حدث ما كنا نخشاه، فقد نجح الكارهون للبنان وللاستقرار في توجيه ضربة كبرى يأملون أن يسقط لبنان والمنطقة بعدها في فوضى شاملة وربما في بحر جديد من الدماء. وتمكن هؤلاء الكارهون من اختيار ضحيتهم بكل دقة هذه المرة في شخص رجل يعرفون أنه يمسك بميزان الرمان في المعادلة السياسية اللبنانية كلها، ألا وهو رفيق الحريري، متصورين أن سقوطه يساعد على اختلاط أوراق اللعب ويفسح الطريق لانطلاق غرائز الوحوش السياسية المتربصة والراغبة في دفع لبنان والمنطقة نحو التهلكة. لم تكن هناك حاجة إلى فراسة من نوع خاص لاستنتاج أن لبنان مقدم على مرحلة خطيرة. ففور صدور قرار مجلس الأمن الرقم 1559 أيلول / سبتمبر من العام الماضي نشرنا على هذه الصفحة ذاتها مقالاً بعنوان"لبنان في مهب الريح"، عبرنا فيه عن عدم فهمنا لقرار سورية بإلقاء ثقلها وراء التيار اللبناني المطالب بتعديل الدستور للتمديد للسيد إميل لحود، واعتبرنا أن هذا الموقف، والذي فتح الطريق أمام تدويل المسألة اللبنانية من خلال تحالف أميركي - فرنسي غير متوقع، لا يخدم أيًا من المصالح الاستراتيحية للبنان أو لسورية أو للعالم العربي أو للمنطقة ككل. وكنا بنينا تقديرنا هذا على اعتبارين رئيسيين، الأول: طريقة تفكير الإدارة الأميركية الحالية والذي يوحي بأنها كانت اتخذت، وفور احتلال بغداد، قراراً بالتخلص من النظامين السوري والإيراني لم يكن ينتظر سوى طريقة الإخراج والاستقرار على اختيار الوسيلة والتوقيت المناسبين. صحيح أن تنفيذ هذا القرار تأجل لبعض الوقت، بسبب الانغماس في الوحل العراقي، إلا أنه بقي على جدول الأعمال ولم يتم التخلي عنه نهائياً. ولم يكن صدور"قانون معاقبة سورية"والموافقة عليه، في تقديري، سوى خطوة صغيرة على الطريق تسبق وتمهد لقرار بدء تحريك وتأليب الساحة اللبناية ضد سورية استعداداً للخطوة الحاسمة والمتمثلة في شن الضربة القاضية. الثاني: أن دخول فرنسا حلبة الصراع على النفوذ على لبنان، ليس كلاعب مستقل هذه المرة ولكن كحليف معلن وصريح للولايات المتحدة، يغير كلياً من مفردات المعادلة ويضع سورية والقوى الوطنية اللبنانية أمام مأزق كبير. وبعد أن أوضحنا في مقالنا المشار إليه أن صدور القرار 1559 يعد هزيمة سياسية لسورية، وأن لبنان، الذي أصبح في مهب الريح، هو المرشح لدفع أبهظ الأثمان، أكدنا أن القرار لا يحقق مصالح واضحة إلا للطرفين الأميركي والإسرائيلي ويلحق، في الوقت نفسه، أضراراً مؤكدة بمصالح الطرفين السوري واللبناني معا. أما فرنسا فقد قلنا عنها إنها"تبدو الآن وكأنها تمارس مقامرة غريبة أملاً في أن تكسب كل شيء، وهو أمر يتطلب في الوقت نفسه أن تكون مستعدة لكي تخسر كل شيء!". والواقع أننا لم ننطلق في هذا التحليل من موقف معاد لسورية، بل على العكس عبرنا عن تفهمنا العميق لدوافع الأمن السوري الذي يبدو متطابقاً تطابقاً كبيراً، في هذه المرحلة على الأقل، مع متطلبات الأمن القومي العربي، وعن تأييدنا للكثير من مواقف سياستها الخارجية المدفوعة بهذا الهاجس. لكننا عبرنا في الوقت نفسه عن"عدم فهمنا للدوافع التي أدت إلى أن يصبح الحفاظ على الأمن القومي السوري رهناً بإرادة فرد واحد مطلوب استمراره شخصياً في موقع رئاسة الدولة، حتى لو اقتضى الأمر تجاوز كل الخطوط الحمراء والدخول في المنطقة المحرمة والخطرة". ولذلك لم نتردد في القول بالحرف الواحد إن الخطأ القاتل في الحسابات السورية"سيتيح لكل المعادين لسورية وللمقاومة، بل للعروبة وللإسلام، فرصة فريدة للتأكيد على أن المشكلة الحقيقية التي تعاني منها المنطقة لا تكمن في الاحتلال الأميركي والإسرائيلي لأجزاء من أراضيها، وإنما في استبداد أنظمتها وعدائهم الغريزي والفطري للديموقراطية". ولأنني لست من أنصار البكاء على اللبن المسكوب، فقد أضفت على الفور في المقال ذاته أنني"أفضل أن أوجه بصري وأمعن فكري في ما هو قادم لتدارك وقوع الأسوأ، والذي يبدو وكأنه قدر محتوم كتب علينا جميعا ولا فكاك منه، وأنه بات من الضروري أن تتجمع أولا كل القوى الوطنية اللبنانية الحريصة على مستقبل لبنان والأمة العربية، سواء تلك التي أيدت ترشيح لحود أو عارضته، وأن تتفق على مخرج لبناني بحت، وفي استقلال كامل عن سورية للأزمة الراهنة"، مؤكداً ثقتي بأن قرارها لا بد وأن يأخذ في اعتباره مصالح سورية الاستراتيجية والأمنية، والتي لا يمكن فصلها عن المصالح الوطنية الحقيقية للشعب اللبناني. وقد ناشدت سورية التجاوب مع قرار من هذا النوع"حتى لو تطلب الأمر العدول عن تعديل الدستور وإجراء انتخابات رئاسية، طالما كان من الممكن التوافق على شخصية مارونية قادرة على تحقيق المصالحة الوطنية وعدم المساس في الوقت نفسه بوضع المقاومة قبل تحقيق تسوية شاملة للصراع العربي - الإسرائيلي". وفي نهاية المقال المشار إليه عبرت عن أملي في أن تتيح لحظة الأزمة الراهنة، رغم قساوتها،"فرصة نادرة كي يثبت النظام السوري أنه ينتهج منهجاً مغايراً ومختلفاً عن منهج"أنا ومن بعدي الطوفان"الذي تنتهجه كل الأنظمة العربية الأخرى، بالإقدام الجسور على إجراء إصلاح سياسي حقيقي وشامل ومخطط يستهدف تقوية حصون الدفاع الاجتماعي والاقتصادي، وليس نشر الفوضى والثرثرة السياسية، وحماية الدولة والمجتمع حتى ولو كان الثمن الذي يتعين دفعه في نهاية الطريق وعند الوصول إلى المحطة المستهدفة، هو تغيير النظام نفسه". وختمت مقالي قائلا إنه"من الأشرف والأكرم لأي نظام يدعي الوطنية أن يسلم الراية بمحض إرادته لنظام تختاره الجماهير بنفسها من أن يسلمها رغم أنفه لنظام عميل تأتي به الدبابات الأميركية والإسرائيلية أو لمجهول تفرزه الفوضى الشاملة". ليس المقصود من سرد هذه الفقرات المطولة من مقال نشر منذ أربعة أشهر سوى التذكير بحقيقة بسيطة، لكنها مأسوية، وهي أن العقل العربي الرسمي ما زال مغيبا، ولا مكان للحكمة في سلوك الأطراف المنخرطة في الأزمة، والتي يبدو أنها لم تعد ترى أو تدرك أو تعي ما يدور حولها بدقة، على رغم وضوح النيات والسياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة والتي أصبحت وكأنها كتاب مفتوح لكل من يريد أن يقرأ. وقد أحدث القرار 1559 - على أية حال وكما توقع له كل من سعى إلى إصداره - مزيداً من الاستقطاب والتشدد على الساحة اللبنانية. وبدلا من أن يسعى العقلاء لتدارك الموقف قبل حدوث الانفجار، انخرط الجميع في تبادل اتهامات التخوين، وهو ما فتح الطريق أمام قوى الظلام لتضرب ضربتها الكبرى. لم يكن من قبيل المصادفة أن يقع الاختيار على رفيق الحريري ليكون هدفاً لهذه الضربة التي تبدو مدروسة بعناية فائقة. فالرجل لم يكن مجرد رئيس وزراء سابق أو رمز سياسي كبير، ولكنه كان بمثابة الجسر الذي يمكن أن تعبر عليه كل المحاولات الجادة لتسوية الأزمة على نحو يحقق طموح الشعب اللبناني في السيطرة على قراره ويحافظ في الوقت نفسه على المصالح القومية العربية العليا، بما فيها المصالح السورية. ولا شك في أن الأصابع المجرمة التي وضعت المتفجرات في طريق موكب الحريري لم تكن تستهدف اغتيال الشخص بقدر ما كانت تستهدف نسف هذا الجسر الوحيد المعلق وبالتالي قطع الطريق على أي محاولة جادة لتسوية الأزمة واحتوائها، وتعميق الهوة بين الأطراف المحلية ودفع الصراع بينها إلى نقطة اللاعودة، وربما إلى حافة الحرب الأهلية. وللأسف فإن كل المؤشرات تقول إن التفاعلات المحلية والإقليمية والعالمية كافة، التي أفرزها الحدث، تدفع بالساحة اللبنانية نحو هذا المنزلق الخطر، ومن دون كوابح. ومع ذلك، ومرة أخرى، لن يجدي البكاء على اللبن المسكوب شيئاً. والأفضل أن تتحرك كل القوى الوطنية والقومية في الداخل والخارج لإنقاذ لبنان من محنته التي هي في الواقع محنة العرب جميعا. فلو نجح الأعداء في تحويل هذا البلد الصغير الجميل إلى جماعات طائفية متناحرة اليوم، فسينجحون غداً في تحويل العالم العربي كله إلى دويلات طائفية متناحرة تتحكم إسرائيل في ضبط إيقاع تفاعلاتها وتسخيرها لحسابها ولمصلحتها الخاصة. وقد كادوا بالفعل ينجحون في تحقيق هذا الهدف إبان حرب السبعينات. وفي تقديري أنه يجب على العالم العربي أن ينسى أبدا أن الحرب الأهلية اللبنانية الأولى كانت هي بداية المحاولات الإقليمية والدولية الرامية لإجهاض كل ما تم إنجازه في حرب أكتوبر العربية المجيدة، وأن هذا البلد الصغير هو الذي حال من دون تمكين إسرائيل من تحقيق انتصارها النهائي ومن قول الكلمة الأخيرة في الصراع. فقد استطاع لبنان أن يحقق خلال الخمسة عشر عاما السابقة معجزتين في آن واحد: معجزة التعمير، والتي أصبح رفيق الحريري رمزها وبطلها، ومعجزة التحرير، والتي أصبح الشيخ حسن نصر الله، رمزها وبطلها. وقد ساند كلاهما الآخر واستظل بظله. فما كان من الممكن أن يتم إنجاز التعمير في غياب المقاومة أو يتم إنجاز هدف التحرير في غياب عملية التعمير. فبينما وفّر التعمير للمقاومة غطاء من وحدة وطنية كانت في أمس الحاجة إليه لحماية ظهرها، فقد وفّرت المقاومة لعملية التعمير غطاء من الردع كانت في أمس الحاجة إليه لضمان استمراها. وحتى الأمس القريب كانت الرموز كافة، أي رموز التعمير والتحرير، قادرة على التعايش معا، في ظل صيغة محلية وأقليمية وفر التوافق إلإيراني -السوري أساساً صلباً لها، خاصة في ظل الظروف والأوضاع الدولية والإقليمية التي استحدثها الغزو العراقي للكويت. غير أن أحداث أيلول سبتمبر، من ناحية، والاحتلال الأميركي للعراق، من ناحية أخرى، خلقا ظروفاً وأوضاعاً جديدة راحت تضغط بشدة على صيغة التعايش هذه وتهدد بتحطيمها. ولم تكن أزمة التمديد للرئيس لحود سوى أزمة كاشفة لطبيعة هذا التغير. والآن وبعد أن سقط رأس التعمير، فإن رأس المقاومة هي المطلوبة، لأنها هي الهدف النهائي والغاية الأسمى للعدو. من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن إسرائيل نسيت أو طوت صفحة ذلك اليوم الذي اضطرت فيه للانسحاب مهرولة، متخلية حتى عن أقرب أصدقائها وحلفائها في جيش لحد الجنوبي. فرؤوس كل الذين ساهموا في صنع هذا اليوم مطلوبة: المقاومة اللبنانية، والنظامان السوري واللبناني. وطريقها لتحقيق هذا الهدف أصبح واضحاً ومفتوحاً: فك التحالف الوطني اللبناني، وفك التحالف الإقليمي الإيراني - السوري - اللبناني. وبعد اغتيال الحريري باتت إسرائيل تعتقد أنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هذا الهدف. من الواضح أن هامش المناورة المتاح أمام سورية أصبح الآن ضيقاً للغاية. ورغم قناعتنا التامة بأن اغتيال الحريري يضر بمصالحها أكثر من أي طرف آخر، إلا أنه لن يكون بوسع سورية أن تستعيد بعضاً من زمام المبادرة، إلا إذا نجحت في كشف الأيدي التي نفّذت هذه الجريمة الشنيعة. فليكن هذا هو واجبها الأول الآن. * كاتب وأكاديمي مصري.