يوم كان للاتحاد السوفياتي وجود على هذه الأرض، كانت الإمبريالية تعني للكثيرين الشيء الكثير. لكن مع زواله، اصبحت الكلمة ذاتها اقل دلالة واستخداماً، على رغم انها تكاد تكون اكثر انطباقاً على وصف سياسة الولاياتالمتحدة الحالية. لكن بدا ان عقد التسعينات وما حمله من تغييرات بنيوية على صعيد الخريطة الدولية والفكرية والثقافية، كانهيار دول المنظومة الاشتراكية وسقوط جدار برلين وبروز الرأسمالية كأفق اقتصادي ناجح وحيد، والانتصار الساحق لفكرة الديموقراطية السياسية بالنسبة الى معظم الثقافات والحضارات، وتصاعد العولمة بميكانيزماتها التقنية والإعلامية كوجهة كونية، كل ذلك ترك بصماته على صعيد الأفكار، إذ بات الجميع في حاجة الى مراجعة نقدية بدت مصيرية بالنسبة الى الفكر الماركسي تحديداً الذي راهن على نموذج الاتحاد السوفياتي بديلاً حقيقياً ووحيداً للقطب الأميركي الإمبريالي. لكن السياسة التدخلية الأميركية في حرب الخليج عام 1990 وكوسوفو عام 1996 وغيرها جعلها مصدر سخط للكثيرين، ثم جاءت احداث 11 ايلول سبتمبر 2001، وصادف ذلك وجود إدارة اميركية محافظة في سدة الرئاسة، فانقلبت سياسة الولاياتالمتحدة من سياسة ذرائعية الى سياسة وقائية وإيديولوجية، مما فاقم حجم الكراهية العالمية ضد الولاياتالمتحدة، وبات سؤال"لماذا يكرهوننا؟"محركاً للكثير من الندوات والكتابات والأفكار داخل الولاياتالمتحدة. وأتت حرب العراق، غير الشرعية في نظر القانون الدولي في آذار مارس 2003 لتجعل من اميركا منارة السخط في العالم، وتحولت كراهيتها داخل اوروبا والعالم الإسلامي دليلاً نظرياً وعملياً يسير عليه الكثيرون، وأخذت هذه الكراهية شكل ايديولوجيا عدائية داخل هاتين البقعتين من العالم، وحتى داخل الولاياتالمتحدة نفسها سيما ضمن المثقفين المصنفين في خانة اليسار كالصحافي الأميركي الشهير غور فيدال في كتابه"حرب دائمة من اجل سلام دائم: كيف اصبحنا مكروهين الى هذا الحد"والمفكر الأميركي نعوم تشومسكي في كتاباته المتواصلة وأشهرها كتابه"الغزو مستمر". غور فيدال يحاول ان يجيب عن سؤال الكراهية المعممة للولايات المتحدة في العالم من زاوية مختلفة، إذ يعدد الحروب المتواصلة التي قادتها الولاياتالمتحدة ضد دول ومنظمات وأفكار في العالم وأحياناً ضد لا شيء، مما يجعل ثلاثاء الحادي عشر من ايلول 2001 اجابة بديهية وطبيعية. لكن، فيدال الذي يركز في شكل كبير على شخصية تيموثي ماكفاي، الذي فجر مبنى فيديرالياً في ولاية اوكلاهوما في 19 نيسان ابريل 1995 مما ادى الى قتل 168 شخصاً، إذ يعتبره بمثابة المفتاح لفهم خلفيات السياسة الأميركية التوسعية. تبدو كتابات فيدال وشومسكي رائجة كثيراً لدى اليسارين الأميركي والأوروبي وأكثر رواجاً في العالمين العربي والإسلامي اللذين يعيدان انتاجهما بوصفهما"شواهد"من داخل الولاياتالمتحدة ذاتها على همجيتها وسياستها الحمقاء، وهو ما يرسل رسالة خاطئة لنا عندما نرغب باستمرار في سماع ما نود سماعه من دون اخذ مسافة نقدية لإدراك ان هذا النقد يخرج من الولاياتالمتحدة ذاتها، وبالتالي، علينا ألا نقف عند حدود تكراره وترداده، وإنما إدراك اللوحة كاملة، إذ لا يمكن بناء سياسة على كراهية الولاياتالمتحدة وحدها، بل علينا ان ندرك ان الدينامو والمحرك الاقتصادي والإعلامي داخل اميركا هو ما يحرضها باستمرار على تطهير سياستها وإرضاء غرورها العسكري، ولذلك فإنتاج ايديولوجيا جديدة تقوم على كره الولاياتالمتحدة ستجعل منا مجدداً أسرى الشعارات والأوهام، فالولاياتالمتحدة لا تختصر في السياسة، إنها مجتمع متعدد وغني ومملوء بالإبداعات والتناقضات، فهي المحرك الرئيس لاقتصاد العالم، وحجم الأفكار والنظريات التي تضخها يفوق ما تضخه دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، لذلك يبدو من قصر النظر وعدم الإدراك السياسي والمعرفي قراءة الولاياتالمتحدة على انها جورج بوش فقط. وإعادة إنتاج كراهية الولاياتالمتحدة كإيديولوجيا تقوم عليها السياسات والأحزاب القومية يكشف عن خلل عميق في بنية التفكير العربي، فالسياسة اليوم تتطلب قبل كل شيء قراءة الخريطة بأبعادها الاقتصادية والإعلامية كاملة وإدراك تأثيراتها المصلحية، ثم تقديم الآراء والأفكار السياسية، لكن، تقديم ايديولوجيا الكراهية على كل ذلك لن يخلف في عالمنا إلا فقراً معمماً فكرياً وسياسياً ونظرياً. لذلك من المهم ان نقرأ ما يكتب تشومسكي وفيدال وغيرهم لكن شرط عدم نسيان الشرط السياسي الذي تكتب لأجله هذه الكتابات، وعدم إغفال انه يصدر من الولاياتالمتحدة نفسها. كاتب سوري.