الوزاري العربي في بيروت 30 تشرين الثاني/نوفمبر-1 كانون الأول/ديسمبر 2005 من أجل التحضير للمؤتمر الوزاري السادس لمنظمة التجارة العالمية. وصدر عن ذلك الاجتماع بيان موجه إلى المجتمعين في هونغ كونغ أهم ما جاء فيه: - القلق من أن المفاوضات الحالية لم تتمخض حتى الآن عن نتائج تتفق وتطلعات الدول النامية. - إن نجاح مؤتمر هونغ كونغ يتوقف إلى حد كبير على مدى وأسلوب تناول القضايا التنموية، وأن يجرى التعامل مع التنمية من خلال منظور أوسع يتضمن توفير شروط أفضل للوصول إلى الأسواق وتوفير مبادرات كفية و ذات مغزى لتعزيز القدرات الذاتية للدول النامية. - دعوة الأطراف المشاركة في المفاوضات إلى إظهار الإرادة السياسية لإعطاء قوة دفع للمفاوضات الحالية من أجل التوصل إلى نتائج إيجابية . إن تحرير التجارة يعتبر وسيلة، وليس هدفاً، وأن الهدف الأساس هو العمل على تحقيق التنمية المتوازنة في البلدان النامية. وقد وصلت المفاوضات بعد هونغ كونغ إلى طريق شبه مسدود تتطلب التدخل السياسي من أجل تحريك الوضع الراهن والاستمرار في المفاوضات من أجل مصلحة الجميع. خبير اقتصادي.