التقريران اللذان قدمهما رئيس لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ديتليف ميليس ومبعوث السكرتير العام للأمم المتحدة المكلف بمتابعة تنفيذ القرار 1559 تيري رود لارسون، يشيان بأن الأحداث في المرحلة المقبلة تتضمن احتمال هبوب عواصف عاتية، ليس على سورية فقط، وإنما على المشرق العربي برمته. وعلى رغم أن سورية لم تكن أبدًا بعيدة من دائرة الاستهداف الأميركي- الإسرائيلي، فإنها باتت الآن، وبعد صدور هذين التقريرين، في مرمى النيران. فكلا التقريرين أشار إلى سورية بأصابع الاتهام، تارة بإثارة الشبهات حول تورطها المباشر في قضية اغتيال الحريري. وأخرى بإثارة الشكوك حول جديتها في التعاون مع الجهود الرامية إلى تنفيذ القرار 1559. بل إن جرأة ميليس وصلت إلى حد تأكيد اقتناعه الشخصي، على رغم عدم اكتمال التحقيق، بأن الجريمة التي أودت بحياة رفيق الحريري ما كان لها أن تتم من دون علم وتواطؤ أجهزة الأمن السورية. ولم يكن لارسن بأقل صرامة من ميليس. فتقريره هو الآخر مليء بفقرات تشير - بالغمز واللمز حينًا وبصريح العبارة أحيانًا - إلى أن تعاون سورية في تنفيذ القرار 1559 لم يكن كاملاً أو على المستوى المطلوب، وأنها لا تزال تمارس سياسات تستهدف زعزعة الاستقرار في لبنان. وبينما كانت كواليس مجلس الأمن منهمكة في مناقشة مسودة مشروع قرار أميركي- فرنسي يهدف إلى ممارسة أكبر قدر من الضغوط على سورية، إذا باللجنة الرباعية. وفي سابقة ليس لها مثيل، تتذرع بعملية فدائية نفذتها حركة الجهاد الفلسطينية، رداً على اغتيال إسرائيل لأحد قياداتها، لتوجه لسورية إنذارًا بإغلاق مكاتب الحركة وطرد ممثليها من دمشق! وتلك كلها دلائل تشير إلى أن القصف التمهيدي للهجوم الشامل على سورية بدأ بالفعل. غير أنه يتعين علينا أن نتذكر أن سورية ليست مستهدفة لذاتها أو في ذاتها، ولكن بحكم ما تمثله من صمود يعرقل قدرة المشروع الصهيوني على فرض رؤيته ومخططاته للتسوية، وبالتالي فالمستهدف الحقيقي هو المقاومة الفلسطينية - اللبنانية وكل مَنْ يقف معها أو يُناصرها. ومعنى ذلك أن استهداف سورية وبدء حصارها الآن ليس إلا حلقة جديدة في مخطط أوسع يستهدف في النهاية تصفية المقاومة الفلسطينية من طريق ضرب وتصفية التحالف القائم بين المثلث اللبناني- السوري - الإيراني الداعم لها. وفقاً لعملية توزيع الأدوار المتفق عليها بين الولايات وإسرائيل، تتكفل الأخيرة بشؤون الجبهة الفلسطينية، تاركة شؤون المثلث اللبناني - السوري - الإيراني لعناية الولاياتالمتحدة. وبدخول هذا المخطط حيز التنفيذ، أصبح القرار 1559 هو المدخل المختار للوصول إلى الهدف الخاص بتصفية حزب الله، وملف اغتيال رفيق الحريري هو المدخل المختار للوصول إلى الهدف الخاص بإسقاط النظام السوري، أو حمله على تغيير سياساته، والملف النووي هو المدخل المختار للوصل إلى الهدف الخاص بإسقاط النظام الإيراني، أو حمله على تغيير سياساته. هذا المخطط ليس جديداً أو مفاجئاً، بل كانت ملامحه تبدو واضحة جلية لكل من يقرأ أو يتدبر، خصوصاً منذ غزو العراق. وعلى رغم ذلك، نجحت الولاياتالمتحدة في دفع الأمور قدما في الاتجاه الذي تريده. ولا يعود هذا النجاح في الواقع إلى ما تتمتع به من إصرار وقدرات غير عادية، بقدر ما يعود إلى ارتكاب الجانب العربي أخطاء وصلت إلى حد الخطيئة أحياناً. ومن جهتنا, فإننا لم ندخر جهدًا على مدى العامين الماضيين, وبخاصة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، للفت الانتباه إلى حجم التغير الذي طرأ على أوضاع المنطقة والعالم، مؤكدين أن الصيغة الإقليمية والدولية التي كانت سمحت بالوجود السوري في لبنان لم تعد قائمة، وأن قرارًا أميركيًا اتخذ بالفعل لفك وتصفية التحالف اللبناني- السوري- الإيراني بكل الوسائل الممكنة، بما فيها العسكرية إذا لزم الأمر، وأن تنفيذ هذا القرار لم يعد ينتظر سوى التوقيت والإخراج الملائمين. وتأسيساً على هذه القناعات، لم نتردد في توجيه انتقادات لاذعة لسورية حين بدأت تمارس ضغوطاً للتمديد للعماد اميل لحود، على رغم تفهمنا لدوافعها ومخاوفها، اعتقادًا منا أن من شأن هذه الضغوط تعريض وحدة القوى الوطنية اللبنانية التي شكلت الوعاء الحاضن للمقاومة للخطر، وفتح المجال أمام القوى الخارجية المتربصة بلبنان للتدخل في شؤونه الداخلية. وحين نجحت هذه القوى في استصدار قرار مجلس الأمن الرقم 1559، عبرنا عن مخاوفنا على أمن المنطقة ونبهنا إلى أن شعلة النار تقترب من برميل البارود. وحين انفجر البرميل بالفعل في وجه الرئيس الشهيد رفيق الحريري كتبنا مؤكدين أن لبنان باتت"في مهب الريح"وأن القوى المعادية للبنان ستتمكن من الإمساك بتلابيب هذا البلد وتتخذ منه تكأة ونقطة انطلاق نحو تنفيذ مخططها الموضوع منذ فترة، وأن هذا المخطط لن يكتفي بفك هذا التحالف وسيعمل على تحويل المنطقة كلها إلى كيانات طائفية لتسهيل هيمنة إسرائيل عليها. واليوم بعد صدور تقرير ميليس، ها هي القوى المعادية نفسها تشرع في تهيئة المسرح الإقليمي والدولي للقبض على النظام السوري تمهيدًا للدفع به نحو المقصلة, في خطوة أخرى تقربها من تحقيق الهدف المرسوم. فماذا سيفعل العرب؟ العرب هم، كالعادة، منقسمون. فريق منهم يتبنى موقف ميليس ولا يستبعد احتمال تورط أجهزة الأمن السورية، اعتقاداً منه بأن هذه الأجهزة ربما تكون بنت حساباتها على معلومات تؤكد تعاون الحريري مع فرنساوالولاياتالمتحدة وضلوعه في المشاورات التي أفضت إلى استصدار القرار 1559، وهو القرار الذي ألحق ضررا فعلياً ومؤكداً بالمصالح القومية العليا لكل من سورية ولبنان. ولأن الأجهزة الأمنية في النظم المستبدة ليست دائماً بالضرورة واعية سياسياً بما يدور حولها على الصعيدين العالمي والإقليمي, فعادة ما تستسهل استخدام العنف والتصفية الجسدية وسيلة لإدارة الأزمات. ولأن هذه الجريمة لم تكن الأولى, تصورت أنها ستمر من دون عقاب شأنها في ذلك شأن جرائم أخرى كثيرة مماثلة تعذر الكشف عن مرتكبيها أو أغمض المجتمع الدولي عينيه عن ملاحقتهم. أما الفريق الآخر، فاستبعد أي احتمال لتورط النظام السوري, من منطلق أن سورية هي المتضرر الأول من اغتيال رفيق الحريري, وتصور أن غباء الأجهزة الأمنية لا يمكن أن يصل إلى هذا الحد, خصوصاً أنه من المستبعد أن تتصرف من وراء ظهر القيادة السياسية ومن دون علمها في قضية على هذا القدر من الخطورة. وأياً كانت وجاهة الحجج التي يطرحها هذا الفريق أو ذاك، فما أخشاه هو أن تتكرر عملية خلط الأوراق، على نحو ما حدث إبان الإدارة العربية للأزمة العراقية. فتحفظات البعض على النظام السوري، من منطلق كراهيته المتأصلة للنظم الشمولية عموماً، والقلق المبرر مما قد يلحقه سلوك متعسف وحسابات خاطئة من ضرر بالمصالح الوطنية والقومية العليا، قد ينتهي به إلى التضحية بسورية وتقديم رقبة شعبها هدية مجانية لإسرائيل والولاياتالمتحدة, بدعوى التخلص من نظام مستبد وفاسد. ولأنه ليس في وسع أحد في ظل الظروف التي تمر بها المنطقة والعالم حالياً أن يضمن ديموقراطية - أو حتى وطنية - ما بعد النظام السوري الحالي، فإن قواعد العدل والإنصاف تقتضي عدم التضحية بالنظام الحالي من أجل نظام محتمل غالب الظن أنه سيكون عميلا، وربما أكثر استبدادية. أي أن هذا الفريق يرى أنه من الأفضل، عند إدارتنا للأزمة الراهنة، أن نتعامل مع النظام الحالي، أياً كانت تحفظاتنا عليه وإدانتنا لما ارتكبه من أخطاء اعترف هو نفسه ببعضها، ليس فقط لأنه قد يكون أقل سوء من النظام الذي قد يأتي بعده على أسنة الرماح الأميركية، ولكن أيضاً لأهمية دوره في دعم قوى الصمود في وجه مشروع الهيمنة الصهيوني على المنطقة. وفي تقديري أن الإدارة الرشيدة للأزمة تتطلب توافر شرطين لا يستقيم أحدهما من دون الآخر, ويصعب في غياب أي منهما مواجهة تحديات المرحلة المقبلة وإنقاذ سورية والمشرق العربي برمته من المصير الذي يتهدد الجميع: الشرط الأول، يخص النظام السوري. إذ يتعين على هذا النظام فهم واستيعاب حقيقة ما يجري على الصعيدين العالمي والإقليمي في تلك المرحلة الدقيقة والبالغة الحساسية، والتعاطي مع ما تفرضه من متغيرات بطريقة تختلف عن أسلوب العنتريات الذي ثبت عقمه وإفلاسه، واستبدال ذلك الأسلوب التقليدي بأساليب أخرى تخاطب العقل بدلا من إثارة المشاعر. ولذلك نأمل بأن يتمكن من حشد وتوظيف كل ما لديه من موارد وإمكانات لإثبات عدم تورطه في هذه الجريمة النكراء. وبوسعه أن يقوم بهذه المهمة بإحدى طريقتين, الأولى: إذا ما تمكن من كشف الفاعلين الحقيقيين, والثانية: إذا استطاع تقويض الأسس والفرضيات التي بنى عليها ميليس استنتاجاته، وذلك بوسائل كثيرة قد يكون بينها إثبات عدم صحة المعلومات التي وردت في تقريره. إذ جاء في هذا التقرير، على سبيل المثال، أن المعلومات التي تضمنتها رسالة فاروق الشرع حول ما دار في لقاء الرئيس بشار الأسد مع الشهيد رفيق الحريري غير صحيحة. واستنتج ميليس من هذه الواقعة أن النظام السوري يتعمد تضليل العدالة. وبوسع القيادة السورية أن تقوض هذا الادعاء وهدم مصداقية تقرير ميليس من أساسه بنشر المحضر الرسمي للقاء. وهناك أمثلة أخرى كثيرة مشابهة. وفي هذا السياق، يمكن القول أن قرار سورية تشكيل لجنة خاصة للتحقيق مع المدنيين والعسكريين المشتبه بهم وتنظيم التعاون مع لجنة ميليس هو قرار حكيم وواع ويتفق مع المنهج العقلاني الذي نطالب به, على رغم أنه جاء متأخراً بعض الشيء. الشرط الثاني, يخص العالم العربي. إذ يتعين على العرب أن يتفقوا على موقف قوي موحد مساند لسورية يقوم على: 1- رفض الحديث عن، أو التجاوب مع، أي إجراءات تحفظية أو عقابية أو انتقامية ضد سورية، شعباً وقيادة، إلا بعد الانتهاء تمامًا من التحقيقات وثبوت الاتهامات، من خلال المحاكمة، بشكل قاطع غير قابل للتأويل. 2- حصر القضية في جريمة اغتيال الحريري فقط، ومحاكمة المشتبه في تورطهم أمام محكمة تتفق مع صحيح القانون الدولي وتكون فوق مستوى الشبهات. 3- معاقبة من يثبت تورطه بشكل شخصي. كما يتعين على العالم العربي أن يعي ويؤمن بأن موقفه الموحد هذا لا يستهدف حماية النظام السوري بقدر ما يستهدف حماية العالم العربي وإنقاذ مصيره ومستقبله المهدد بالتفتيت. ومن البديهي أن مثل هذه الإدارة الرشيدة للأزمة الراهنة تقوم على افتراض أن القيادة السورية بريئة تماماً من أي صلة لها بهذه الجريمة النكراء. أما إذا كانت متورطة، وهو ما نستبعده تماماً، فسيتعذر توافر الشروط اللازمة لإدارة رشيدة للأزمة. وعلينا على أي حال ألا نستبق الأحداث, فلكل حادث حديث. ما نود أن نؤكد عليه هنا أنه لا يجوز لأي طرف عربي أن يتعلل بالشرعية الدولية, في حال صدور قرار قاس من مجلس الأمن, ليبرر تقاعسه عن مناصرة سورية. ويتعين على الذين يريدون التخفي وراء الشرعية الدولية أن يطالبوا بتطبيقها كاملة في كل مكان, بما في ذلك فلسطين إن كانوا ما زالوا حريصين على قدر ولو ضئيل من الصدقية! * كاتب مصري.