"ضمن الاسبوع السينمائي الفلسطيني تحت شعار "فلسطين على الشاشة"، وفي القاعة الكبرى في "بيت السينمائيين" في موسكو حيث استضيفت الفاعليات، نقل السينمائيون الفلسطينيون إلى الجمهور الروسي صوراً وحكايات عن فلسطين وحياة الناس وعن الممارسات المسعورة للمحتل. ولم يخف بعض الجمهور المهتم بالسينما دهشته من إمكان بروز ممارسة سينمائية متطورة في ظل الحال المأسوية في فلسطين، ما دفع إحدى الحاضرات إلى القول ببراءة في مداخلة مع المخرجة آنا ماريا جاسر انها متعجبة من وجود فتاة عربية بذكائها وجرأتها!! وهنا يجدر القول ان أجهزة الاعلام والمؤسسات الثقافية العربية هي وحدها من يتحمل الذنب إذا كان ثمة شعور بالمسؤولية والذنب في هذا التعتيم المهيمن على الثقافة والابداع العربيين وحجبهما عن الظهور إلى العالم الذي تمور فيه حرب إعلامية وثقافية لا أخطر من مكرها. اليد الالهية العرض الأول جاء من نصيب فيلم "يد إلهية" للمخرج ايليا سليمان الذي نال عنه جائزة الحكام في مهرجان كان السينمائي 2002. تعالج قصة الفيلم شدة الضغط الذي يعيشه الفلسطينيون تحت رعب الاحتلال والممارسة النفسية المتعمدة من الاسرائيليين الذين يسعون بشكل منظم وبكل الطرق إلى تمزيق أواصرهم الاجتماعية وإرهاب جزئيات واقعهم الحياتي ليصلوا بهم - في نهاية المطاف - إلى حواف الجنون والصدام في ما بينهم. استبعد المخرج تساوق الحبكة وما ينتج منه من تدرج للأحداث وتطورها، وآثر أن يظهر الفيلم في شكل لوحات متناثرة يقرب بينها الضغط الداخلي الذي تعانيه الشخصيات على خلفية الاحتلال وانعكاساته على أفكارها وأوهامها. نبدأ من حي شعبي في مدينة الناصرية. نعبر طرقاته الحجرية الضيقة بصحبة مواطن فلسطيني يقود سيارته ويرد التحية على أبناء الحي بتلويحة من يده مشفوعة بشتيمة خافتة من لسانه. هناك أيضاً شاب من مدينة القدس يؤدي الدور مخرج الفيلم. يلتقي خطيبته -التي تأتي من رام الله - بجانب حاجز إسرائيلي يفصل المدينتين وتنتهي عنده حرية الخطيبين في التنقل والحركة. يقضيان وقتهما في السيارة أمام الحاجز ويشاهدان الحراس الإسرائيليين وهم يتفاخرون بالسلاح ويعاملون أهل البلاد بصلافتهم المعهودة. وأمام تلك الممارسات العنصرية والإذلال اللذين ينوء بهما الواقع الفلسطيني، يستنجد الخطيبان بالخيال ويحلقان به بعيداً، فلعلهما ينفسان ولو للحظة - عن الغل الذي يستحوذ عليهما. تطير الفتاة، أو بديلتها، في الفضاء وتبيد فريقاً من القناصة الإسرائيليين... تفجر مروحية بخريطة فلسطين، وعندما يوجه رئيس القناصة سلاحه تجاهها، تنتزعه بالغترة الفلسطينية ثم تتلون الأرض الواقف عليها بألوان العلم الفلسطيني. يحلم الشاب هو الآخر عندما يفجر بنواة مشمش مدرعة إسرائيلية، أو عندما ينفخ بالوناً بصورة ياسر عرفات فيثير الهلع بين الحراس ويصوبون الرشاشات بينما يطير البالون ويطوف فوق القدس ثم يحوم حول قبة الصخرة. لوحة أخرى في الفيلم تحكي عن الهشاشة المعنوية للوجود الاسرائيلي على رغم ما يثيره من رعب يشي بأنهم ليسوا سوى عابرين: تقترب سائحة أجنبية من سيارة شرطة إسرائيلية وتسأل السائق عن كنيس يقع بالجوار. لا يعرف الشرطي بماذا يجيب، فوجوده وتحركاته مرهونة بالاوامر التي تلقى عليه. يخرج من السيارة أسير فلسطيني معصوب العينين ويرشد السائحة الى كل الطرق المؤدية إلى الكنيس. مشهد آخر في قسم أمراض القلب. الجميع يدخن: مرضى وممرضون وأطباء، فالقلق النفسي أشد وطأة من آلام القلب. جولة في وطن محتل "عرس رانا" عنوان فيلم للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسد 2002. تخرج رانا باكراً من بيت أبيها وتذرع الازقة والشوارع بحثاً عن شاب تربطها به علاقة حميمة. تجتاز الحواجز الاسرائيلية لتصل الى المسرح الذي يعمل فيه ممثلاً، وفي طريقها تشارك الاطفال الذاهبين الى مدارسهم في رشق الجنود الاسرائيليين بالحجارة. تصل أخيراً وتبحث عنه بين الشبان النائمين على خشبة المسرح بعد أن حجزتهم داخله غارة جوية. توقظه لتخبره بضرورة الزواج قبل الرابعة عصراً فوالدها مسافر الى القاهرة ولن يتركها وحدها إذا لم يكن هناك ما يربطها. يتجول الممثل مع صديقه ورانا في ال"فلوكس" الصغيرة بحثاً عن الشيخ عاقد القران. وبعد رحلة مضنية عبر الحواجز الاسرائيلية وطوابير تخليص المعاملات التي يقف فيها الفلسطينيون بين مطالب لترخيص في دفن أخيه وبين مشتك من هدم منزله، يتوصل الممثل إلى ترتيب المسألة ويذهب مع الشيخ وصديقه لإقناع والد العروس. صراع داخلي تعيشه البطلة، فهي لا تذهب للبحث عن الشاب برغبة أكيدة منها في الزواج بقدر ما هي خشية من مغادرة البلاد بلا عودة، في الوقت الذي يعذبها فيه سؤال عن جدوى الزواج وبناء بيت جديد إذا كان الإسرائيليون سيأتون لهدمه. في منزل رانا يتفقون على إتمام القران قبل الرابعة، بيد أن الشيخ يُحاصر عند حاجز إسرائيلي فيضطر العروسان والمدعوون للحاق به. وهناك، بجانب الحاجز، يُعقد القران ومراسم العرس. كأننا عشرون مستحيلاً فيلم قصير للفلسطينية آنا ماريا جاسر. القصة تحكي واقعة حقيقية حدثت للمخرجة خلال محاولتها تصوير أحد أفلامها في فلسطين ما أوحى لها بعد ذلك بإعادة صوغها فنياً. مخرجة فلسطينية تحمل جوازاً أميركياً مع طاقم العمل، يحاولون اجتياز حاجز إسرائيلي وصولاً إلى القدس. يعبر من يبلغهم بأن الحاجز مغلق فيتخذ السائق طريقاً جبلياً يعرفه. تفاجئهم نقطة مراقبة إسرائيلية. يقوم الجنود بتفريق الطاقم ولا يعيرون سمعاً إلى احتجاج المخرجة التي تطالب بحقها وحق زملائها بحرية التحرك في وطنهم فضلاً عن أنها تملك تصريحاً بالمرور. النتيجة حجز الممثل ومهندس الصوت بحجة عدم قانونية تواجدهم في المكان بينما تنسحب المخرجة مع السائق والمصور بأمل العودة لمساعدة الأسيرين. حدود الأحلام والمخاطر فيلم ثائقي للمخرجة مي مصري. تدخل الكاميرا إلى عالم المخيمات... بؤس الحياة والجريمة الإنسانية التي اقترفتها إسرائيل في حق الفلسطينيين. تختار المخرجة مخيم شاتيلا في لبنان ومخيم دهيشة في بيت لحم وتتوجه إلى الأطفال لتعاين طبيعة الجحيم الذي زجتهم فيه إسرائيل. طرقات قذرة ومستنقعات... أكداس البشر في الغرف المظلمة والرطبة... أكوام القمامة وبراءة الأطفال تخرج من بينها. يُنظم المخيمان رحلة تعارف بين أطفالهما ويتم ذلك في الحدود المسيجة بين لبنان واسرائيل وسط المراقبة المسلحة. يلتحق غفر من الأهالي بالاطفال من الجانبين فتعلو الصرخات الباحثة عن قريب أو فقيد. يتعارفون على رغم السنوات الطويلة ويتعانقون على رغم السياج الشائك الذي يفصل بينهم في مشهد تغص به الحلوق من الدمع. يأخذ أطفال شاتيلا كمشة تراب من أرض بلادهم ويفترقون عن معارفهم الجدد، إلا أنهم يتواصلون معهم بالرسائل الملونة والمملوءة بالهدايا الصغيرة والاغاني من أجل الوطن... فلسطين. كان ذلك آخر أفلام الاسبوع الذي احتوى أفلاماً أخرى، وقد صفق له الجمهور بتأثر واضح. ومن يعلم، فلربما طافت في ذهنهم، وهم يخرجون من القاعة، عبارة كاتبهم دوستويفسكي في روايته الخالدة الأخوة كارامازوف: "العالم كله لا يُعادل دمعة طفل". ولربما أضافوا إلى العبارة: لا يُعادل دمعة طفل فلسطيني.