شاب وصديقته في سيارة ينتظران على حاجز إسرائيلي قبل دخول القدس. الشاب بعيون كبيرة واجمة، يذكّرنا بالكوميدي العظيم من أوائل عصر السينما الصامتة: بستر كيتون. الشاب الذي يبدو محبوساً في سيارته الصغيرة… يطلق"بالونة"حمراء صغيرة، تغادر عبر فتحة ال slide roof في سقف سيارته. تطير البالونة الحمراء في السماء"الحرّة"، نتابعها تخترق الهواء الى الأعلى والى الأمام، وكأنها تدري أين تذهب… لكنها ليست مجرد بالونة يلعب بها الأطفال وحسب، على البالونة مرسوم صورة وجه ملتح يعتمر عقالاً عربياً، على وجهه ابتسامة عريضة جداً، تكاد ان تكون ضحكة… انه أخطر رجل في العالم: أبو عمّار. تطير البالونة بحرية"طبيعية"وسلاسة وسط حيرة الجنود ووجومهم الذي يمنعهم من إسقاطها برصاصة واحدة… انهم يريدون ان يروا الى أين ستصل هذه البالونة العنيدة؟ البالونة الرقيقة يحملها الهواء فوق التلال والروابي والمزارع، فوق البيوت وأعمدة الهاتف والكهرباء... تصل القدس، تتجول بين الأقصى وكنيسة القيامة، لتستقر في النهاية على القبة الذهبية، كما لو كان أبو عمّار هو الذي يسيّرها عن بعد... فات الوقت على إسقاطها الآن. السينمائي"الحالم"، السينمائي المبدع، يحقق بوسائله وفنّه نصراً"رمزياً"و"جمالياً"صاعقاً، ومباشراً في"الهدف"، متفوقاً على العديد من العمليات العسكرية"الدموية". ووسط كل الجدل والمتناقضات التي أحاطت بياسر عرفات ، والثورة الفلسطينية عموماً . في السنوات الأخيرة، كان هذا المشهد القصير من فيلم"يد إلهية"للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان: هو الأبلغ والأجمل… في تقديم هذا الرجل الذي ظل يتلقى الضربات ، هو وشعبه ، من كل الجهات، على مرّ السنين. للمرة الأولى، وربما للمرّة الأخيرة، تكون صورة رئيس عربي - أو حتى أجنبي - بهذه القوة"التعبيرية"والجمالية"الثورية". أتمنى لو يشاهد جميع الناس هذا المشهد"البليغ"سينمائياً وسياسياً، وان يتذكروا دائماً وجه عرفات المبتسم، مرسوماً على بالونة حمراء تحملها النسمات الى القدس… ولو في فيلم سينمائي! أرقد بسلام يا ابو عمّار… ابتسامتك"العريضة"جداً عبرت الحواجز والجنود... ووصلت مثواها الأخير: القدس … حتى قبل ان تموت !