فلنتخيل المشهد على النحو الآتي: ذات ليلة، بعد شهور من يومنا هذا، يتحرك ستة أشخاص، أو سبعة ملثمون حادّو النظرات تحت جنح الظلام ويتحلقون من حول قبر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في رام الله. ينظرون في كل الاتجاهات لكي يتأكدوا ان أحداً لا يراهم، ثم يحفرون القبر، وبمعجزة ما، يتمكنون من تحطيم البيت الاسمنتي... يتوقفون للحظة متعبين، ثم ينظرون معاً في اتجاه واحد منهم وقف عند ناصية يراقب المناطق المجاورة كلها. وإذ يستأنفون تحركهم بإشارة من يد ذاك الذي يراقب، يتمكنون في نهاية الأمر من اخراج الكفن العزيز على قلوبهم جميعاً، ثم يركضون به، ودائماً تحت جنح الظلام، حتى يصلوا الى شاحنة سوداء صغيرة كانوا أوقفوها عند زقاق ضيق. بعد أن يضعوا الكفن والجثمان في داخله في صندوق الشاحنة، يتحلقون ليقرأوا الفاتحة... ويمسح بعضهم دموعه، ثم يستقلون الشاحنة معاً وينطلقون بها. انها الثانية ليلاً... بعد دقائق سيعبرون، مواربة أول حاجز اسرائيلي، ثم الحاجز الثاني... وبعد أقل من نصف ساعة سيكونون قد وصلوا مشارف القدس. هنا تبدو مهمتهم أصعب، ولكن ما سيسهلها ان مجموعة صغيرة أخرى ستنضم اليهم مؤلفة من أشخاص يحملون هويات اسرائيلية: بعضهم من عرب القدس، وبعضهم شبان يهود متطوعون. في نهاية الأمر يصل الموكب بعد نحو ساعة - في نوع من المعجزة التي لا يعرف أحد غير فن السينما كيف يحققها - الى جوار المسجد الأقصى... وخلال ساعة أخرى سيكون الشبان قد وصلوا الى زاوية من حديقة المسجد، ليكتشفوا ان رفاقاً سبقوهم الى هناك قد حفروا قبراً. في النهاية يدفن الجثمان بكفنه في القبر... ويقرأ الجميع الفاتحة... ثم يتفرقون مبتسمين دامعين وقد أحس كل واحد منهم انه أدى واجباً وطنياً وانسانياً. مشهد يصلح بالطبع ليختتم فيلماً سينمائياً... لا أكثر حتى الآن!. حيث ان الواقع يبدو أقل سهولة، وأكثر قتلاً بكثير... ومع هذا، يذكر كثير كيف ان مناضلي الثورة الجزائرية، حملوا ذات يوم جثمان المناضل فرانز فانون عابرين به الحدود التونسية الى أرض الجزائر التي كان الاحتلال الفرنسي لا يزال قابعاً فيها، حيث دفن ذلك المناضل الأسود بحسب امنيته التي كان دائماً ما عبر عنها، بأن يدفن في تلك الأرض التي أحبها وناضل في سبيلها، ولكن محتليها رفضوا تحقيق امنيته. ما أشبه الليلة بالبارحة! ومع هذا لا يمكن للمشهد الذي ذكرنا أن يتحقق خارج الحلم، اليوم، أو خارج السينما. ويقيناً انه لو تحقق في السينما لكان من شأن ذلك أن يرضي روح أبو عمار... فهو كان يتمنى دائماً أن يدفن في القدس... وهو كان يحب السينما، ويشتغل على صورته فيها بدأب وعناية. ولئن كانت السينما قد بادلت "الختيار" حبه لها طوال أكثر من ثلث قرن، فإن ثمة سينمائياً على الأقل سيشعر بالطرب ان واتته يوماً فكرة هذا المشهد وقرر تحقيقه: وهذا السينمائي هو أوليفر ستون، الذي نعرف انه حقق عن ياسر عرفات واحداً من آخر أفلامه التسجيلية. وحسبنا هنا ان نذكر عنوان هذا الفيلم، حتى ندرك دلالة كل هذا المشهد، وخرقه للمراسيم الاسرائيلية التي جعلت من عرفات شخصاً غير مرغوب فيه. فعنوان الفيلم هو، بالتحديد "شخص غير مرغوب فيه" برسونا نون غراتا. علامة فارقة هل يمكن أحداً أن يحصي، يا ترى، عدد الصور والمشاهد والأفلام الملتقطة لياسر عرفات، منذ كان لا يزال يعرّف، وهو شاب نحيل الجسم ثابت النظرات، ب"الناطق الرسمي باسم منظمة فتح"، وحتى لحظاته الأخيرة حين صعد الى الطائرة التي أقلته الى عمان ومنها الى باريس، مرتدياً للمرة الأولى أثواباً أخرى غير تلك التي شكلت ديكوراً حقيقياً لشخصيته طوال عقود عدة من السنين؟ في المقاييس الجمالية، لم يكن ياسر عرفات لا آلان ديلون ولا توم كروز... ولم يكن حتى محمود ياسين أو محمود المليجي، ولكنه كان محبوباً من الكاميرات الى درجة مدهشة. كان السينمائيون يرون، حتى في شكله الخارجي، قطباً جاذباً للصورة هو الذي كان في مطلق الأحوال شخصية كاريزمية، لم يتفوق عليه في كاريزميته طوال نحو نصف قرن من الزمن العربي سوى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، الذي يحلو لكثر مقارنته به على صعد عدة، لعل أبرزها القدرة العجيبة على تحويل كل هزيمة الى انتصار، وكل عبارة سياسية الى شعار. في هذا المجال لا يمكن أحداً أن يقلل من قيمة اشارة النصر التي كان يرفعها عرفات في كل لحظة ومناسبة، إذ غدت علامة فارقة، مثل كوفيته ولحيته المتروكة، وشفتيه المرتجفتين بحسب الظروف. وكاميرات السينما التقطت هذا كله. والتقطته بخاصة كاميرا أوليفر ستون، الذي بعدما وقف عكس التيار في السياسة الأميركية طوال سنوات وسنوات وحقق أفلاماً - روائية غالباً - ناوأ فيها هذه السياسة، واتته خلال الأعوام الأخيرة فكرة صفق لها بنفسه: لم لا أحقق فيلمين تسجيليين عن شخصين يعتبرهما العقل الأميركي، السلطوي والشعبي الى حد ما، أكبر عدوين لأميركا؟ وهكذا انتقل ستون بغتة من السينما الروائية ليحقق فيلماً عن فيدل كاسترو، وفيلماً آخر عن ياسر عرفات. اللافت هنا بالنسبة الى مشروع أوليفر ستون المزدوج هو ان كاسترو، المتحفظ عادة وغير المحب للكاميرا السينمائية، بدا متجاوباً وشغل الفيلم كله بقامته وحديثه وأفكاره. أما عرفات، فإنه استنكف عن لعب اللعبة حتى منتهاها. ولعل الأمر ينبع من واقعية كاسترو المفرطة التي جعلته يدرك أهمية ان يضع وصية سياسية كاملة بين يدي "عدو عدوه"، في مقابل ايمان عرفات بأن النهاية ليست قريبة، وان الوقت لا يزال امامه طويلاً للمناورة ولعل هذا السبب هو ما منعه طويلاً من كتابة مذكراته... فالسياسيون العرب، ومنهم عرفات، لا يصدقون أبداً ان ثمة وقتاً يحين يتعين عليهم فيه أن يتركوا السياسة ويستخلصوا دروس تجربتهم فيها، في مذكرات يكتبونها أو وصايا سينمائية - سياسية، يصورونها. لذلك، وعلى رغم معرفة عرفات بأهمية أوليفر ستون، وأهمية فيلم عنه يحققه ستون. وعلى رغم معرفته بأن الفيلم كله سيتحدث عنه وعن قضيته، تغيّب، ولم يقبل بأن يعطي الفيلم ومخرجه الكثير من وقته. ومن هنا أتى "آخر فيلم حقق عن "عرفات"، فيلماً يتحدث فيه الآخرون عن عرفات وعن قضية عرفات، بينما هو لا يظهر إلا في عدد قليل جداً من المشاهد. وعلى هذا يكون أوليفر ستون قد أضاع فرصة ثمينة... كما ان السينما لم تحصل على تلك الوثيقة النادرة التي كان سيكونها هذا الفيلم الذي يحمل عنوانه كل الدلالات التي توخاها اوليفر ستون في حديثه عن عرفات وبالتالي: عن الفلسطيني في شكل عام كشخص غير مرغوب فيه من جانب سادة هذا العالم ومحتلي أراضي الآخرين. فرصة ثمينة كان سيشكلها فيلم أوليفر ستون؟ بالتأكيد. ولكنها لم تكن المرة الأولى التي يفقد فيها السينمائيون البوصلة، وحتى الحماسة، في مجال تعاطيهم مع ياسر عرفات. فهو، بعد كل شيء، وعلى رغم حبه للسينما وإدراكه لأهمية الصورة في رفده القوي لقضيته، كان يعرف أن "السينمائي الشاطر يمكنه أن يعثر على عشرات ألوف الأمتار وألوف الأفلام التي صورته، ويمكن دائماً استخدامها في توليف ذكي" بحسب ما نقل عنه مرة مخرج تسجيلي فلسطيني فاتحه ذات يوم برغبته في أن يصور فيلماً يدوم ساعات طويلة حول حياته وكفاحه. طبعاً، لم يدرس ياسر عرفات فنون السينما، ولم يكن ضليعاً في تقنيات التوليف المونتاج ولكنه، لكثرة ما صُوّر، ولكثرة ما طرح اسئلة على مصوريه متعاطفاً معهم ومع مهنتهم، ولكثرة ما كان يستبد به من فضول، كان يعرف تماماً أن كل جديد لديه قديم. وان العام والوطني والقومي الذي طالما شكل مواضيع وتفاصيل الأفلام السابقة التي صورت معه وعنه، يكفي لسنوات طويلة مقبلة. وما على "المخرج الذكي" إلا أن يبحث فيجد دائماً ضالته، من دون اضاعة أي لحظات ثمينة من تلك التي يكرسها "الختيار" للقضية وأبنائها. والحقيقة ان أي مخرج ذكي كان سيجد، لو اتبع نصيحة سيد السلطة الفلسطينية، ما يكفيه لمئات الشرائط والساعات المولفة. ذلك ان السينمائيين لم يتوقفوا عن تصوير عرفات في كل لحظة من لحظات حياته ونضاله، أولاً كمتحدث بسيط وغامض باسم أول المنظمات التي ناضلت حقاً في سبيل القضية في شكل منظم وذي غايات نضالية واعلامية في الوقت نفسه، ثم كقائد لفتح فلمنظمة التحرير... وبعد ذلك كمحاول في الأردن منع رفاقه واخوانه الفلسطينيين من الانتحار، قبل أن يصبح فور ذاك رقماً صعباً في سياسة الشرق الأوسط وتكثر صداقاته وعداواته، وصولاً الى انحصاره وانحصار القضية في لبنان، حيث أمضى سنوات الحرب يتأرجح بين اعتبار نفسه "حاكماً" واعتبار نفسه "مناضلاً" أو "حكماً" أو "معتدلاً" يهدئ من روع قوى خيل اليها ان "انتصار الثورة" و"حركة التحرر العربية... وربما العالمية أيضاً" صار وشيكاً "انطلاقاً من هانوي العرب" - الاسم الذي راح البعض يطلقه على بيروت في صيغة نكتشف اليوم كم كانت كاريكاتورية... وكم كانت كاريكاتوريتها مبكية مؤلمة للبنان وأيضاً للفلسطينيين. وهو أمر كثيراً ما عبر عنه ياسر عرفات بعد ذلك في لحظات صفائه! المهم ان الكاميرات السينمائية - والتلفزيونية، صورت عرفات في حالاته تلك كلها، وهو كان "شاطراً" جداً في التعامل مع الكاميرات تلك. كان يعرف كيف يبتسم وكيف يقطب أمام الكاميرا... كيف يعبر بحركة يد ما أو بعكسها... الى أين يلتفت في لحظة معينة. وكيف يختار اللحظة التي يقبّل فيها أحداً وآه كم كان يقبّل كل أحد! ومتى يجب على عينيه أن تدمعا وآه كم كانت عيناه تدمعان أمام الكاميرات!. في هذا الاطار كله كان عرفات فناناً كبيراً... ولكنه كان أيضاً تلميذاً نجيباً لعبدالناصر، بل تفوق عليه فيه كثيراً... كما انه سيكون لاحقاً استاذاً رائعاً لكثر من الذين - من بين السياسيين العرب - باتوا أخيراً يعرفون انهم حين يواجهون الكاميرا، إنما يواجهون ملايين المتفرجين... لا مجرد فريق تقني فضولي ومتعاطف. وفي العمل الفلسطيني تحديداً، ليس ثمة سابق لعرفات أو لاحق له، حتى الآن في مجال ادراك أهمية الكاميرا وقوتها. وحسبنا للتيقن من هذا ان نقارن بين طلة عرفات وبين طلات كل مسؤولي المنظمات الفلسطينية الأخرى، بما فيم قادة "حماس" و"الجهاد الاسلامي"، من الذين ما إن يقفوا أمام الكاميرا حتى يخيل اليهم، اما انهم مذيعو نشرات اخبار، أو معتقلون قيد الاستجواب. عرفات أمام الكاميرا كان هو الذي يستَجْوِب... وكان يعرف انه هو الذي يصنع الخبر. وكان هذا مصدر قوته. حكاية بالون انطلاقاً من هذا كله، قد يكون صحيحاً اليوم ان عرفات الحقيقي، اللاعب الكبير، الرقم الصعب، رجل الكوفية والكاريزما، صاحب العبارات المتناقضة والمتعاكسة... والتي تصبح الكلمات الفصل حتى في تناقضها وتعاكسها، انما هو موجود على الأشرطة أكثر بكثير من وجوده في الذاكرة وفي ما قد يحلو للآخرين ان يرووه عنه. وعرفات الذي - بعد رحيله الآن - سنعتاد على أن نحبه أكثر وأكثر ثم بخاصة: أن نفهمه أكثر وأكثر، في وجوده في تلك الأشرطة، عرف كيف يجعل لفلسطين نفسها ذاكرة سينمائية حقيقية، ويجعل نفسه جزءاً من تلك الذاكرة... ومن هنا قد تكون اللعبة الأكثر دلالة اليوم هي تلك التي تقوم في استعراض مئات الأفلام التي حققت عن الثورة الفلسطينية وعن ياسر عرفات، على الأقل منذ العام 1969 مع فيلم "لا للحل السلمي" الذي حققه مصطفى أبو علي وآخرون وصوره الراحل هاني جوهرية وحتى "شخص غير مرغوب فيه" لأوليفر ستون، مروراً بكل تلك الأعمال التي حملت تواقيع جان شمعون وغالب شعث وسمير نمر وقيس الزبيدي وعشرات غيرهم من العرب، اضافة الى تواقيع ألمان وفرنسيين من بينهم جان - لوك غودار وانكليز من بينهم فانيسا ردغريف... اضافة أيضاً الى أفلام حملت توقيعات جماعية أيام كانت ثورة شبان 1968 لا تزال ذات تأثير وتدعو الى شتى أنواع النضال اليساري الثوري في تحليق واضح من حول فلسطين وزعيم ثورتها... فالحال أن استعراضاً لكل هذه الأفلام سيكشف لنا كم ان السينما أحبت فلسطين وقائد ثورتها، وكم ان هذا الأخير أحب السينما... لقد اكتفينا هنا بالحديث، اختصاراً عن سينما الواقع الوثائقي والتسجيلي، التي غالباً ما جعلت، في اطارها الفلسطيني، من ياسر عرفات نجمها وبطلها... ذلك انه اذا كان ثمة الآن وجود لسينما أخرى عن فلسطين هي السينما الروائية، التي كانت تصنع على أيدي عرب متعاطفين أبرزهم توفيق صالح وبرهان علوية، قبل أن يقبض مبدعون فلسطينيون على مصير سينماهم بأيديهم أبرزهم ميشال خليفي ورشيد مشهراوي وهاني أبو أسعد وايليا سليمان، فإن هذه السينما بدت دائماً أقل اهتماماً بزعيم الثورة، أو حتى بالثورة نفسها، منها بالشعب الذي أُعلنت الثورة باسمه ومن أجله... ومع هذا، إذا كنا بدأنا هذا الكلام كله بتخيل مشهد سينمائي، قد يصبح حقيقة واقعة ذات يوم - وإن كانت كلفته ستكون باهظة بالتأكيد -، يتعين علينا أن ننهيه بمشهد آخر، متخيل أيضاً، لكنه موجود في فيلم "يد إلهية" لإيليا سليمان: في المشهد يكون الحبيبان إيليا سليمان نفسه ورفيقته في الفيلم في سيارتهما عند حاجز غير بعيد من رام الله، عاجزين عن التوجه الى القدس. وإذ يكون مع سليمان بالون زهري اللون، ينفخ صاحبنا البالون فإذا بصورة لياسر عرفات مرسومة عليه. يترك العاشق بالونه ليطير في الهواء... فيطير ويطير، والكاميرا تلاحقه، وسط ارتباك الحواجز الاسرائيلية التي لا تدري كيف يتوجب عليها التعامل معه... ويتجه البالون نحو القدس، قاطعاً الكيلومترات التي تفصله عنها وعلى شفتي عرفات ابتسامته الباكية الشهيرة. وفي نهاية الأمر، وفي غفلة - سينمائية - عن الاسرائيليين واستخباراتهم وجنودهم، يصل البالون وصورة عرفات الى فضاء المسجد الأقصى حيث يدور ويدور ثم يستقر... انه مكانه الطبيعي.