يُعد الخامس عشر من نيسان ابريل العام 1994 من أهم ايام النصف الأخير من القرن العشرين. ففي ذلك اليوم وقع أكثر من مئة دولة على اتفاقية "مراكش" لإنشاء منظمة التجارة العالمية. إن لهذه المنظمة أهمية بالغة: فهي تضع للمرة الاولى معالم التنظيم الدولي للتجارة. وتتفوق اتفاقية مراكش على اتفاق الغات الاتفاق العام للتعريفات الجمركية والتجارة من نواحٍ ثلاث: فبينما اقتصرت "غات 1947" على تنظيم تجارة بعض السلع، فإن اتفاقية مراكش قامت بتنظيم معظم السلع الى جانب قطاعات التجارة الدولية الاخرى من خدمات وحقوق ملكية فكرية. ومن ناحية ثانية احكمت اتفاقية مراكش بعكس الغات من امكان الدول من التحلل من القواعد الدولية التجارية. ومن ناحية ثالثة أصبحت القواعد الدولية التجارية منذ 1994 عالمية التطبيق، لجهة أنها لم تقتصر على الدول الرأسمالية، بل أصبحت تسري على معظم الدول. ومنذ 1994 تعددت الدراسات والابحاث حول آثار اتفاقية مراكش لانشاء منظمة التجارة العالمية على الدول النامية. ومع اقتراب انعقاد مفاوضات "سياتل" في الولاياتالمتحدة الاميركية نهاية الشهر الجاري يتعين إلقاء نظرة على وضع الدول النامية من اتفاقات هذه المنظمة، ان خير معالجة لهذه المسألة لا بد أن تشمل على التوالي بحث الوضع الحالي لهذه الدول، ثم ما ينبغي فعله في هذا الشأن. لذا نعرض أولاً للموجود، ولاحقاً للمنشود. أولاً: الموجود يتضمن تناول الوضع الحالي للدول النامية في إطار منظمة التجارة العالمية بيان هدف ومبادئ هذه المنظمة، والآثار الناجمة عن اتفاقية مراكش في قطاعات التجارة الثلاثة: السلع والخدمات وحقوق الملكية الفكرية على الدول المذكورة. الهدف الاساسي من إنشاء منظمة التجارة العالمية تحقيق حرية التجارة الدولية، فتحرير التجارة الدولية يمثل الفكرة الاساسية، فهذا التحرير محبب لأنه يشجع التقسيم الدولي للعمل، أي تخصص كل دولة في النشاط الأكثر تهيئاً له، الامر الذي يلزم معه القضاء على كل عائق للتبادل، وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا بالمناقشة والتنازلات المتبادلة للوصول الى نتائج، وتؤخذ في مرحلة تالية كنقطة بدء لدورة اخرى من المفاوضات. ومن أجل تحقيق الهدف المذكور تم النص على اتباع المبادئ التالية في كل قطاعات التجارة الدولية: أ- مبدأ الدولة الأكثر رعاية: إن مؤدى هذا المبدأ انه في حال إبرام الطرف الآخر في معاهدة معينة معاهدة لاحقة مع دولة ثالثة افضل من المعاملة المتفق عليها في المعاهدة الأولى، فإن اطرافها يستفيدون من المعاملة الافضل التي تم تقريرها حقا للغير لاحقاً، ان هذا المبدأ يتضمن من ناحية سريانه على كل الدول، فينقل من الثنائية الى التعددية ما يتم إقراره من خفض او إلغاء الرسوم الجمركية في اطار الاتفاقات الثنائية. ومن ناحية اخرى، فإن مؤدى مبدأ الدول الأكثر رعاية شموله ليس فقط للرسوم الجمركية، بل كل ما يماثلها كالضرائب. ب- مبدأ المعاملة الوطنية: حيث على الدول الأعضاء في المنظمة أن تطبق على المنتجات المستوردة من الدول الاخرى الاعضاء ذات المعاملة السارية على المنتجات الوطنية المماثلة فيما يتعلق بالرسوم والتنظيمات، فثمة تكريس للمساواة في المعاملة بين المنتجات الوطنية وتلك المماثلة لها، وذات المنشأ الاجنبي. ج- مبدأ الخفض العام والمتوالي للرسوم الجمركية: فالدول اعضاء المنظمة تدخل في اتفاقات للمعاملة بالمثل تنطوي على مزايا متبادلة لتحقيق خفض كبير للتعريفات، ويتحقق ذلك في جولات المفاوضات المتعددة الاطراف كأرغواي سابقاً وسياتل لاحقاً، وتختلف نسب التخفيض من سلع الى اخرى، ومن دول الى أخرى. د- مبدأ إلغاء القيود الجمركية: وهذا حظر عام مطلق يسري على كل من الصادرات والواردات، وبذلك يتم إلغاء نظام الحصص من اجل إزالة حواجز انسياب المعاملات في ما بينها. ه- مبدأ الشفافية: فالقرارات والتنظيمات الحكومية في المسائل المتعلقة بالسياسات التجارية، سواء بالنسبة الى الاقتصاديات الاعضاء او للنظام التجاري متعدد الأطراف لا بد أن يعلن عنها ويتم اخطار الجميع ليتسنى إصدار واتخاذ القرارات المناسبة من اطراف التجارة الدولية، وهكذا، فإن تحرير التجارة الدولية يقتضي تخصص كل دولة في النشاط الاكثر استعداداً له، الامر الذي يتطلب انهاء كل حاجز أو عائق للتبادل، ومثل هذا، حرمان دولة من مزايا نسبية وتنافسية في سلعة او خدمة او حق معين. وعلى رغم ان اتفاقات التجارة العالمية المنبثقة عن دورة اوروغواي والتي تضمنتها اتفاقية مراكش لإنشاء منظمة التجارة العالمية جاءت في معظمها كنتاج لمفاوضات ومساومات تمت بين الدول المتقدمة وبحضور الدول النامية، وراعت الى حد كبير مصالح الدول الأولى، فإن نظرة موضوعية لآثار هذه الاتفاقات لا بد أن تفضى الى القول بأن التعامل مع هذه الاتفاقات يتطلب مراعاة وجود آثار إيجابية واخرى سلبية بالنسبة للدول النامية ومنها. أ- الآثار الإيجابية: 1- يؤدي تحرير التجارة الدولية بما يصاحبه من تخفيض الحواجز الجمركية وغير الجمركية الى زيادة حجم وحركة المبادلات الدولية، وبالتالي زيادة حجم الانتاج القومي في معظم الدول وبالذات في الدول المتقدمة، وغني عن البيان أن زيادة مستوى النشاط الاقتصادي في الدول المتقدمة يعد من اهم عوامل الاقبال والطلب على الدول للاستيراد من الدول النامية. 2- مع الالغاء المتوالي والمتدرج للدعم الذي تقدمه الدول الصناعية لمنتجيها الزراعيين سواء كان دعماً للانتاج او دعما للتصدير، وقيام هذه الدول بالالغاء على مراحل لنظام الحصص في مواجهة صادرات الدول النامية إليها، فإن هناك فرصة لزيادة صادرات الدول النامية الى الدول المتقدمة. 3- يفضي تخفيض الرسوم الجمركية على السلع الاساسية من مستلزمات انتاج وما في حكمها الى تخفيض تكلفة الانتاج المحلي في الدول النامية، وزيادة الانتاج فيها. 4- على رغم ان اتفاق الغات مع ما يتضمنه مع إلغاء دعم السلع الزراعية سيؤدي الى رفع اسعارها للدول المستوردة لها وهي بصفة اساسية نامية، فإنها من ناحية اخرى ستحفز هذه الدول لزيادة انتاج السلع الزراعية. 5- مع تحرير تجارة الخدمات فهناك امكانية متاحة امام الدول النامية للوصول للتكنولوجيا بأساليبها المختلفة. 6- وحيث ان اتفاقات التجارة العالمية تستند الى فكرة المزايا التنافسية كأساس للتبادل بين الدول، فإن مقتضى ذلك سعي الدول النامية الى العمل على زيادة مقدرتها الانتاجية، وجودة المنتجات الوطنية حتى تتمكن من البقاء في السوق العالمي. 7- وجود نظام متعدد الاطراف لحل المنازعات الدولية متعددة الاطراف تتوافر فيه الضمانات اللازمة للحيدة والموضوعية. أما الآثار السلبية لاتفاقات التجارة العالمية، فهي: 1- ارتفاع اسعار السلع الزراعية نتيجة إلغاء الدول المتقدمة للدعم المحلي ودعم الصادرات وما يفضي إليه ذلك من آثار سلبية تلحق بميزان المدفوعات في الدول النامية. 2- على رغم إلغاء القيود الكمية بوجه عام على صادرات الدول النامية، فإن هناك عدة قيود قابلة للسريان على منتجات هذه الدول، حيث تتمتع تلك الصادرات بكفاءة عالية تمكنها من النفاذ لأسواق الدول المتقدمة المنسوجات. 3- انخفاض حصيلة الرسوم الجمركية نتيجة لخفض الرسوم الجمركية، وقيام الدول النامية بالبحث عن موارد اضافية مما يؤثر على كل من تكلفة الانتاج والقطاعات الأخرى. 4- انتهاء نظم الافضلية التي كانت مقررة للدول النامية من جانب الدول المتقدمة. 5- تضاؤل فرص الدول النامية في التنافس مع الدول المتقدمة في قطاعات عدة ليس لها منها مزايا تنافسية كالخدمات. 6- عدم إمكان الصناعات الوطنية الوليدة في الدول النامية ومع انهاء الحماية للصمود أمام المنتجات الاجنبية والتي تتمتع بمزايا تتفوق فيها على مثيلاتها من الدول المتقدمة. 7- صعوبة الانتقال والتأهيل مباشرة لشروط اقتصاد السوق في دول نامية متعددة تمثل الأوضاع الاجتماعية أحد أسس استقرار نظم الحكم فيها، وما يتطلبه من التزامات اجتماعية تجعل التحرير الكامل والشامل للتجارة الدولية امراً ذات تكلفة عالية. 8- عجز كثير من الدول النامية عن توفير الكفاءات اللازمة للتفاوض والتعامل مع الخبرات القائمة في كل من الدول المتقدمة ومنظمة التجارة العالمية. 9- ضعف بل إنعدام فرص الدول النامية في المنافسة في مجال تجارة حقوق الملكية الفكرية، ويلاحظ أن الآثار المتقدم ذكرها تختلف باختلاف الأطراف المتأثرة من سريان اتفاقات التجارة العالمية دول مستوردة أو مستوردة لسلعة معينة. ثانيا: المنشود يتضمن المنشود في مواجهة منظمة التجارة العالمية التطلع نحو التوجهات المستقبلية من جانب الدول النامية، أن هذه التوجهات تهدف الى الانتقال مما هو قائم الى ما ينبغي أن يكون في المسائل التالية: 1- تعظيم الايجابيات وتحجيم السلبيات: إن اتفاقات التجارة العالمية شأن أية اتفاقات دولية أخرى تجىء كتوافق بين اتجاهات متعددة ومتباينة لدول تسعى كل منها الى حماية مصالحها وتنميتها، انطلاقاً من هذه الحقيقة يجب أن يتم التعامل مع اتفاقات التجارة العالمية، فبقدر ما هناك من ايجابيات هناك سلبيات، والمنهج الواقعي يقتضي ليس فقط اغفال ما هو قائم من آثار ايجابية وأخرى سلبية لاتفاقات التجارة العالمية، بل يتعدى ذلك الى التحرك والتعامل مع الواقع من خلال تعظيم الآثار الإيجابية، وتحجيم الآثار السلبية. أ إن السعي نحو تعظيم الايجابيات وتحكيم السلبيات لاپبد أن يراعي حقيقة أن هناك وجهين لعملة واحدة، فتحرير القطاع الصناعي يعني أنه مع امكانية السلع الصناعية للدول النامية للنفاذ للأسواق الاجنبية، فإنه بالمقابل أصبحت سوق الدول النامية مفتوحة أمام السلع الصناعية للدول المتقدمة والأكثر مقدرة للتنافس مع مثيلاتها من الدول النامية. ب إذا كان العمل على تعظيم ايجابيات اتفاقات التجارة العالمية وتحجيم سلبياتها يتضمن اتباع سياسات وتدابير متعددة تتلاءم مع طبيعة القطاع محل التنظيم، فإنه لاپبد ألا يتم إغفال حقيقة أن الاتفاقات المذكورة بما تحتويه من مبادئ أساسية ستفضي ولو بعد سنوات الى تقسيم دولي للعمل يراعي مدى ما تتمتع به الدول من مزايا نسبية في انتاج السلع والخدمات وحقوق الملكية الفكرية، لذا، فإن السياسات والتدابير المتخذة لاپبد مع مراعاة أهدافها الوطنية أن تصب في إطار ما يجب أن يتحقق في المدى الطويل للعمل المستند للمزايا النسبية. ج ترتيباً على ما تقدم، فإن واضعي سياسة أي قطاع مرتبط باتفاقات التجارة لاپبد أن تجيء مقترحاتهم من خلال الارتباط بالهدف المتمثل في زيادة مقدرة كل دولة نامية على تبوء وضعها في مجال التجارة العالمية، فالسعي نحو تحقيق أهداف فرعية أو فردية قد يصطدم مع الهدف المذكور ولا يفضي الى الوصول للغاية المنشودة. وانتقالاً من التعميم الى التحديد والتخصيص نذكر قطاع الخدمات وكيفية التعامل معه باعتبار أن تجارة الخدمات هي الأكثر حجماً في مجال التجارة العالمية. يعد قطاع الخدمات القطاع الأوحد الذي تتحقق فيه والى حد كبير التوازن بين الآثار الايجابية والآثار السلبية لتحرير التجارة الدولية، فتحرير مجالات البنوك وشركات التأمين وسوق المال والمقاولات والخدمات والمكاتب الاستشارية يعد من المسائل المستحدثة التي جاءت بها اتفاقات التجارة العالمية. فهذا القطاع ستنطبق عليه شأن قطاعي تجارة السلع وحقوق الملكية الفكرية مبادئ الدولة الأكثر رعاية والمعاملة الوطنية للاجانب. إن الآثار السلبية لتحرير هذا القطاع والتي تتمحور حول نفاذ المؤسسات والشركات الدولية التي تتمتع بمقدرة مالية وفنية الى الاسواق المحلية، ومنافستها لمثيلاتها الوطنية يمكن تحجيمها في ظل: 1- حق كل دولة في تحديد التزاماتها في شأن مشتملات هذا القطاع المسموح لها بالتحرير. 2- ضرورة الحصول على موافقة الدولة على مباشرة الخدمات الاجنبية الواقعة في أراضيها. 3- التكلفة العالية لمقابل ما ستقدمه هذه الشركات من خدمات، بالمقارنة بمثيلاتها من الشركات الوطنية. 4- المرونة العامة لاتفاقية الخدمات من خلال حق الدول في تحديد القطاعات التي سيتم تحريرها، وبيان القيود التي ستتم في اطار ما تتمتع الشركات الاجنبية بالمعاملة الوطنية. 2- التمسك بالحقوق المقررة: وهي على نوعين: النوع الأول يتم منحه للدول النامية، والنوع الآخر لكل الدول، ويشمل النوع الأول من الحقوق: أ- الالتزام العام من جانب الدول المتقدمة بضرورة مراعاة الصعوبات والمشاكل التي تواجه الدول النامية، أن هذا المبدأ منصوص عليه في معظم اتفاقات التجارة العالمية، وتبرز اهمية المبدأ المذكور في انه يعد مرشداً وموجها للتعامل بين الدول المتقدمة والدول النامية. ب- التحلل المؤقت من الالتزامات الواردة في بعض اتفاقات الجات بمنح الدول النامية فترة سماح لتنفيذ التزامات متولدة عن الاتفاقات المذكورة عشر سنوات في مجال الزراعة، ثماني سنوات في مجالي الدعم للصادرات وحقوق الملكية الفكرية. ج- مبدأ مساعدة الدول المتقدمة للدول النامية في تطبيق نصوص بعض الاتفاقات الخدمات - تدابير الصحة. د- مبدأ الإعفاء الكامل من تطبيق نصوص لاتفاقات متعددة بالنسبة للدول الأقل نمواً. اما بالنسبة للنوع الآخر من الحقوق وهي تلك الممنوحة لكل الدول، فإن الدول النامية تستطيع استناداً اليها ان تتمسك بكل من: أ- حق فرض قيود كمية على الواردات إذا تعرضت دولة معينة لأزمة او ازمات تلحق بميزان المدفوعات وتفضي الى إحداث خلل في توازنه. ب- حق اتخاذ تدابير الحماية لدى حدوث ازمة تلحق بالانتاج الوطني من جراء استيراد بعض المنتجات الاجنبية. ج- حق فرض تدابير لمكافحة الاغراق غير المشروع بالسلع الاجنبية. د- حق الحصول على اعفاءات محدودة من سريان الالتزامات المتولدة عن اتفاقات معينة. 3- العمل على تطوير الاتفاقات الحالية: وذلك من خلال: أ- محاولة مد نطاق الاعفاءات المقررة لها سواء بالنسبة للمدة، أو القطاعات محل التنظيم، وهذا توجه ملموس لكل من ممارسات جات 1947، وصندوق النقد الدولي. ب- وجوب سريان حرية التجارة الدولية على المزايا النسبية والتنافسية للدول النامية التي لم تشملها اتفاقية مراكش في قطاعات كالعمالة والبتروكيماويات، مع ملاحظة عدم وضع قيود من جانب الدول المتقدمة تفرغ الحرية من مضمونها كتلك التي تهدف الى ربط القطاعات السابقة بشرط البيئة. ج- اغتنام فرصة إعادة النظر في بعض الاتفاقات بعد مضي مدة معينة من اجل محاولة تعديلها لصالح الدول النامية اتفاق الاستثمار ومدته خمس سنوات. د- واخيراً فإنه في عصر التكتلات التجارية سيبقى الانضواء تحت نطاق احد صور التكامل الاقليمي من منطقة تجارة حرة او اتحاد جمركي، ما يكفل للدول النامية المقدرة على المنافسة مع الدول المتقدمة، والاعفاء من تطبيق نصوص اتفاقات "الغات" على العلاقات فيما بينها طبقاً للمادة 24 من "الغات". * عميد كلية الحقوق في جامعة الاسكندرية.