تحت عنوان"ليأخذنا على قدّ عقلنا ويكشف لنا وثائقه السرية وخندق قتاله"كتب من سمى نفسه شاهر سعيد، وادعى انه في جدة، مقالاً قصيراً نشر في بريد القراء في"الحياة"الأربعاء 2005/1/19، هاجمني فيه، ووصف عرفات بصفات أدنته من الملائكة. في البداية أقول انني لا أستطيع أن أحقق طلبه بأن آخذه على قدّ عقله...، والأخرى هي حكاية وثائقي السرية التي يطالبني بالكشف عنها. الحقائق الصارخة يا شاهر ماثلة أمام كل ذي عينين، لا يختلف عليها اثنان، ولا يتناطح فيها عنوان. لقد أهدى عرفات 87 في المئة من أرض فلسطين الى اسرائيل، وفرّط بالقدس، وباع اللاجئين، وشرّد من كان من الفلسطينيين في الكويت الى أقاصي الأرض، والى أبد الآبدين، وسكت عن انتشار المستوطنات في الضفة والقطاع، وعن الجدار العازل، وأغرق سلطته في الفساد الهائل، فهل يحتاج هذا ونحوه الى وثائق سرية تطالبني بالكشف عنها؟ إن أماديح المذكور في عرفات لا تعدو أن تكون مجرّد هرطقات وخزعبلات لا قيمة لها، وهي تعيد الى الذاكرة المصطلحات المتاهفتة التي انتشرت في الحياة السياسية الراديكالية العربية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. ففي العقود الماضية رفعوا عبدالناصر، صاحب الظافر والقاهر وأقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط، الى السماء فهوى بنا الى الأرض، وكانت النتيجة هزيمة 1967 النكراء التي سمّوها زوراً وبهتاناً النكسة، وهي الهزيمة التي لا نزال، نسبح في أوحالها حتى الآن. وفعلوا مثل ذلك مع صدام، فكان ان أشعل الحروب العبثية، وأهلك الحرث والنسل، ودمّر العباد وقتل العباد وأتى بالاحتلال على أنقاض الاستقلال. وها هم يحيطون عرفات بالهالات الزائفة على رغم ما أوصل الشعب الفلسطيني اليه من المصائب والويلات. أما تهجير الفلسطينيين التدريجي بصورة غير مباشرة الذي بدأت اسرائيل في تنفيذه فعلاً فهو أمر واقع لا يستطيع أحد انكاره، مهما كان مغالطاً، ففي المهاجر البعيدة والقريبة حالياً ملايين من اللاجئين يتزايدون يوماً بعد يوم، ويشكّلون حوالى 70 في المئة. من أهل فلسطين الأصليين، وهم - كما هو واضح - أكثر عدداً من الذين لا يزالون يعيشون في الضفة والقطاع. والفريقان - باستثناء المنتفعين - لهم رأي شنيع في الزعيم المزعوم. يا شاهر، أنت يا بنيّ صغير السن لا تعرف إلا الحقائق القريبة، وغابت عنك أشياء، أما أنا فصديق عرفات منذ 1946، حين كنت أنت في عالم الغيب لم تولد بعد. ولم يكن عرفات يحضر للرياض إلا ويقضي معي، وفي بيتي الساعاتالطويلة في أحاديث متنوعة، الى ان انقطعت الصلة بيننا نهائياً في 1964، بعد أن سرق حركة"فتح"من مؤسسيها الحقيقيين. ولمزيد من الايضاح احيلك الى كتابي"عرفات وسلطته بلا رتوش"، الذي صدر قبل موته بسبعة شهور، لكي تعرف الحقائق التي تجهلها، وقد تحديته ليكذّب ما فيه أكثر من مرة ولكنه لم يفعل. أما خندق قتالي الذي تطالبني بالكشف عنه، فهو اسمي وعنواني ومهنتي فحسب، وكل ذلك واضح تماماً. والمطلوب منك أن تذكر للقراء اسمك الحقيقي، وعنوانك الصحيح ومهنتك بدقة، وكذلك خندقك النضالي الذي تقاتل منه العدو، وأنت الذي تقيم على بُعد كبير من فلسطين سواء كنت في جدة، أو في غيرها من المدن. فهذا هو أدنى مراتب الشجاعة. أما كلامك الساخر اني"لو كنت مناضلاً"، فلا بد من أن أكون قد نلت شرف الشهادة من زمن أو أصبت على الأقل في إحدى المعارك، فكلام يثير الضحك لأنك أنت مناضل باسل ولا تزال حياً لم تنل الشهادة وسليماً لا جرح فيك. وهذا الكلام يشبه تماماً"شهيداً شهيداً شهيداً"الذي وصف عرفات به نفسه، ثم مات ولكن ليس في المعركة العسكرية الطاحنه بينه وبين العدو في المقاطعة برام الله، بل في باريس، مع ان الشهادة كانت على بُعد أمتار من مقره لو أرادها صدقاً.... وأما تعريضك بأن مصدري هو أسعد الأسعد، عضو الكنيست عن الليكود، فينطبق عليه القول رمتني بدائها وانسلّت. وأنا أتحداك أن تذكر نائباً واحداً في الكنيست يحمل هذا الاسم. وكان علكي أن تحفظ الاسم جيداً قبل أن تكتبه - اللهم إلا اذا كنت تتعمد التحريف -، إنه أسعد مُرّة، درزي المذهب من عرب الأرض المحتلة 1948 . على أن تعريضاً من هذا لا قيمة له، ولا يستحق الاهتمام، ولم يعد يخيف أحداً، وهو من مخلفات العهود الغوغائية السابقة سرعان ما يتبخر ويذهب مع الريح. وبالمناسبة، أذكر المذكور بأن الناس لم ينسوا بعد لقاءات عرفات الحميمة مع باراك في الولاياتالمتحدة، وتقبيله يد"أختي ليئا"، أرملة رابين، شريكه في"سلام الشجعان"، وأداءه التحية لصورة زوجها في منزلها بتل أبيب، ومصافحته الحارة رابين وبيريز في حديقة البيت الأبيض أثناء توقيع اتفاق أوسلو. ثم ما رأي شاهر سعيد في زيارة السادات للكنيست وخطابه فيه؟ وفي مقابلة الشرع باراك في أميركا؟ وفي اشتراك جميع دول المواجهة في مؤتمر مدريد والجلوس وجهاً لوجه مع شامير الارهابي الكبير والتفاوض معه؟ وأخيراً في عضوية أحمد الطيبي، مستشار عرفات السابق وعزمي بشارة وغيرهما من النواب العرب في الكنيست، هل يُعدّ هؤلاء جميعاً خونة؟ إن كان شجاعاً فليخبرنا ماذا يكونون؟ والآن آن أوان القصص: 1 - في الكويت، 1961، بعد التحاق عرفات بحركة"فتح"بثلاث سنوات، وقبل اختطافه بقدرة قادر لها في 1964 بعد أن جرى تجميده لمدة ستة أشهر، ثم فصله نهائياً منها، حامت شكوك المؤسسين حوله، فقاموا بتفتيش شقته في غيابه، وصادروا منها جوازات عدة باسمه وعليها أختام لدول مختلفة! وصادروا أيضاً وثائق خطيرة. وقد تمت مساءلته عن كل ذلك في جلسة صاخبة أشبه ما تكون بالمحاكمة، أوشكت ان تودي به لولا أن جثا على ركبتيه متوسلاً بطريقة لا تليق بالشجعان. 2 - استدعى أمين الحافظ، رئيس الجمهورية السورية، في منتصف ليلة من ليالي الإجازة الصيفية واحداً من قدامى مؤسسي"فتح"من منزله، في إحدى ضواحي دمشق، فأُحضر الى القصر الجمهوري في حي المهاجرين. ووجد الرئيس في انتظاره، ولم يلبث ان بادره بقوله: إليك معلومات ومؤشرات تشير الى اتصال عرفات بالعدو، وأنا أقترح أن ألقي القبض عليه حالاً ثم أعلّقه على المشنقة في ساحة المرجة بدمشق ليصحو الناس في الصباح فيروا جثته معلقة. فردّ عليه بأنه لا يستطيع أن يقرر في الموضوع حتى يستشير زملاءه، وإن كان يرى ابتداء انه لا داعي للتسرّع في إعدامه، ولا مانع من الاكتفاء بسجنه، وهو ما حدث فعلاً ولأشهر عدة. 3 - كان عرفات على"صلة عمل"قبل انقلاب تموز يوليو في مصر بالقائمقام العقيد محمد يوسف، رئيس القلم المخصوص بوزارة الداخلية المصرية. ثم بعد الانقلاب، تحوّلت الصلة الى المقدم عبدالحميد الصغير مدير الشؤون العربية بالوزارة نفسها. والأخير هو الذي سهّل لعرفات التعاقد مع الكويت، والسفر اليها في تشرين الأول اكتوبر 1958، مع انه تخرّج لتوه بالتزكية من كلية الهندسة بجامعة القاهرة بعد عشر سنوات من دراسته فيها، وليست لديه أية خبرة عملية. 4 - كلف عرفات، أثناء عمله مهندساً في وزارة الأشغال الكويتية، بالاشراف على بناء احدى المدارس، وعند تسليم المبنى الى لجنة الاستلام في وزارة التربية، تمّ اكتشاف عيوب فنية جسيمة فيه سببها اختفاء كمية كبيرة من الاسمنت والحديد المقرر استعمالهما في البناء، وقد تم توقيف المهندس المشرف بأمر النيابة، وجرى التحقيق معه خلال التوقيف. ولو تمّ استلام المدرسة مع عيوبها لانهارت فجأة في يوم من الأيام على رؤوس الأطفال الأبرياء. 5 - استمر عرفات - باعتباره المجاهد الأكبر - يتقاضى راتبه الشهري الكبير وفوقه حبّة مسك من حكومة الكويت منذ تركه العمل هناك 1964، الى عام الغزو الصدامي للكويت، في 1990، فأوقف المرتّب وملحقاته بسبب موقفه المشين الى جانب صدام. أما حكاية ان عرفات هو رمز الوطنية كما ذكر الشاهر لسانه السعيد بمقاله فأنا أقول له ولأمثاله عكس ذلك تماماً. فاتصالات عرفات وحوارييه بالاسرائيليين قديمة جداً، ومعروفة عن طريق تشاوشيسكو في بوخارست، وكرايسكي في فيينا، ومع زعماء الجالية اليهودية في المغرب. هذه أطراف يسيرة جداً من تاريخ ما أهمله التاريخ، وإذا أحب المذكور أن يستمر في المعركة، وهو ما أتمناه، فعلى الرحب والسعة. وسيسمع عندئذ ما يدهشه ويذهله. الرياض - د. عبدالكريم محمد الأسعد أستاذ سابق في جامعتها