شاءت الصدف أن يتوافق عرض قاعات السينما في أوروبا لفيلم الماني جديد هو"السقوط"عن الأيام الأخيرة لأدولف هتلر، مع الذكرى الستين لتحرير معتقل أوشفيتز النازي، على أيدي الجيش الأحمر السوفياتي، حيث كان قد قُتل ملايين من البشر، غالبيتهم من اليهود. وفيلم أوليفر هيرشبغل، الذي يستغرق عرضه ساعتين ونصف ساعة، من دون أن يمل المشاهد لحظة واحدة، فيلم ذكي جذّاب ومخيف في الآن ذاته. الذعر الذي يبثّه في المشاهد لا ينبع من صور قتل وتعذيب. فإذا استثنينا ثواني قليلة يظهر فيها بعض أقطاب النازية وهم ينتحرون عبر توجيه المسدسات إلى رؤوسهم، أو مشهد زوجة غوبلز وهي تسمم أولادها الخمسة، قبل أن تقتل نفسها لأنها لا تريد أن يعيش أطفالها في عالم لا تحكمه النازية، فإن باقي الفيلم لا يصور عنفاً كنا ألفناه في الأفلام التاريخية حول الحرب العالمية الثانية، ولا عنف سائر الأفلام التي تناولت النازية، على غرار ما فعل عدد من المخرجين الغربيين كفيسكونتي أو انغمار برغمان، حيث لم يظهر أدولف هتلر وحاشيته المقربة. ذاك أن هذه الأفلام كلها ركزت على وحشية هذه الايديولوجيا، ولم تشأ أن تُظهر رموزها والمروجين الأساسيين لها كمجرد بشر. وهكذا خلال ستين سنة، غدا التكلم عن الجوانب الشخصية لهتلر وأعوانه موضوعاً شديد الحساسية، إذ كيف يمكن للشر المطلق أن تكون له جوانب إنسانية، كأن يبتسم وأن يحب وأن يُلاطف... الخ. حتى أن صور الديكتاتور النازي وهو يداعب أطفالاً كان محظّراً ظهورها في الصحف الألمانية، خشية اظهار هتلر كشخص عادي. لهذا، ففي إحدى المقابلات تساءل مخرج الفيلم كيف يمكن له أن يصوّر هتلر في فيلم تاريخي بأنياب مروّسة وعيون تنزّ دماً؟ المرعب في الفيلم ليس الصور ولا ظهور أشخاص كانت الرقابة الذاتية حجبتهم عن أي فيلم غير وثائقي. المرعب أن هذا الفيلم يفرز المشاهدين حسب انتماءاتهم وتاريخهم القومي أو حتى الشخصي. فإذا استثنينا بعض اقطاب اليسار الألماني، وخروج المخرج فيم فندرز بمقالة تدين الفيلم، يمكن القول إن الجمهور الألماني أحب"السقوط". فالفيلم استطاع أن يدين على نحو واضح هتلر والنازية، من دون ان يقدم اي تنازل لسياسة المانيا وقتذاك، أو أن يعيد كتابة التاريخ بطريقة تشكك بإجرام هتلر أو بالمحرقة اليهودية. لكنه كذلك استطاع أن يظهر آلام الشعب الألماني، وهي آلام ومآسٍ لم يكن ممكناً اظهارها في السابق عن شعب استُخدم أداة لقتل ملايين البشر. وإذا كان تدمير المدن الألمانية، ومقتل مئات الآلاف والتشريد والموت بسبب المجاعة، هي من النتائج الوخيمة لحرب أرادتها المانيا النازية، فكانت من ثم نتائج متوقعة رغم فظاظتها، يبقى أن طرد ملايين من ذي الأصول الألمانية في دول أوروبا الشرقية بعد الحرب لمجرد كونهم ذوي أصول ألمانية، هو الآخر عمل لاإنساني قلّما استطاع الألمان التكلم عنه في السابق. ونجاح الفيلم في اظهار البؤس الألماني من دون تبرئة النازية، رافقه"نجاح"آخر: إظهار أن هتلر ليس بالضرورة وليد الثقافة الألمانية. فكل الرعونة والكلام الكريه مما ينطق به الفوهرر في الفيلم، يُمكن تصوره صادراً عن فم أي ديكتاتور في العالم. طوال الفيلم كنت أرى صدام حسين فيما النقاش دائر في الفيلم بين أعوان هتلر حول الموت من أجل"القضية"أو العيش مع الهزيمة، وكان ما يحملني إلى ما نراه اليوم في العالم العربي، الجدل بين من يبارك ومن يلعن العمليات الانتحارية. واظن ان مشاهداً من أميركا الجنوبية سيرى حتماً في هذا الفيلم بينوشيه اوفيديل، والمُسن الاسباني سيذكّره الفيلم بفرانكو. فاستثنائية هتلر، التي ساهم في توليدها حجب صوره، كانت تطمئننا الى اننا نعيش في زمن مختلف، وان طغاتنا، مهما ارتكبوا من جرائم، ما زالوا يختلفون نوعياً عن الشر النازي، وبالتالي يمكن محاورتهم وحثّهم على تغيير أسلوبهم في الحكم. ظهور هتلر كإنسان، مجنون أو شرير الا أنه انسان، قد يشمئز منه المشاهد اليهودي، وهو على حق في ذلك. لكن هذه الصورة تولّد الخوف لدينا جميعاً. فعدم اظهار الاختلاف النوعي بين حقد هتلر على الشعب الألماني، الذي سئم الحرب في أيامها الأخيرة، وكراهيته لليهود التي تمتد جذورها إلى ألفي سنة، هي من رواسب الفيلم القليلة. واليوم مع ظهور عداء لليهود في العالم حتى في دول كبريطانيا، قررت وسائل الإعلام الأوروبية حشد طاقاتها في ذكرى تحرير اوشفيتز، للكلام عن المحرقة، وللتأكيد على استثنائية الحدث. فاليهود قُتلوا، ليس لأنهم كانوا يساراً أو شيوعيين أو جنوداً، بل فقط لكونهم يهوداً أو حتى من أصل يهودي. وهي حملة إعلامية وجدت بعض الأصداء المخيفة في العالم العربي التي رأت مجدداً مؤامرات صهيونية وكلاماً حول"رواية الهولوكوست"!