أميركا تؤيد وتدعم وجود أوروبا قوية. تلك كانت الخلاصة التي خاطب بها الرئيس الأميركي جورج بوش مستمعيه المختارين في بروكسيل. لكن الملفت أكثر كان ذهابه الى بروكسيل بالأساس باعتبارها عاصمة"الأتحاد الأوروبي". الخبراء يتذكرون في ما مضى حينما اعتاد وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر التعلىق ساخراً بقوله أنه سيتعامل مع أوروبا بجدية - ككيان - حينما يصبح لها رقم هاتف واحد يستطيع أن يطلبه. والآن ها هو يفعلها جورج بوش، ليس بالهاتف، ولكن باختياره بروكسيل تحديداً لإلقاء خطابه الأوروبي الأول في رئاسته الثانية. هو لا يدعم أوروبا القوية فقط ولكنه يحدد السبب أيضا بأنه:"لأننا نحتاج الى شريك قوي في المهمة الشاقة التي هي نشر الحرية في العالم". فلنترك الحرية للشعراء... موقتاً... وندخل في الحديث الجاد. في ظل رئيس أميركي سابق هو ليندون جونسون هو الآخر كان من ولاية تكساس وبرعايته قامت اسرائبل بغزوتها الكبرى في حزيران يونيو 1967. وقتها كان الزعيم الفرنسي في السلطة هو شارل ديغول الذي حذر مسبقاً من أن فرنسا ستكون ضد الطرف الذي يبدأ الحرب. وحينما بدأت إسرائيل الحرب عاقبها ديجول بوقف صفقة من 05 طائرة ميراج فرنسية كانت إسرائيل تعاقدت علىها قبل الحرب وسددت ثمنها مقدماً. لكن إسرائيل استطاعت بالحرب احتلال أراضي ثلاث دول عربية فأصبحت السياسات الدولية من وقتها تعرف ما يسمى"قضية الشرق الأوسط". عندها خرج ديغول من جديد ليدعو الى تسوىة الأزمة أولاً بمشاورات بين الدول الأربع الكبرى: الولاياتالمتحدة والإتحاد السوفياتي وفرنساوبريطانيا. تعقيباً على ذلك، وبعيداً عن الكاميرات، قال جونسون:"أنا لا أعرف أن في العالم توجد أربع دول كبري. أعرف فقط أننا والأتحاد السوفياتي الدولتان الكبريان الوحيدتان. من هم الآخرون؟". دارت الأيام. اختفى الإتحاد السوفياتي ومعه الحرب الباردة التي انتحلت لها أميركا عناوين ايديولوجية باعتبارها مواجهة بين"العالم الحر"ودول ما وراء"الستار الحديد". إذن: هل تعود أميركا الى التشاور مع حلفائها التقليديين في أوروبا شركائها في المواجهة؟ الكلام كبير والفعل قليل. وخلال الرئاسة الثانية لبيل كلينتون في البيت الأبيض تلقي رسالة ودودة من الرئيس الفرنسي جاك شيراك. في الرسالة يقرر شيراك استعداد فرنسا للعودة الى الجناح العسكري في منظمة حلف شمال الأطلسي ناتو التي كان ديغول انسحب منها في سنة 1966... فقط اذا تكرم الرئيس الأميركي العزيز بالموافقة على وجود ضابط فرنسي في أحد المواقع الكبرى في القيادة الجنوبية لحلف شمال الأطلسي. الرئيس كلينتون رفض العرض ومعه الطلب الفرنسي. السبب: ان القيادة الجنوبية هي المسؤولة عن حوض البحر الأبيض والتنسيق مع إسرائيل. أميركا تريد إسرائيل امتدادا لجدول أعمالها - جدول أميركا - من غير تطفل أوروبا... فرنسا أو غيرها. مع جورج بوش الثاني تطورت المسألة الى أبعاد أكبر لأن ادارته أعلنت في أيلول سبتمبر 2002 استراتيجية جديدة لأمنها القومي تعطي فيها لنفسها حق وسلطة شن الحروب الوقائية والاستباقية حيثما شاءت ومتى شاءت. ومع تزعم فرنسا وألمانيا معارضة التوجه الأميركي لغزو العراق عسكرياً خرج وزير الدفاع دونالد رامسفيلد علناً يسخر منهما تحت عنوان أنهما تمثلان أوروبا القديمة مقابل أوروبا الجديدة التي تعوّل علىها أميركا لتكون التابع والمطيع لسياساتها. كانت الفكرة الأميركية وقتها هي"فرق... تسد". فبالتفرقة بين أوروبا قديمة وأخرى جديدة يمكن لأميركا أن تسيطر علىهما معاً. وقبل سنة ونصف من الآن تابعنا مجلة"ويكلي ستاندارد"التي هي مجلة محافظة ذات ارتباطات حميمة بصقور ادارة جورج بوش وهي تجادل بأن على الولاياتالمتحدة أن تعارض نشوء أوروبا الموحدة لأنها يالتأكيد ستصبح جزءا من التوجه الفرنسي/ الألماني الساعي الى علاقة أكثر استقلالية عن جدول الأعمال الأميركي. أميركا ساندت عملية التكامل الاقتصادي الأوروبي في بداياتها اتقاء لخطر التمدد الأيديولوجي السوفياتي غرباً. لكن بتفكك الأتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة ودخول دول حلف وارسو سابقاً في عباءة حلف شمال الأطلنطي تغيرت الحسابات. من ناحية... لم يعد المحافظون الجدد في واشنطن يرون الوحدة الأوروبية كحليف ولكن كمنافس. بعد كل شيء فإن 25 دولة عضواً في الأتحاد الأوروبي أصبحت تمثل وزنا اقتصادياً يساوي 11 تريليون دولار انتاجاً سنوياً. وزن يتعادل تقريباً مع الولاياتالمتحدة وبعملة موحدة بدأت حثيثا تنافس الدولار الأميركي في السوق الدولية. ومن ناحية أخرى فإن الإتحاد الأوروبي في طبعته الأخيرة أصبح أكثر ثقة بالنفس وأقل احتىاجا الى المظلة الأمنية الأميركية من خلال حلف شمال الأطلسي. بالعكس. تتزايد في الاتحاد الأوروبي الدعوة - وبدفع من فرنسا وألمانيا - الى تدعيم بناء قدرة عسكرية أوروبية مستقلة عن حلف شمال الأطلسي، وهي دعوة تثير توجس الساسة الأميركيين ومخاوف الصناعات العسكرية الأميركية. وقبل ذهاب الرئيس جورج بوش الى رحلته الأوروبية الأخيرة كان هناك مؤتمر ميونيخ السنوي للأمن مسبوقاً بتوقعات أميركية عن حدوث مصالحة بين جانبي الأطلسي. لكن المفاجأة جاءت في خطاب المستشار الألماني غيرهارد شرودر ورأي فيه أن حلف شمال الأطلسي لم يعد هو"المكان المفضل"لتحقيق التنسيق الاستراتيجي بين جانبي المحيط الأطلسي... وأن الحلفاء يجب علىهم التوقف عن النظر الى الماضي وأن يقوموا بتجنيد مجموعة من"الشخصيات المستقلة"لإلقاء نظرة جديدة على مستقبل العلاقات الأطلسية. الإشارة واضحة: أوروبا متململة من علاقة التبعية الكاملة لأميركا عسكرياً وسياسياً في الماضي وتتطلع الى توجه مختلف في المستقبل. البعض رأى في خطاب جورج بوش في العاصمة البلجيكية أنه خطاب مصالحة مع أوروبا. البعض لفت نظره التصفيق للرئيس. لكن مع اجتماع مدروس ومرتب بدقة مسبقاً على النحو الذي جري والموسيقي التصويرية المجهزة أميركيا أصبح السؤال هو : أين تنتهي العلاقات العامة وأين يبدأ المضمون؟ اذا قال جورج بوش لمضيفيه: أميركا تحبكم فاتبعوني... هذا يعني المزيد من السياسات الانفرادية نفسها وجدول الأعمال المتسع المطاط الذي تقوم فيه أميركا بالمهمة التي تناسب مصالحها بينما تقوم أوروبا بمهمة أن تحمل عنها المعطف. أما اذا كانت المصالحة تعني بدء الحوار الحقيقي والمضمون المختلف... اذن يبدأ الكلام الجاد. جورج بوش مضي في خطابه. أميركا تؤيد وتدعم وجود أوروبا قوية. تصفيق. لا قوة على وجه الأرض ستفرق بيننا مطلقا. بعض التصفيق. مصر والسعودية علىهما المضي في الديموقراطية. سورية علىها انهاء احتلالها للبنان. ايران لا يجب السماح لها بصناعة أسلحة نووية. شركاؤنا علىهم الانضمام الينا في نشر الحرية حول العالم. الحرية. الحرية. الحرية. بارك الله فيكم. اذا أضفنا غزو العراق، والعقوبات لتمزيق السودان، والاحتلال المستمر في فلسطين، والقواعد العسكرية في دول الخليج، ماذا يبقي من العالم العربي؟ موريتانيا؟ جيبوتي؟ حتى جيبوتي فيها قواعد عسكرية. اذا أضفنا فرض اتفاقية"الكويز"على الأردن ومصر كمدخل للسوق الأميركية فمن المستفيد غير إسرائيل؟ أما اذا أضفنا الانخفاض المبرمج في قيمة الدولار الأميركي... فمن الخاسر غير دول البترول؟ في السنتين الأخيرتين فقط خسرت دول الخليج 68 بليون دولار بسبب تراجع سعر صرف العملة الأميركية. يعني حتى من غير غزو أو احتلال.. الأذى موجود وبصنعة لطافة عنوانها"اقتصاد السوق". أما اذا توسعنا الى الإطار الأكبر والأشمل دولياً فسنجد الأخطر. فالبنوك المركزية الآسيوية في معظمها، وفي مقدمها"بنك الشعب"في الصين، أصبحت هي التي تقوم عمليا بتمويل ما بين 75 و 80 في المئة من العجز التجاري الأميركي. هذا يعني أن الصين تصدر الى أميركا سلعاً حقيقية تحصل في مقابلها على دولارات أميركية تتراجع قيمتها بانتظام. مع ذلك ترفض أميركا أي توجه أوروبي لاستئناف صادرات الأسلحة الدفاعية الى الصين. الحجة هي توازن القوى، لكن الحقيقة هي أن شركات السلاح الأميركية لا تريد من منافسين أوروبيين أن يسبقونها الى سوق الصين المتسع الذي تحتجزه لنفسها حينما يناسبها ذلك. في خطاب استمر 32 دقيقة ألقاه جورج بوش في بروكسيل أعطي الكثير من الموسيقى والقليل من المضمون. المشاعر فياضة لكن المصالح محددة. ومن بين تعلىقات شتى لفت نظري ما قاله المستشار الألماني السابق هيلموت شميت:"ان الزيارات الخارجية لرؤساء الدول يكون نصفها عادة مخصصاً للاستعراض على شاشات التلفزيون المحلي في بلادهم"... و:"على الرأي العام الأميركي - وهو يشاهد التليفزيون - أن يدرك أن الأوروبيين لن يكونوا خدما وأنهم يريدون الحفاظ على كرامتهم"لأنه برغم كل تلك الحميمية التي تحدث بها الرئيس بوش عن الأوروبيين والألمان فإن السياسة الخارجية الأميركية لم تتغير ميدانياً وبوش نفسه لم يتغير بعد اعادة انتخابه ذلك التغيير الذي يدفع الأوروبيين الى تغيير آرائهم فيه. في الواقع انه بالتوازي مع رحلة جورج بوش الأوروبية نشرت وكالة"أسوشيتدبرس"الأميركية للأنباء استطلاعاً للرأي جرى في تسع دول أوروبية وغير أوروبية. في الاستطلاع تصدرت فرنسا قائمة معارضي خطط جورج بوش لنشر الديموقراطية، إذ أن 84 في المئة من الفرنسيين المشاركين في الاستطلاع اعترضوا على محاولات واشنطن لعب دور المسؤول عن نشر الديموقراطية ومحاربة الأنظمة الاستبدادية في العالم. الألمان اعترضوا بنسبة 08 في المئة. حتى الأميركيون أنفسهم رفضوا بنسبة 53 في المئة محاولات الإدارة الأميركية انتحال هذا الدور. بالطبع ليس العيب في الديموقراطية وانما المشكلة هي من ينتحل لنفسه تفويضا من السماء بنشرها. وفي الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير خارجية مصر الى واشنطن مثلاً وقفت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية في مؤتمرها الصحافي المشترك معه لكي تسمعه ما قررته هي من تنبيهات أميركية. تنبيهات قالت الوزيرة إنها لحساب الإدارة والكونغرس والشعب الأميركي. كله في خيط واحد. وكله: باسم الديموقراطية. تنبيهات... ولا في عز وجود امبراطورية بريطانيا العظمي كقوة مسيطرة على المنطقة. هذا يذكرني بالقصة الرومانية القديمة عن القاضي الذي افتتح جلسة محاكمة المتهم بقوله:"جهزوا لنا حبل المشنقة حتى نبدأ في هذه المحاكمة العادلة". الخبر الجيد في حالتنا انه لا توجد مشنقة. الخبر السيء هو أن المتهم عندنا يتصرف فعلاً... كمذنب. * كاتب مصري.