تاكو أوسوئيغاوا باحث ياباني يتقن العربية إلى جانب اليابانية والإنكليزية ويتابع تطورات الأزمات المتلاحقة في لبنان وسورية منذ سنوات. كتب مقالات عدة في مجلة «العرب» التي تصدر في اليابان منذ عام 1964، وواكب الانتفاضات العربية التي اندلعت عام 2011 كباحث مساعد في المركز الياباني لدراسات الشرق الأوسط في بيروت، فكان الكتاب إحدى ثمرات تلك الإقامة والمتابعة عن كثب للأحداث العاصفة التي يشهدها العالم العربي. وقد ركز اهتمامه على العلاقات اللبنانية - السورية، وما يجري الآن على الساحة السورية وتأثيره في لبنان. أصدر أوسوئيغاوا عن دار توريس في لندن ونيويورك عام 2013، كتاباً عنوانه «سورية ولبنان: الديبلوماسية والعلاقات الدولية في الشرق الأوسط» Taku Osoegawa: Syria and Lebanon, International Relations and Diplomacy in the Middle East - Tauris, London and New York, 2013. وللكتاب مقدمة نظرية استعرض فيها المؤلف النظريات السياسية الملائمة لدراسة تلك العلاقات، وحلل تفكك الدولة اللبنانية خلال سنوات 1970 - 1988 وأثر التدخل العسكري السوري فيها، ثم وصف مرحلة الحكم غير المباشر في ظل الهيمنة السورية خلال سنوات 1988 – 2005. واستفاض في دراسة إنجازات الرئيس رفيق الحريري الذي تبنى الواقعية السياسية المركبة وحاول فك التبعية اللبنانية للنظام السوري. واستشرف المؤلف مأزق تلك الواقعية التي غلبت المصالح الشخصية والإقليمية على مصلحة لبنان العليا. وحلل مشكلات لبنان وسورية بعد خروج الجيش السوري عام 2005. وتناولت خاتمة الكتاب إعادة تذكير بالمقولات النظرية التي استند إليها، واستخلاص الدروس من نظرية السياسة الواقعية البسيطة التي شعارها: «ليس بالإمكان أفضل مما كان». والتي انتهت إلى كارثة حقيقية أدت إلى توتر حاد في العلاقات اللبنانية – السورية فور اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011. فانقسم اللبنانيون في شكل عمودي حاد بين مستمر في دعمه للنظام السوري بصفته نظام ممانعة ومقاومة، وبين رافض لبقاء هذا النظام ومشارك عسكرياً في إسقاطه إلى جانب آلاف المقاتلين الوافدين إلى سورية لإسقاط نظامها السياسي وفق أجندات أميركية وأوروبية وإسرائيلية وتركية وعربية. استند الباحث إلى مجموعة من الدراسات الأميركية والأوروبية المكتوبة باللغة الإنكليزية، إضافة إلى دراسات عدد كبير من المثقفين اللبنانيين. وتبنى بصورة واضحة مقولات نظرية لباحثين أوروبيين وأميركيين تشرح الأسباب العميقة للأزمات التي يشهدها كل من لبنان وسورية، خصوصاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري واتهام السوريين باغتياله. واختبر الباحث بعض المقولات النظرية الغربية لدراسة العلاقات اللبنانية – السورية في الفترة ما بين 1970 حتى اليوم. وحاول استنباط خصائص محددة لسلوك رؤساء الجمهورية والوزراء في لبنان خلال تلك الفترة، بالاستناد إلى ارتباطهم التبعي بتوجيهات القيادة السورية أو محاولتهم الابتعاد عنها وتعريض الهيمنة السورية للخطر. وتعمق في دراسة مرحلة الرئيس رفيق الحريري، وكيف تبنى القرار 1559 بهدف إضعاف «حزب الله»، وإبعاد لبنان عن دائرة الهيمنة السورية. فانتهت حياته في شكل مأسوي. جاء الاغتيال في أعقاب علاقات شبه تبعية بين غالبية زعماء لبنان لقادة النظام السوري واستخباراته في مرحلة أطلق عليها الباحثون اللبنانيون «عهد الوصاية السورية». فهناك غياب طوعي أو تغييب قسري للزعيم اللبناني، على مستوى رئاسة الجمهورية، أو رئاسة مجلس الوزراء. وبات القرار السياسي والعسكري وإلى حد ما الاقتصادي اللبناني أسير تبعية الزعيم اللبناني لمركز القرار السوري الذي تحكم بالانتخابات النيابية، وتشكيل الوزارات، وتدخل في شؤون الدولة، وأفاد من النظام المالي لجني ثروات طائلة من البنوك اللبنانية. وفي مقابل التركيز على تفاصيل الهيمنة السورية على لبنان تجاهل الباحث العامل الإسرائيلي، على رغم الأطماع الصهيونية المعلنة. وزادت تلك التوجهات وضوحاً بعد قيام إسرائيل، ومن ثم احتلالها أكثر من نصف الأراضي اللبنانية مع العاصمة بيروت عام 1982. واستمر الاحتلال حتى عام 2000 حين حررت المقاومة الوطنية اللبنانية، بدعم مباشر من سورية، جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي باستثناء مزارع شبعا وقرية الغجر، فعمدت إسرائيل مجدداً إلى تدمير أجزاء واسعة من لبنان عام 2006، وما زالت تستبيح أراضيه ومياهه الإقليمية وسماءه. تمّت الاستفادة القصوى من الانتفاضات العربية لعام 2011 من أجل تفجير سورية من الداخل، واستقدام قوى عسكرية عربية ودولية لإسقاط النظام السوري وتدمير مقومات الصمود السياسي والاقتصادي. وشاركت الجامعة العربية ودول كثيرة بالدعم السياسي والمالي تحت لافتة «أصدقاء سورية»، وباتت هاجس هذا التحالف إسقاط النظام السوري، والتصدي للأطماع الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، وتفجير صراع سنّي – شيعي يدمر في طريقه جميع الفئات العرقية واللغوية والطائفية الأخرى. واستخدمت في هذ المخطط القيادات المحلية التي تعمل، بالدرجة الأولى، للحفاظ على مصالحها الشخصية. وزجت في المعركة قوى عسكرية لبنانية على جانبي النظام والمعارضة. وخلال فترة حكومة «الإخوان المسلمين» القصيرة لمصر كشف الغطاء عن تواطؤ واضح بين إسرائيل وبعض التيارات الإسلامية. وأثبت الكتاب بالوقائع الدامغة والموثقة جداً أن الزعيم اللبناني لم يكن صاحب قرار مستقل بل اعتمد سياسة براغماتية للحفاظ على مصالحه الشخصية على حساب مصلحة لبنان العليا. وحلل الباحث أشكالاً من مواقف رؤساء الجمهورية والوزراء في لبنان تجاه الهيمنة السورية. فمنهم من ارتبط تبعياً بالقيادة السورية وكان مطواعاً في تنفيذ إملاءاتها. ومنهم من تحالف مع الولاياتالمتحدة وفرنسا، وبصورة علنية أو مضمرة مع إسرائيل، لمواجهة الهيمنة السورية وحلفائها في لبنان. وعند اختبار هذا السيناريو تبيّن أنه لم يلق نجاحاً ملحوظاً بل قاد إلى توتر داخلي حاد وتهميش رموزه. ومنهم من عمل من دون نجاح على إقامة التوازن الداخلي بين القوى الموالية للغرب والقوى اللبنانية الموالية لسورية وإيران. ومنهم من حاول إضعاف المصالح السورية في لبنان ففشل. ومنهم من بحث عن صيغة وطنية تجمع اللبنانيين على قاعدة التحالف المصلحي مع سورية كدولة جوار وليس التبعية لها كدولة هيمنة. ويرى الباحث أن الدولة اللبنانية لم تكن موحدة منذ عام 1970 وما زالت غير موحدة تجاه العلاقات مع سورية، فكانت الحكومة، والكتل البرلمانية، وزعماء الطوائف والأحزاب والميليشيات يتخذون مواقف متقلبة وفقاً لمصالحهم الشخصية، ومدى دعم النظام السوري لهم. واستفادت سورية من هذه المروحة الواسعة والمتبدلة باستمرار من زعماء لبنان لكي تجني مكاسب اقتصادية كبيرة. فسورية هي البوابة البرية للتصدير والاستيراد من وإلى لبنان. وشجع النظام السوري على تعزيز العلاقات مع القطاع الخاص في لبنان لتنمية القطاع الخاص في سورية تحت إشراف النظام نفسه، والاستفادة من سنوات الاستقرار في مرحلة «السلام السوري في لبنان» لإطلاق شعار «شعب واحد في دولتين». لقد تحالف رؤساء الجمهورية والوزراء والكتل البرلمانية وزعماء الميليشيات في لبنان مع النظام السوري لضمان مصالحهم الشخصية بالدرجة الأولى. فنجح النظام في التلاعب بهم، إذ قربهم من سدة الحكم ثم أبعدهم عنها وفقاً لما تقتضي الهيمنة السورية. وقدم الباحث أربعة نماذج أساسية في هذا المجال: من تحالف مع النظام السوري استراتيجياً لإبعاد الخطر الإسرائيلي عن لبنان، ومن تحالف معه مرحلياً لضمان الاستقرار الداخلي في لبنان، ومن قبل بإبقاء لبنان في مرتبة الدولة التابعة أو ذات السيادة المنقوصة والهوية اللبنانية المفككة، ومن دافع عن التوازن الدقيق بين المصالح اللبنانية والسورية المشتركة في المجال الاقتصادي على قاعدة حماية المصالح الدائمة بين الشعبين والدولتين. في عام 2011، انفجرت الأزمة في سورية وتركت آثاراً سلبية للغاية على المجتمع اللبناني. فتعطلت آليات عمل النظام البرلماني اللبناني الذي ارتهن لسنوات طويلة للقرار السوري في تشكيل الوزارات وإسقاطها، وإجراء الانتخابات والتحكم بنتائجها. ولم يعد الزعيم اللبناني قادراً على ممارسة السياسة المستقلة. فالنظام السوري يتحكم بالقرارات الكبرى تاركاً للزعيم الطائفي اللبناني التحكم بأبناء طائفته، ونسج تحالفات لبنانية مدعوماً من سورية لإدارة شؤون الدولة في لبنان. وفي ظل أكثر من أربعين ألف جندي سوري منتشرين على جميع الأراضي اللبنانية، بدا من الصعب استنباط نظرية علمية تبرر القول إن العلاقات اللبنانية - السورية تندرج ضمن الواقعية البسيطة أو الواقعية المركبة التي استفاض الباحث في تحديد سماتها الأساسية لتبرير مقولات نظرية مسبقة وتقديمها كمقولات علمية يمكن تعميمها طوال مرحلة الهيمنة السورية على لبنان. هذا كله جعل الدراسة مجرد اختبار لمقولات غربية لم تحمل أية خصوصية يابانية أو محاولة جدية لقراءة تطور العلاقات اللبنانية - السورية بعيون منصفة وليست منفعلة بمقولات غربية معادية بشدة للدور السوري. وكان تغييب الدور الإسرائيلي بالكامل والتركيز على الدور السوري فقط مسألة منهجية يصعب فهمها. وبنتيجة تجاهل ذلك الدور بدت الدراسة وصفية إلى حد كبير وغير متوازنة، لكنها تقدم معلومات مفيدة في كثير من جوانبها. * مؤرخ لبناني