ما جرى خلال الساعات والأيام التي أعقبت اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري، كان"الجولة الأولى"من الانتخابات في محافظة بيروت. علماً بأن مشروع قانون الانتخاب لم يتم التفاهم حوله بعد وهو القانون الذي جرت على أساسه الانتخابات النيابية اللبنانية في العام 1960 والدورات التي أعقبت هذا التاريخ حتى بداية"مرحلة اتفاق الطائف". وفيما كان الاشتباك السياسي على أشده حول تقسيم أو عدم تقسيم العاصمة بيروت قالت الحشود الشعبية الكبيرة التي شاركت في تشييع رفيق الحريري إلى مثواه الأخير كلمتها بوضوح حيال الرجل الذي وهبته العاصمة اللبنانية التأييد الكاسح، مقابل دعمه المطلق لبيروت وأهلها. وتحول ضريح رفيق الحريري في ساحة جامع محمد الأمين إلى مزار يَحُج إليه كثير من اللبنانيين ينتمون إلى مختلف شرائح وأطياف التركيبة اللبنانية، فكان اغتياله بالطريقة البشعة أكبر عملية انتخاب وأوسع أسلوب الاستفتاء الشعبي تجاوز الإقبال عليها جميع الفرضيات المئوية التي كانت في سوق التداول الانتخابي قبل يوم الرابع عشر من فبراير شباط الحالي. وحلّ بذلك"ربيع بيروت"مبكراً على غير عادته حافلاً بفظاعة وفداحة بسبب إعصار أعدته"الأيادي الخفية والمجهولة حتى كتابة هذه السطور. ولا ندري ما إذا كنا ذات يوم سنعرف حقيقة تدمير موكب رفيق الحريري من أمام فندق السان جورج، أم سنحصل على نفس النتائج كما جرت العادة على طريقة: قبض على القتيل وفرّ القاتل أو القتلة إلى مكان مجهول؟ وكثيرة هي الاتهامات التي أُطلقت في الأوساط اللبنانية منذ عملية الاغتيال وفي غالبيتها تقوم على فرضيات معينة غير مسندة إلى وقائع واضحة، لذا فلن ندخل باب التكهنات العشوائية. علماً أن الاتهام"الطبيعي"! وُجه إلى السلطة المسؤولة عن أمن الوطن وإلى سلطة الوصاية السورية. باعتبار أن شراكة المسار والمصير بين لبنان وسورية تُحمل هذه الجهات المسؤولية المعنوية من جانب الحماية. لذا فإن أي اتهام يطلق أو يوجه ولا يستند إلى قرائن حسية يدخل في باب الغضب والانفعال وهذا حق من حقوق اللبنانيين. ولكن باسم الحق العام ولمصلحة السلطة اللبنانية والسلطات السورية التوغل في عمق التحقيق لمعرفة الجناة والكشف عن الجهة أو الجهات الفاعلة، ليس احتراماً لروح رفيق الحريري وهذا حق وواجب، بل حرصاً على كرامة كل لبنان بالدرجة الأولى. لأن المستهدف في هذا التفجير المروّع ليس فقط رئيس الوزراء السابق بل لبنان التركيبة والصيغة وتعطيل حرية الناخبين عن قول كلمتهم في الانتخابات الآتية ما لم يطرأ ما ليس في الحسبان ويدعو لسبب أو لآخر إلى تأجيل إجراء هذه الانتخابات. على أن عنصراً من عناصر عملية الاغتيال ترك فئات الشعب اللبناني على اختلاف طوائفه الروحية والسياسية تشتبك في ما بينها حول الجهة الفاعلة ليعود الوضع الداخلي اللبناني إلى حالة من الارتباك والإحباط تضاف إلى مجموعة من التداعيات التي سيخلفها اغتيال رفيق الحريري على الصعيد الخارجي خاصة وأن لبنان هو الآن تحت المجهر الدولي. والخوف الأكبر يبرز في بعض المؤشرات والقرائن وبدا ذلك واضحاً مع مسارعة فرنساوالولاياتالمتحدة وأطراف دولية أخرى للمطالبة بإجراء تحقيق دولي لكشف ملابسات حادث الاغتيال. ومثل هذا الطلب يعني بالدرجة الأولى الطعن بصدقية السلطات اللبنانية واتهامها بعدم القدرة أو بعدم الرغبة في الكشف عن المرتكبين. وسوف تتزايد هذه الضغوط على لبنان في الأيام والأسابيع المقبلة إذا لم تتمكن الجهات المعنية في لبنان في تزويد المجتمع الدولي بنتائج التحقيقات التي ستتوصل إليها. وبذلك يتم تدريجياً تدويل حادثة الاغتيال ويمكن عندها أن تحدث عملية تسلل للتدخل الدولي في الشؤون اللبنانية تحت مظلة قرار مجلس الأمن الشهير 1559 رغم الجهود التي كان يبذلها ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي عنان وهو تيري رود لارسن الذي قال لدى خروجه من اجتماع عاصف مع الرئيس جاك شيراك:"ان الوضع بالغ الخطورة، ومطلوب من جميع الأطراف المعنية بذل الكثير من الجهود لتفادي المفاجآت غير السارة". وهنا يبرز السؤال المحوري الكبير: هل المقصود باغتيال رفيق الحريري إعطاء ذريعة"مباشرة"لتطبيق القرار 1559 أو لاستعجال البدء بتطبيقه واعتماد ما حدث كذريعة واضحة لمثل هذا التدخل؟ ولكَم كان المشهد العام مثيراً للدهشة العفوية ونحن نرى كيف أن الموت يوحد ما بين اللبنانيين. وكيف أن الحياة تفرق في ما بينهم. فالحشود التي زارت ضريح الحريري كانت تمثل لبنان بشتى شرائحه وأطيافه، وامتزج الكل بالكل ومن ذلك قرع أجراس الكنائس من انطلاق الآيات القرآنية من مكبرات المساجد. ويبقى التنبه إلى أن تداعيات واقعة الاغتيال لا تنطوي على خطر واحد عندما نعلم أن المستهدف من تغييب الرئيس الحريري عن المسرح السياسي في لبنان يرمي إلى أبعد من ذلك وإلى ما هو أكثر خطراً منه. ومن هذا المنطلق فإن جميع اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم وقناعاتهم السياسية مطالبون بممارسة أرفع درجات الحذر والتيقظ في هذه الآونة بالذات لأن اغتيال الحريري هو البداية وليس النهاية ! في المسلسل اللبناني الطويل. لقد أستُقيل رفيق الحريري من رئاسة الحكومة، ليغتال بهذا الشكل المفجع وفي قلب بيروت التي عمل كثيراً على إعادة بنائها. ويبقى انتظار أن نصحو على مفاجأة جديدة تُعد في الخفاء وفي العلن ضد الوطن الصغير ومشاكله الكثيرة. ولعل ما سبق ما يمكن قوله حتى الآن عن"الحالة اللبنانية"بعد اغتيال رفيق الحريري. لكن ما يجب أن نتذكره أيضاً هو كيف كان عليه الحال في الوطن قبل أحداث يوم الاثنين الأسود ؟ لكن الأجواء السياسية والنفسية حافلة بالسكوت. فتحت عنوان:"عيب ! مستوى هذا السجال". رسمنا الصورة المهينة والمقززة للوطن كما يأتي: إن لغة التخاطب السائدة بين كافة الأطراف المعنية بالأزمة القائمة في لبنان تحتاج إلى تغيير جذري. هي تحتاج أولاً إلى الحد الأدنى من التهذيب العام، وعلى الارتقاء بلغة الكلام الحواري إلى مستوى أرفع وليس التباري باستخدام أقسى العبارات وأكثرها بُعداً عن الذوق العام وأقل ما يمكن أن يقال فيها أنها لا تليق برجال دولة حاليون وسابقون ولاحقون ربما! وهذا ما يحدث عندما تنفجر لغة الغرائز على غاربها وحين تستخدم هذه اللغة بلا ضوابط في كل كلام عادي أو اعتراضي حيث تضيع كوابح التعاطي الحضاري. إن استعمال الكلام الناري الخارج عن أدب الحوار العام ليس ببطولة ولا بشجاعة سياسية إضافية ولا تضيف إلى منطق صاحب قوة على قوة. ولبنان الذي يتباهى دائماً بأن الأبجدية خرجت من شواطئه إلى العالم بأسره لتنير علماً وثقافة، من غير المسموح لزعمائه أن يبلغوا هذا المستوى المتدني والهابط من سوقية التعاطي مع الآخرين من أي مصدر كان أتى هذا الكلام المنفر والمقزز والمثير للكآبة والحسرة، ولأي مصدر كان موجهاً إليه بموجب هذا التراشق المُهين! أين ذهب بعض الأمثلة الرائدة؟ مثلاً كالقول: أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية؟ إن المناخ العام المخيم على لبنان خاصة في هذه الأيام يحفل بالتلوث. والتلوث ينتشر بسرعة ليعم الأجواء والفضاءات المفتوحة وحتى الفضائيات ناهيك عن الأرضيات. وبالإضافة إلى ذلك هنالك اضطراب خطير في أسلوب التخاطب بالشكل الديبلوماسي الذي كانت تسير فيه وعليه الأمور. فبدلاً من اعتماد أسلوب التعاطي الديبلوماسي الراقي دخل الآن السجال بين هذه المرجعيات وأصبح مادة للفضائيات التي تخشى أن تحرمها المادة 68 من قانون الانتخاب الحالي من ممارسة هواية مشاهدة المباريات السياسية البشرية على شاشاتها إذا لم يتم التفاهم على تعديل هذه المادة لتسمح بالعمل إعلامياً وإعلانياً في الموسم الانتخابي الآتي... ما لم يحدث ما ليس في الحسبان. والسيد ساترفيلد الجالس سعيداً في واشنطن من آخر الأمثلة وقد لا يكون آخرها. ففي رده التلفزيوني المباشر على مواقف لرئيس الجمهورية اميل لحود، اضطر الأمر إعداد بيان تصويباً لبعض الأمور، فجاء على لسان الرئيس لحود عبر البيان الرئاسي:"بالاستناد إلى الموقف اللبناني الثابت فإنه لا يحق للسيد ساترفيلد إقحام نفسه في الشؤون الجاري مناقشتها بين اللبنانيين... كما لا يحق له أن يتعاطى فيها متبنياً طروحات فريق ضد فريق آخر لا سيما وأنه ممثل لدولة عظمى محترمة تنادي بعدم التدخل في شؤون الآخرين". وانتقل الرئيس لحود للدفاع عن مواقف خاصة به عندما قال في بيان الرئاسة..."لا يحق للسيد ساترفيلد تقييم موقف رئاسة الجمهورية اللبنانية لجهة الطريقة التي يرى فيها الحكم اللبناني مصلحة لبنان وأمنه واستقراره أو أن يتهم رئاسة الجمهورية بالتشكيك في قدرة الجيش اللبناني خصوصاً أن السيد ساترفيلد يعرف تمام المعرفة عندما كان سفيراً في لبنان بأن الجيش اللبناني الذي أعاد بنائه الرئيس لحود أنما أمكنه ذلك بفضل دعم سورية يوم تقاعست معظم الدول عن ذلك ويوم لم تسمح سفارة السيد ساترفيلد لهذا الجيش سوى ببيعه وسائل نقل جوية وبرية غير مسلحة وألبسة وتجهيزات غير قتالية بما منعه من الحصول على رشاشات متوسطة مثلاً بحجة عدم تعريض إسرائيل للخطر". هذه وقائع بالغة الخطورة وليس في دائرة السجال للمزايدة بل لتصويب الاتهامات الواردة من المكتب الوثير الذي يجلس عليه ساترفيلد ولو إلى حين قبل أن تبلغه حركة التنقلات الجديدة في الخارجية الأميركية والتي قضت بتعيين السفير الأميركي وولش في القاهرة مساعداً للوزيرة كوندوليزا رايس، كما تم الاتفاق على تعيين اثنين من آل بيريز لا يتقاربان عائلياً لمعاونة وزيرة الخارجية الأميركية في درها الجديد. وهنا ليسمح لنا بفتح مزدوجين للقول للسيد ساترفيلد: لو أن بلاده الولاياتالمتحدة أبدت بعضاً من الحماس الذي تبديه لتطبيق القرار 1559 موضع كل هذا النزاع القائم، بالنسبة لبعض القرارات الأخرى ذات الصلة بلبنان وبالمنطقة لوجد أن الوضع العام في لبنان وفي المنطقة لم يكن بحاجة لبلوغ هذا المأزق ولآمكن حل قرارات عديدة ذات صلة، ولم تكن الضرورة ولا التطورات ولا المناقشات تستدعي استصدار مثل هذا القرار. وعودة إلى أسلوب التعاطي اللبناني اللبناني مع القضايا المستجدة نقولها بالفم الملآن: لنخجل من أنفسنا جميعاً قبل كل شيئ. ولنعتذر للأجيال الطالعة عما أسأنا إليها من استخدام عبارات تخدش الحياءَ الوطني من قاموس هجين ساد لبنان بعد كل ما شهده من حروب ونزاعات، وليس هذا النوع من الحوار والإسفاف إلا استحضاراً لتلك الفترة القاتلة التي افترست الوطن والمواطنين... وها هي اليوم تتركهم من جديد عرضة لتاريخ مشؤوم يحاول أن يحوم محلقاً فوق التجمعات اللبنانية من"بريستولها"إلى"عين التينة"فيها... والآتي يبقى أعظم. عيب! مستوى هذا السجال وهذا التعاطي في شؤون الوطن المصيرية. وبعد كل ما حدث وما يمكن أن يحدث: أليس هناك أي احترام لرجالات لبنان حتى ولو بعد مماتهم؟ كاتب لبناني.